لا زال الحلم على قيد الحياة
يتفاجىء النبض من روحي الآن!
يخاف اللحاق بآخر وهجٍ لحلمٍ بعيد... بعيد
وأتفاجىء من نفسي الآن..
فلا حصان امتطيه، لا حبل نجدةٍ ينقذني ولا حتى لحن قيثارةٍ ضائعٍ حزين!
لا احد يقرع باب البيت او يزورني بالصدفة ولا شيء يجرؤ على حمل لقب " صديق" سوى قلمٍ متعثر بحفنة آلام متبقية لتحيي شعلة حبرٍ جائع،ولا احد ينتظرني هنا.. الا انت، لا احد ينتظرني الا انت.
هنا في المنفى.. كل شيء قريبٍ بعيد، وكل عابر سبيل قد يكون مفتاحاً لباب قصةٍ قد تكتبك بدل ان تكتبها وان كتبتها ربما لن تنتهي..
هنا قد يمر قوس قزح الى جانبك ولا يراك، وستمضي سائراً في ضبابٍ لا ينقشع.. والطريق لا تنتهي..
هنا في المنفى.. لا احد يهديك السلام او يصافح يداك الا لهدفٍ او لمصلحةٍ في نفس يعقوب وأتباعه..هنا لا افكر بأي شيء محدد الا كيف انتظرك انت، وكيف اغازلك انت وكيف اعانق وجهك الطفولي بين ذراعي!
هنا، لا وقع لحديث الِسنديان عند عتبة بيتي الجديد، ولا باقةً سأهديها لقبر جدٍ قد ارتحل وغاب.. ولا طعم لزعترٍ مرتب في اكياس مزينة لا تقوى على حمل ذكرى لليلةٍ واحدة من ماض شعب ٍ اعتاد طعم الموت والدموع، وطقطقة الاقفال وفتحها في بوابة مكتبة جارنا اليهودي الجديد في الحي نسبيا بعد ان اشترى شقة اليافاوي المريض القابع في المشفى لا تعني للجيران شيئاً بل تعنيني انا وحدي فلا احد يعرف مثلي كيف سيباع التاريخ بكلمتين وجرة قلمٍ واحدة في كتبٍ رخيصة!
هنا في المنفى لن تسمع عن غزالٍ قد التقى بغزالةٍ صدفةً هكذا ولوجه الله، ولن تجد قطةً تشكوك امرها فحتى القطط صارت تدرك تماماً ان الاول من المارة سيمر ويعبس في وجهها والثاني سيسبها والثالث سيركلها كما يركل اي حجرٍ تائه في الطريق!
هنا.. لا يعرفون معنى رائحة البن الصباحية في فنجانٍ يضحك، ولا يشكرونك ان قدمتَ لهم طبقاً من طبخك العابق بطعم المحبة وملح التراث، بل سيرفضونك لأنك مختلف ومشكوكٌ في امرك، فأنت موجودٌ في الدرجة المليون تحت الصفر لثقةٍ ضاعت مذ سميتَ في الهوية عربياً ثم طبعَ على جبينك بالبنط العريض بأنك فلسطيني!
في هذا المنفى وان سقطت سهواً او تعباً او ارهاقاً في الشارع المجاور لبيتكَ فلا احد سيرثيك، او يناجيك او يأبه قليلاً سوى حمامتين عاشقتين، ولا احد سيقترب ليسألك ما بك سوى كلبٍ اضاع صاحبه، او ربما قد ملَّ صاحبه منه وألقاه على ناصية الشارع العام، واحمد ربك بأن بيتك قريب من هنا!
هنا وفي شمال تل ابيب لن تجد الآباء منشغلين باللهو مع اطفالهم، بل في صنع الضوضاء واللهاث خلف غيم الايام القادمة، وهم الحرب التالية، ولن تجد رائحة حقيقية لأي شيء فحتى النرجس ذابلٌ في يد بائعة الورد التشيكية، ولا تغريك رائحة الفلافل لدى "شلومي" فهي مزيفةٌ ايضاً ومأسرلةٌ حتى النخاع، ولا تنتمي لا لطعم خبزك ولا لحمص اجدادك!
هنا..يضيع معنى الوقت، لا قيمة للساعة التي تدق فوق الحائط الا كي توقظك لتذكرك بميعادك الصباحي في مكتبك الجميل ( او هكذا يبدو للعيان)،فلا شيء جميلٌ هنا حقاً.. حتى وان دخلتَ المكتب كعادتك صباحاً وألقيتَ التحية على زملائك فسيصموا آذانهم وكأنهم لم يسمعوك فقط أنك عربي، وكونك العربي الوحيد في شركة كبيرة كهذه لا يزيد الا الطين بلة خصوصا ً ان كنت متفوقاً علماً، نجاحاً وجمالاً ايضا، فاليهودي المتعصب لازال عالقاً بعقدة الفشل والخوف من نجاح الآخرين!
