مناقيش يهودية!
استيقظ هذا الصباح على ظهر غيمةٍ سابحة، معتدلة المزاج كفراشة، انفض بقايا الحلم عن قلبي بتثاؤبٍ بريء وهادئ فالسماء تمطر اليوم فرحاً كتأملي البهيج والمؤجل بوطنٍ محرر!
نقرُ زخات المطر يرسم على النافذة لوحةً سريالية لا يكتمل رونقها سوى بإبريق شاي معطر بالنعناع والليمون، ورغم اني افضل رشف القهوة كل صباح على مهل كمن يرسم صورة لوجه فلاح فلسطيني فرِح بين كل رشفة وأخرى الا ان للنعناع في الشتاء لغة ودية لا افهمها ..
أحضّر الشاي، امسك بحزمةٍ من اوراقه الخضراء المنعشة، اشمه، اضمه كمن يبحث عن صدر امٍ مطرزٍٍ بالقصب ولا ادري لماذا تتسابق الى مخيلتي صور اجساد امهاتنا فهُم كساق النعناع تماماً والذي قد يصفر وتصيبه الحمى انما يبقى صامداً في تربته مهما حصل.
أجلس على الاريكة، ارتشف الشاي، أطالعُ الاخبار على عجل رغم محاولاتي المتواصلة بالامتناع عن ذلك، فمنذ سنين لم اسمع خبراً واحداً يفرحني ودوما باءت محاولاتي هذه بالفشل وابتسم حين يخيل لي بأنه حتى لو انهال العالم والسقف فوق رأسي لن اترك كوب الشاي بالنعناع «وليولع العالم بكاز»!
البشرة النضرة الهادئة، بقايا حلمٍ نائم في الجفون، خفقٌ منعشٌ في القلب هي علاقة غريبة تدفعني للعب بريشة الوان الماكياج المختلفة «هه هه طلع الصبح واستيقظت النساء لتمجد المرايا»، اقول كلماتي بمونولوج مشاكس، امجد ملامحي وأرتبها وانزل ادراجي مهرولةً الى حديقتي الصغيرة.
أروح وأجيء فوق التراب واغرق قدمي بالوحل قاصدةً تعميدها بقدسية المطر والتراب، أروض حماسي الشديد وأتأهب للذهاب الى عملي الذي بتٌّ امقته بشدة ليس كسلاً وإنما لغصةٍ في القلب تذبحني حينما ابتعد عن رائحة الورق والحبر والتراب واضطر للتعامل طوال النهار مع لوحة مفاتيح ديجتالية لا تحس ولا تشعر!
أعالج ألم القلب ببعض الموسيقى للثلاثي جبران في جهاز (الام بي 3) وارقص مغمضة العينين فاتحة ذراعي للمطر مترنحة كالسكارى فأتذكر رقصتي مع جدي عندما كنت في الخامسة فيقف تحت زيتونة البيت ويتركني اغني وارقص بسذاجةٍ تحت المطر فيخبأني تحت عباءته خوفاً علي من المرض.
«يرحمك الله يا جدي .. اه كم اشتاقك .. يا ليتك تعرف كم تحاصرني الجدران .. كم ألوب لأهرب الى صدرك من هذا الاختناق اليومي!»
يتناثر عقد دمعي وليس ضعفاً انما هو الحنين.. وحده الحنين ..
أحمل قلبي وحنيني واخرج الى معترك الحياة اليومية.. ويا للغرابة فالبشر يتزاحمون على كل شيء في هذه الدولة التي يصرون تسميتها بالعبرية، يتزاحمون على مكانهم في التاكسي، على دورهم في المخبز، على شبح سعادتهم الوهمي، حتى على لحظتهم الهاربة من هذا الكون، يا له من شعب يتنفس من رئتي ضغطه ووقته المسروق!
أدخل المخبز، انظر حولي، ابحث عن شيء لا اعرفه، لا شيء مغرٍ هنا، لا يوجد أي شيء استثنائي هنا فأقراص الخبز كلها كالوجوه الغاضبة ..
أسأل البائع عن خبزٍ يشبه وجه مناقيشنا المبتسمة وأحاول الشرح له قائلة : «هذا القرص المدور كالقمر في ليلة تمامه الا تعرفه؟ هذا المغمور بزيت زيتونٍ سرقتموه.. الا تعرفه؟ هذا المفروش بزعترٍ يعبق بدمع صبايانا وآهات جدي وجد ابي وأمي .. الا تعرفه؟ هذا الذي يناديني برائحته عن بعد عشرات الامتار .. هذا الذي يحرضني على ان ارفع اصبعي الاوسط امامك الان حالاً وفوراً فهل تفهم؟ ولكني لن افعل .. اتعلم لماذا ؟ لأن جدي أمرني بالشهامة امام عدوي والحفاظ على حياته إن صادفته خارج ساحة المعركة عكسك تماماً يا هذا»!
اخبىء جمرة مونولوجي في صدري وأتناول القرص بتعجب ..
– أهذه مناقيش؟ اسأله بعفوية بالغة..
– هذا ما لدينا وهذا ما صنعناه ..
يجيب بامتعاض شديد!
أحملق بالقرص، انظر اليه .. اتفحصه من كل الجهات .. اتحسس الزعتر المرشوش فلا اجد سوى بقايا النكبة هنا ..القرص غارقُ بدمعه، الطرق فوقه وعرة ومهدمة كمعظم البنى التحتية في وطني والزعتر ميتٌ وكأنما دبابة مرت من فوقه وطحنته..
صحت بأعلى صوتي .. ما هذا؟
نظر بائع الخبز الي والدم متجمدٌ في عروقه متسائلاً عن سبب صراخي ..
– أتسمي هذا مناقيش؟
– قلت لك هذا ما لدينا الا تفهمين؟
– هذا ليس خبزاً.. قل هذه نكسة.. هذه حرب.. هذه جنازة .. هذا مذبح..
حملق البائع بعيني وصوب نظرةً الي كالبندقية .. تناول الرغيف من يدي بقوة واوقع الهاتف الخليوي مني وحين سمع رنته حينما غردت فيروز بالعربية، رجع خطوة الى الوراء، ، نظر الي بقرف واشمئزاز .. نعتني بأبشع الصفات وأصر بأنه لا يبيع الخبز للعرب!
خرجتُ من المخبز غاضبةً وشعرتُ بالاختناق والدوار معاً.. ابتعدت عن المكان فاتحةً ذراعي للسماء مجدداً باحثة عن أي عصفور ..
لا شيء.. لا شيء.. حتى العصافير تهرب من بلادي!