الاثنين ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم سحر حسن أبو ليل

في ليلة السبت

في ليلة السبت يغافلني القمر ويختبئ تحت لحاف نجومه كما لو كان قد تزوجهم في الخفاء وآثر ان يقضي ليلته بعيداً عني وعن نار جنوني كما اعتاد ان يفعل في نهاية كل اسبوع..

في ليلة السبت يصير لوقع الإبرة في البيت رنين مميز فمعظم الجيران غير متواجدين في فراش احلامهم اللؤلؤية، وفي هذه الليلة بالتحديد احمل كوب قهوتي التي أُصرُّ على شربها دوماً مع الهال وبدون سكر فهي لن تكون أمرَّ من الشعور بالتمزق ورحيل الهوية في هذه المدينة الكبيرة الواسعة والتي ستتعثر بكل خطوة فيها بأجناس مختلفة من البشر ويصير لصداقتك مع احدهم قيمة كبرى خاصة اذا ما كانت هذه هي العلاقة المقربة الوحيدة التي تمتلكها، فحين تسكن صدفة في مدينة يهودية تنام على كتف يافا البهية ستحس آجلاً ام عاجلاً بانفصام حتمي في الشخصية كما أحسُّ في كثير من الأحيان، فأنت العربي الفلسطيني عاشق رائحة الزعتر وشارب نبيذ القاسم والدرويش وناطق الضاد حتى لو دسستَ بينها عشرات الكلمات العبرية والانجليزية الأخرى تجد نفسك ضائعاً في دوامة اختيار تصرفاتك وحركاتك وحتى احرف كلامك المتقطع في كل موقف تواجهه حتى لو كان تافهاً، بل وأكثر من ذلك، فكيف سيكون شعورك حين ترى بأم عينك بأن المدينة قد امتلأت عمالاً أجانب «هعوفديم هزريم» ليسرقوا قوت أهلنا وأجدادنا، وكيف ستشعر حين تجلس في الحافلة وترى عيون جميع الراكبين تحدق بك من رأسك حتى اخمص قدميك وأنت تتحدث العربية خلال إحدى مكالماتك في هاتفك المحمول ؟وكأنك كائن فضائي هبطت على الأرض فجأة ويجب نسفك تماماً رغم انك قد تكون جالساً لجوار روسي ما يثرثر بالروسية الثقيلة او العبرية المكسرة وكأنه من المفهوم ضمناً ان مكانه محفوظ هنا،أما انت؟! فلا ذنب لك سوى انك من عرب "48"!

فكم بالحري لو كنتِ شابة عربية وجئت من القرية الصغيرة التي كان يحشر كل واحد فيها انفه بأمور الآخر بحقٍ وبغير حق، وقد أتيت إلى هذه المدينة الكبيرة التي لا ينظر فيها حتى الأخ إلى اخيه والتي تجمع بين اليهود وا لروسيين والإثيوبيين والعديد من الجنسيات الأخرى، فتستأجري شقةً في احدى البنايات الضخمة العالية والتي تجمع بين كل هؤلاء جميعاً!

في ليلة السبت احبس دموعي في خزانة البيت، ألبس اجمل فساتيني، ألون شفاهي العطشى للابتسام بأحمر الشفاه الوردي متيمنةً بالخير كلونه الفاتح، أضع حزمة اوراق بيضاء وقلمين من الحبر الأسود في حقيبتي وأستأذن جارتي الاثيوبية بقطف زهرةٍ بيضاء من أصيصها الذي ملأته توليباً امام باب البيت، وعندها اتورط ورطتي الكبرى فتترك توضيب البيت وتبدأ بسرد ديباجتها المعتادة علي من لحظة قدومها الى البلاد، الى فصول العنصرية ضدها وضد اولادها، وحتى الى آخر موقفٍ واجهته صباح اليوم مع صاحب الشقة الذي هددها بالطرد إن لم تدفع الأجرة خلال يومين، خاصةً انه نوّه مراراً بأنه يفضل ان يصير معظم سكان العمارة من القادمين من بلاد الثلج والصقيع «هعوليم هحدشيم»!

ومع كل هذا أقفُ امام مرآة بيتها محاولةً وضع الزهرة على شعري، مقدرةً لألمها ولا مبالية في الوقت ذاته،فإذا كانت هي قد جاءت إلى البلاد بتصريح من الدولة العبرية قبل سنتين او ثلاثة وتشعر بكل هذه المرارة فكيف سأصف لها مرارة التمييز ضدنا ونحن مواطني هذه البلاد منذ اكثر من ستين عاماً وولدنا فيها قبل قدومها وقبل أبيها وجد جدها الذي لم يولد هنا اصلاً، وهل ستقدر هذا الألم دون ان تحترق بنار حرائقنا نحن؟ لا أظن ذلك (رغم كل طيبتها)!

أواسيها ببعض الكلمات، أحمل كوب قهوتي وأسير متجهةً الى شاطئ البحر الذي لا يبعد كثيراً عن بيتي، هاربةً من كل همومي الماضية والحاضرة ومتمايلة على أنغام ال"أم بي 4" والذي اهتم بأن انقل اليه من حاسوبي الخاص كل اغاني أم كلثوم وكاظم الساهر و«الويست لايف» و«الفرانك سيناترا»،فكل هؤلاء سر عشقي الكبير للحياة ولولاهم ما هان علي لا ليلٌ ولا نهار، وأزج نفسي في الزحام لأسير غريبةً في موكب الغرباء.

أسير في الطرقات مشوشة الشعور فتارةً يذبحني الحزن من الوريد إلى الوريد وتارةً أحس براحةٍ لا تضاهى تنبع من عدم معرفتي لأي أحد هنا، فحتى لو مشيت على رأسي لن يأبه احد بذلك هنا، ولن أتعرض لأي مسائلةٍ اجتماعية بلهاء!

«ولعل ما يعطي السفر او البعد قيمة ما، هو ذاك الخوف نفسه حيث يتحطم في داخلنا بعض من كياننا، فالسفر ينتزع منا ذاك الملجأ الأخير عندما نكون بعيدين عن ذوينا ولغتنا وقد اقتلعنا من دواعمنا وعندها نصبح على سطح ذاتنا بكليتنا».

في ليلة السبت أقفل هاتفي المحمول وأفتح الباب لشيطاني الملهم فلعله يزورني اليوم ويوقظ في داخلي كل عواصف أنايَ المؤجلة! فأسير فاتحة ذراعي للريح جاهزةً لسماع طبول النبض الحائرة وراضية بما اقترفت من جرائم جنونية بحق نفسي خائفةً من المجهول الآتي!

والغريب في الأمر ان المشاهد هي نفسها تتكرر كل اسبوع، فالشوارع تمتلأ بكل اجناس البشر ومعظمهم من الكبار في السن برفقة الكلاب والقطط، وهل تراه الانسان لا يحس بقيمة الطبيعة والحيوان الا بعد ان يتمزق من جروح البشر وغدرهم؟ فيمضي حياته بجري مستمر خلف المال والأعمال ليحس فجأة ان العمر قد مضى وأن عليه ان يستمتع ببهاء الطبيعة والأرض قبل ان يهاجمه ملاك الموت فجأة؟

لا ادري.. لا ادري، فليس ملاك الموت من يؤرقني في ليلة السبت وإنما وحده سؤال يقلقني.. من انا في هذه المدينة الكبيرة؟ من انا بحق السماء؟
 
 
 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى