الأربعاء ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
بقلم توفيق الشيخ حسين

قاع البلد

نكبة عام 1948 التي حلت بالشعب الفلسطيني كانت كارثة فادحة، وكان من نتائجها أغتصاب الأرض وتشريد الأهل عن أوطانهم ولجوؤهم الى الخيام ومعسكرات التشريد داخل الوطن وخارجه.

وفي عام 1967 حلت نكسة حزيران وفيها أستكمل العدو الصهيوني أحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة ومعظمهم نزحوا الى الأردن مما أدى الى خلق مأساة انسانية للشعب الفلسطيني وتشريده من أرضه.

تأثرت الثقافة بالأحداث الأساسية التي تتعرض لها الأوطان، مما أدى الى فرز رؤى جديدة ومتنوعة في التفاعل مع الواقع والمتغيرات، زلزال الهزيمة لاقى أجوبة في مجال الأدب والفن، فالكاتب الفلسطيني شاعرا ً أو روائيا ً أو قاصا ً بدأ يعيش مرحلة مفصلية في تقويم ابداعه وأمتلاكه لأدواته.

تأخذنا رواية "قاع البلد" للروائي صبحي فحماوي الى أحداث النكسة الفلسطينية عام 1967،وقد ظهرت نتائج ذلك الجرح وعمق المأساة ومدى الظلم والأضطهاد على المواطن الفلسطيني.

غلاف الرواية يمثل ثوب الجمال معانقا روح الثقافة، فالغلاف هو الصورة الأولى التي يراها القارئ للكتاب. فالعنوان ليس عملا ً أعتباطيا ً بقدر ما هو تجسيد لقصديـّة الروائي، وقد يكون الأسم يحوي دلالة أو رمزا ًكما يؤكد "فاروق مواسي":

"أنه يقدم اشعاعا ً أوليا ً للتأمل ويفتح أفاقا ً للحوار، ولا ندري بعد هذا كله كم يصبح القول ـ يقرأ الكتاب من عنوانه".

غلاف رواية "قاع البلد" تمثلت بلوحة تشكيلية ترمز للأصالة والتأريخ وهي عنوان الفن الهندسي والمعماري للأباء والأجداد، وقد أهدى صبحي فحماوي الرواية الى "أولئك الذين توالت عليهم النكبات فتاهوا في الصحراء مائة عام".

الزمن يحدد طبيعة الرواية وشكلها، فالزمن هو أساس مهم والتي تنبني عليه الرواية، والسرّد له علاقة وثيقة بالزمن ومنه يستمد أسباب وجوده وأهميته.

الروائي صبحي فحماوي جعل شخصيات الرواية "الهربيد عوض، طالب الطب سامي الناظر الأزهري، أبو جعفر الحداد، الحاج نايف الجبالي، الشيخ محسن لهلوب، العجوز أبو غليون، الخردواتي أبو سحبان " تتصرف من تلقاء نفسها وتفكر مستقلة من خلال سلوكها وأفكارها، فكل شخصية تقابلها تتماثل وتتقاطع مع الذاكرة في رحلة البحث عن الذات وعن لقمة العيش.

لقد رسم الفحماوي المكان في روايته "قاع البلد" بعفوية مقصودة تعبر عن ظاهرة نفسية وعقلانية تعيش في وعي الانسان الفلسطيني وما لها من تأثيرات الأستلاب والغربة والتشرد على الظاهرة المجتمعية.

محتويات الرواية هي تلك الحكايات التي بلغت عشر ليالي، وكلها حكايات تتماوج حول المكان "مصنع الألبان في بيت لحم، مستشفى الطلياني، سوق الباله، مقهى السنترال، سينما زهران، دكان الجبالي، سوق الخضار، شارع الطلياني".

يرسم لنا الروائي صبحي الفحماوي فسيفساء الحدث الروائي بريشة الأفعال والأقوال التي باتت مركوزة في بؤرة المكان.