لا شيء جميلٌ هنا..
إلا فكتور، هذا الحارس الروسي الذي يؤمن بمحبة الشعوب، وبأن التبسم في وجه الغير صدقة، وهل نحن شعب ٌ عادت تنفنا الصدقات؟
هنا..
في منفاي الاختياري تصبح زيارتي العبثية في الحلم للأهل والاصدقاء ولرائحة الصنوبر في الكرمل جسراً خرافياً معلقاً بين وحش العزلة وأمل التفاؤل الذي لا بد منه!
فلا شيء يدق القلب اكثر من حزن الذكريات.
هنا او هناك او ما بينهما :
ما عادت تعنيني المسافات او السنوات المارة بغير سبب كقطارٍ في سكة الشرايين، فهنا لا معنى للانتظار، فماذا ستنتظر؟
أماً فرض عليك تركها دون تقبيل يديها؟ او والداً لا زال غاضباً من رائحة حبرك؟ ام جداً علمك الثورة ولن يعود؟ فالأموات لا يعودون حتى وان شئت ذلك!
ماذا تنتظر؟
حديثاً مع جاراً لا تعرف اسمه؟
أو فلةً لن تجدها على باب بيتك تناديك؟
أو عصفورةً ضلت سبيلها ووقفت على شباكك لتبشرك بأخبار الاصحاب؟
ماذا ستنتظر بالتحديد؟
قلباً مثقلاً من هم الاشواق سيتركك يوماً وأنت نائم؟
أم رصاصة غدرٍ طائشة لن تصيب احدا ً لكنها ربما ستصيبك وبالخطأ فقط لأنك العربي الوحيد الذي ستكون بين الجموع في الساحة العامة؟
هنا، لا جدوى من الانتظار وأنا لا اكره شيئاً بقدر كرهي للانتظار!
هنا:
لا احب شيئاً بقدر رنين ضحكتك، ولا اهوى الأشياء الا ان كانت جميلة في بحر عينيك، ولا اغف ان لم تغف انت بين ذراعي كطفلٍ صغير، وأنا اريدك طفلي الوحيد فلا احلم بأي امومة ولا اريد ابناءاً لهذا القهر، لا أريد تحميلهم هم هذه القضية التي لا تنتهي وبؤس هذا التمييز في بلدٍ سميت يوماً بتل الربيع ويكفيني انك طفلي، حبيبي وربيعي!
ولن اعدك بالزواج او عدم الإعجاب برجلٍ ما او شبحٍ من الماضي البعيد او المستقبل بل اعاهدك على الاخلاص حتى النبض الاخير في قصتنا!
هنا معك اختصر كل رجال الارض واختصر بك كل سنين العمر وما رحل وما قد يأتي، فلا احد اهداني دنياه ودنياي معاً وحمل قلبه في كفة واحدة ووهبني اياه بشغفٍ الا انت!
هنا..
لا احب التحدث بهمسٍ الا معك ولا احب سماع قصائد الدرويش الا معك، ولا أحب نغمة هاتفي الفرانكسيناترية الا لانها تحمل لي تغريدك الدائم، رغم كرهي الشديد لهذه التكنولوجيا!
هنا.. او هناك او في المسافة الفاصلة بين الحلم والحلم : لا اعشق عمري الا لانه معك!
ولماذا احبك؟ لا ادري.. لا ادري
ربما لأنك وحدك من منحني الحياة بعد موت محتم؟
ربما لأنك وحدك من تنام سنونوةٌ على راحة يده وتغفو دون خشيةٍ او وجل..
أو ربما لأنك من يمنحني الحب من كل قلبه هكذا وبكل بساطة!
ربما.. ربما..
أنا لا اعرف لماذا احبك حقاً؟
لكني احبك وأحب اصل البلاد فيك ورائحة البرتقال في قمصانك، واعشق التراب المعلق في طرف نعلك القادم من هناك، وأحب طعم الشفاه التي لا تعرف الغش او الكذب واحبك واحبك؟
هنا او هناك او في المسافة الفاصلة بين الحلم والحلم:
أعيش واعشق عمري بين يديك ولولا هذا المنفى لما عرفتُ انك ستكون اباً صالحاً لم احلم به قبل اليوم لأطفالٍ لن يأتوا ولولا هذا المنفى لما عرفت انك وطني، فالشكر للرب.. الشكر للرب، لا زال الوطن على قيد الحياة، لا زال الحلم على قيد الحياة..لا زال على قيد الحياة!