يكتشف البطل "الهربيد عوض" عوالم جديدة تحملنا معه في رحلة مماثلة عبر أروقة "فندق الوادي" وسط عمـّان وهو فندق شعبي يبتلع بداخله الغرباء ممن ليس له بيت يأويه، أو من ليس له أهل يرجع اليهم في الليلة المعفـّرة بغبار المهـُجرّين من البقية الباقية من فلسطين، والتي تدور حوله معظم أحداث الرواية بعد مطاردته لعنة عذاب البعد عن الوطن والتوهان في الغربة.

كان أصعب موقف في الرواية مشاهدة "الهربيد" لأبيه راعي الأغنام وهو يغرق في أحد القيعان المائية في الصحراء أمام ناظريه رويدا ً رويدا ً بدون قدرته على أنقاذه الذي حاول بشتى السبل، أختفى الأب أمام ناظرّيه، وأختفت الدنيا من أمامه، لم يعد ّ يصدق ولا يحس بحقيقة ما يرى، يسير في كل الأتجاهات ولا يعرف الى أين يتجه.

"يبدو أن غنمة وحيدة قد تورطت بالغوص في أعماق الماء، فدخل البركة ليخرجها، فغاصت رجلاه في الطين".

اللعنة تلاحقه حتى في هذه الصحراء المترامية الأطراف، اللعنة تحاصره منذ أن تم خلعه من البوادي الخضراء، يوم هجر ّ من ربوعها الرطبة وطردوه من تلك البلاد الخضراء وقذفوه الى القفار الشاحبة.

يقول الدكتور أحمد ياسين العرود:"

"لقد جسدت شخصية" الهربيد "حالة من التأريخ العربي الفلسطيني بكل أبعاده وأهمها التهجير والمقاومة، فالهربيد هو هذا الفلسطيني الذي عاش حياته في فلسطين وحل به ما حل من الأحتلال الصهيوني وأنتقل الى مدن عربية ومنها عمـّان".

يسرد "الهربيد" بشكله المدهش ذي الطول الفارع، والشعر الطويل الغزير، وتخرجه من المدرسة الثانوية عام 1955، حكاياته في تلك الليالي العشرالذي كان مضطرا فيه لجيرته في تلك الغرفة الفندقية الزنزانة التي قضاها في"فندق الوادي" على طالب الطب الجامعي سنة ثانية طب في جامعة الأزهر،أضطر المبيت في هذا الفندق لحين وصول مصروفه الجامعي من والده في فلسطين حيث انه يقف خلف الحدود ممنوعا ً من دخول وطنه بعد أحتلال فلسطين بكاملها، يتحدث وهو يتوجع، ومعالم وجهه تنطوي وتشتد، وأصابع يديه تتمخلب مثل أدوات عقرب، وعيناه تتوهان في البهوت المريع، فيكشف بثرثرته المتواصلة عن عذابات سريرته ووصوله تائها ً الى قاع المدينة المضيافة الحنونة التي لا تعرف أحد وكأنها بقلب قـًدّ من حجر، والتي أحتوته بدفئها الشرس، من بيت لحم والتي عاش فيها أيام حلوة، حيث كان يعمل في مصنع الألبان "ألبان يافا" عند أبو جعفر الحداد، حيث يشتري من أصحاب مراعي أغنام البدو المنتشرة في منطقة بيت لحم ـ بيت ساحور ـ زعترة ـ منتجات الأغنام من الحليب واللبن والجبن والزبدة والسمن وحتى صوف الأغنام ووبر الماعز الذي يصنعون منه خيام البدو، كانت حياته طبيعية وحصوله على دخل جيد لمعيشته، لكن بعد نكسة حزيران تغيرت حياته الى الفقر والتشرد بعد نزوحه الى عمـّان بعد التهجير القسري الذي ألم به عام 1967 وعمله في العتالة عندما يسير في طرقات السوق المتعرجة بضيقها وأزدحامها، ويرتطم بين أكوام الخس والملوخية والباذنجان والخيار.

"فصرت عتالا ً بدون رخصة، وبكل جرأة رحت أعرض على هذا وذاك أن أحمل له بضاعته، مستعدا ً لايصالها الى بيته".

تحدث الروائي صبحي فحماوي عن روايته فقال:

"أنه حمل شخصية" الهربيد "هذه عشرات السنوات في ذاكرته، والذي كان مدحورا ً، ثرثارا ً مثل قطار بخاري ينفث بخاره فيلفت نظر الجميع، ويجمعهم للتفاعل مع ألامه وعذاباته بعد التهجير القسري الذي ألم به وبأهله عام 1967".

لا يفهم كيف وصل الى هذا الدرك الأسفل من الحياة، وهو أبن ثقافة بيت لحم العريقة منذ عهد الكنعانيين الممتد منذ الأزل، كان شغوفا ً بالقراءة التي حرم منها بعد شهادة الثانوية.

لم يستمر في عمل العتالة طويلا حتى تحول للعمل في بيع ملابس البالة والذي دلـّه عليها العجوز أبو غليون، فعمل عند أبو نجيب الجبالي صاحب محلات أشهر تاجر بالة في شارع الطلياني، وافق أن يعطيه بالة ليبيعها على الرصيف وينقده ثمنها عند تسلـّم البالة الثانية. من شدة الفاقة والفقر تجد الناس تستر عريها بملابس البالة وخاصة لمن لديه عائلة حطماء وأسرة تأكل الحجارة.

كان الهربيد في كل ليلة حكواتيا ً متقلب المزاج، يخلط الفرح مع الألم، والسعادة مع الشقاء، فهو لا يشعر بالأستقرار ويعيش في قلق دائم، القلق يتابعه كظل، يشعر بأن هذا المكان ليس له والذي كان من المفروض أن يكون معلما ً للناس، الأخلاق، والكرامة، والوطنية، والفكر، والحساب..

في نهاية الليالي العشر وصل أبو جواد العم الأصغر للطالب الأزهري من الخليل حاملا ً معه المصروف السنوي لدراسته في الجامعة ليسافر الى القاهرة بعد أن ودع أطلال الهربيد وعـز ّ عليه فراق فارسها.

يتناول الروائي صبحي فحماوي في روايته "قاع البلد" البعد النفسي للشخصية ليتحول من حالة الفوضى النفسية واللاهدف الى حالة الفعالية الذاتية وتحقيق الأهداف فتجعل الشخص المحبط والمهزوم ينهض مستبشرا ً.

بعد الأنتصار في معركة الكرامة مع العدو الصهيوني أخذت الأفكار تدور في رأس الهربيد للأنضمام الى أحد الفصائل الفلسطينية للعودة الى أرضه المحتلة في عملية مقاومة مدروسة.

كان الهربيد أحد الأبطال الثلاثة من مجموعة فدائية أحتلت حافلة ركاب تابعة لشركة "أبجد" الأسرائيلية في مدينة العفولة والمتجهة الى الناصرة، فمدينة حيفا، يطلق على نفسها "برتقال يافا".

بعد سنوات سبع من أعتقال الهربيد من قبل الأحتلال الأسرائيلي تم الأفراج عنه بشرط بقائه في قطاع غزة ومنعه من العودة الى دياره وأهله..

يبقى الألم والوجع حكاية الفلسطيني، حكاية الأحتلال الأسرائيلي وجبروته والتشريد والقهر والظلم والتآمر على الشعب الفلسطيني، حكاية فراق الوطن، وما عانته فلسطين، وما عاناه الشعب الفلسطيني، وكيف تريدون من الفلسطيني أن يكون شخصا ً عاديا ً وهو يعيش الحياة على حافة الموت، وهو يواجه كل العذابات..

* صبحي فحماوي/ رواية قاع البلد / مكتبة كل شيئ / حيفا /2017


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى