الثلاثاء ١٦ شباط (فبراير) ٢٠٢١
بقلم توفيق الشيخ حسين

القراءة الثانية «حسرة الظل»

القراءة الثانية من كتاب (حسرة الظل / تجارب في الشعرية النادرة والبساطة الجميلة) للشاعر والروائي والناقد"محمد الأسعد".

تقرأ الثانية تجربة الشاعر الياباني (ماتسو باشو) مكتشف الجمال في الطبيعة والحياة، وصانع قصيدة الهايكو كما عرفتها الأزمنة الحديثة، تزايدت في السنوات الأخيرة التلميحات والإشارات الى قصيدة الهايكو اليابانية في الثقافة العربية، ممثلة بأشهر شعرائها (ماتسو باشو / 1644 – 1694)، أن العالم وعالم الغرب بخاصة انتبه الى هذه القصيدة وتزايد احتفاء شعرائه بها، محاكاة ودراسة في وقت متأخر لا يكاد يتجاوز ثمانينات القرن العشرين.

قبل زمن شاعر الهايكو الكبير"ماتسو باشو"كانت القصيدة المسماة"هايكاي"لعبة متمدنة لتزجية الوقت اكثر مما كانت شعرا ً جادا ً، وكان مطلعها المسمى آنذاك"هوكو"والذي سينفصل عنها في ما بعد ويستقل تحت أسم"الهايكو"جزءا ً منها، واستطاع"باشو"بحساسيته الأدبية الحادة وسيطرته المتمكنة على اللغة استكشاف كل الممكنات الهاجعة في هذا الشكل الشعري، كان مستكشفا ً جريئا ً كما يقول عنه"ماكو إيدا"فقد استخدم الكلمات العامية واستعار من اللغة الصينية الكلاسيكية، وكتب هوكو بثمانية عشر أو تسعة عشر مقطعا ً أو اكثر، بل والأكثر أهمية أنه سعى الى جعل الهوكو تستجيب للتجربة الإنسانية الفعلية لما رأى وفكر وشعر بنزاهة وإخلاص نادرين، وكان لديه ثقة عالية بإمكانية الإنسان على أن يعتنق ديانة إنكار الذات، فسبر في بحثه المكثف عن مخطط قابل للتطبيق، اعماق الطاوية وبوذية الزن، وفي نهاية المطاف وجد، أو اعتقد انه وجد ما التمسه في ما سماه"فوجا"أي طريقة حياة الفنان، وهي طريقة نسك ٍ مكرسة تسعى وراء حقيقة أبدية في الطبيعة.

قصيدة الهايكو وهذا هو الأسم الذي أصبحت تعُرف به الهوكو في القرن التاسع عشر، والتي أصبحت تتكون من سبعة عشر مقطعا ً، تتطلب مشاركة فعالة من اولئك الذين يقراؤنها، لأن الشاعر يترك القصيدة غير مكتملة، أو هكذا يبدو، ومن المتوقع من كل قاريء ان (يكملها) بتفسير شخصي، فلنبدأ بهذه القصيدة:

عتمة البحر نداءُ بطة بريّة شاحب البياض

يقول الناقد (هاندا) أن هذا التركيب يمكن أن يكون بصيغة معتادة كما يلي:

عتمة البحر شاحبة البياض نداء بطة بريّة

ولكن (باشو) يتعمد إحداث قلبا بين العبارة الثانية والثالثة، انه يختار ان يستمر بسلاسة مع مقاطع السطر الثاني الخمسة لينتهي بقوة بسبعة مقاطع في السطر الثالث وكانت النتيجة أن لغة القصيدة لم تتابع فقط بل وحلقت إحساسا ً قويا ً بالاستقرار.

أما الناقد (كومي يا) فيرى أن ما هو صارخ في هذه القصيدة هو تلفظ السطرين الأخيرين حيث توصف ظاهرة سمعية بتعابير بصرية، وقد أنجز الرمزيون الفرنسيون الكثير بهذه الوسيلة، ولكن من الواضح أن (باشو) لم يتعلم هذه الطريقة منهم، بل منح الانطباع الذي شكله بوساطة حساسيته تعبيرا ً مباشرا ً وأمينا ً، وانتج قصيدة حية لا شيء مصطنعا ً فيها وغير طبيعي، ويتوسع ناقد آخر هو (أواتا) فيقول (إن البخار الأبيض الشاحب فوق البحر ونداء البطة البرية امتزجا في مدركات الشاعر الحسية، بالطبع، العين هي التي شاهدت البياض، والأذن هي التي سمعت الصوت، ولكنه شعر كما لو أن عينيه شاهدتا ما سمعته أذناه، وحول ّ هذا الشعور العذب الى قصيدة).

وينبه الناقد (اوجاتا) القاريء بأن عليه أن يدرك أن سطر (نداء بطة بريّة) يكثف مشاعر حنين وشجن الشاعر الجوّال الذي مازال يتجول بين الطرقات مع نهاية العام وقد ركز شراح الشاعر السابقون على تعبير (شاحب البياض) وغفلوا عن هذه النقطة، واخيرا نجد لدى الناقد (كونيش) استطرادا ً لافتا ً للنظر يقول: (أسلوب هذه القصيدة وصفي، وهو أسلوب غير موجود في قصائد الشاعر المبكرة إنها تصف مشهدا ً وصفا ً موضوعيا ً من دون ادخال عاطفة من العواطف مثل السعادة أو الأسى، إلا أن هذا النهج لا يجب أن يُخلط بمبدأ (شاسي) أي مبدأ الواقعية الذي أصبح رائجا ً في اوائل القرن العشرين بعد ان وفد بتأثير الواقعية الغربية، فهذا المبدأ لم يظهر في الأدب الغربي حتى القرن التاسع عشر، ومن الواضح أن (باشو) أستمد هذا المبدأ من الراهب (فوكوجاوا) حين بدأ يدرس بوذية الزن، وكان رهبان هذه البوذية يجيدون وصف المشهد وصفا ً موضوعيا ً بكلمات قليلة ويجسدون في هذا الوصف حقيقة كونية.

تعليق:

يؤكد (الأسعد) في هذا الشرح إشارة أو تلميح الى ما يمكن أن يسمى"تراسل الحواس"أي التنافذ بين مجالات الحواس سواء كانت سمعية أو بصرية أو حسّية وهذا التنافذ يكسب اللغة وظيفة غير معتادة تكون معها قادرة على القبض على أشد لونيات المشاعر رهافة، لقد انزاح تركيب السطور عن المعيار المعتاد كما أشار (هاندا) فتحول الى تركيب ذي دلالة مختلفة عن الدلالة المألوفة، يبدو أن السبب حدسي قبل أن يكون فكرة ذهنية، فهنا ليس مجرد تحويل السمعي الى بصري، بل إقامة مسافة توتر قائمة على تضاد بين العتمة والبياض وبينهما النداء، نداء البطة البريّة، المتحرك الذي يصل بين الأثنين، بين المعتم البعيد والبياض القريب، وقد أقتضت الحالة النفسية هذا التركيب كحدس شعري، فارتسمت العتمة للوهلة الأولى ثم النداء القادم من بعيد ممتدا ً مثل امتداد البياض ومتلامحا مثله.

هو الربيع تل بلا اسم
في الضباب الخفيف

هذه القصيدة، مع أنها تبدو واضحة، كما يقول الناقد (اوتسوجو) إلا أن وضوحها من النوع النادر، أما أرضيتها فيرجعها الناقد (اوجاتا) الى تقليد كلاسيكي، حيث دأبت أجيال من الشعراء على تبين قدوم الربيع حين ترى الضباب معلقا ً فوق الجبل ولكن الناقد (ياماموتو) يلتفت الى صوت كلمات القصيدة الناعم، فيرى أن هذه الكلمات تحثنا على رؤية بصرية، على رؤية الخطوط الخارجية المرهفة لتلك التلال في مقاطعة ياماتو.

تنوير: لدينا ما يسمى بالأصالة، بمعنى الصدور عن موروث، ولكن حين يكون الموروث أرضية، أي تقليدا ً كلاسيكيا ً بتعبير (اوجاتا) فأنه يتجاوز مجرد الصدور عن موروث أو محاكاته، الشاعر هنا يأخذ مرور الزمن في اعتباره في الوقت الذي يرتبط فيه بالصورة الكاملة للموروث الشعري، ولكن مع أخذه في طرقات جديدة والاطلالة به على مشهد جديد، (باشو) هنا كما يرى (الأسعد) لا يمسك بنافذة التقاليد الكلاسيكية ليطل منها على المشهد نفسه التي كانت تطل عليه، بل يستخدم النافذة نفسها ولكن ليطل على مشاهدة جديدة، هذا أمر منطقي وطبيعي، لأنه متحرك في الزمن، كلما فكر بالماضي فكر بمرور الزمن، لا يكاد ينسى هذا لحظة واحدة، وهذا هو الفرق بين المجدّد الحي الذي يمتلك تراثا ً وبين المحنط التراثي الذي لا يشعر بمرور الزمن.

حين يُقال شاعر أنه كبير، قد يتبادر الى الذهن أنه أصبح فوق النقد، أو أنه بتعبير ساذج قرأناه صغارا ً لعباس محمود العقاد: (يظل جيدا ً حتى في رديئه). إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لجمهرة النقاد اليابانيين، فالنزاهة مطلوبة من الشاعر والناقد على حد سواء، ومن هنا لم تمنع مكانة (باشو) الشعرية والتاريخية بعض النقاد من رفض بعض قصائده إما بوصفها من الدرجة الثانية أو أنها ترتكب جريمة أسوء من الأنتحال.
اليكم هذه القصيدة:
شجرة صنوبر
كاراساكي، ضبابها أرق ّ
من براعم الكرز المزهرة

فماذا يرى فيها النقاد ؟ نبدأ بالناقد (كيوراي) الذي رأى فيها الكثير من الفكر التأملي، ويضيف (إن الهوكو ذات الفكر التأملي ستكون قصيدة من الدرجة الثانية، قال باشو كل الشروحات بما فيها شروحات"كيكايو"وشروحاتك، عقلنات، لقد كتبت هذه القصيدة لمجرد انني فكرت أن شجرة الصنوبر الضبابية تبدو أكثر جمالا ً من البراعم المزهرة)، ولكن الناقد"شيكي"من القرن التاسع عشر كان أكثر قسوة على هذه القصيدة (تلمح هذه القصيدة وفقا لأحد المفسرين الى قصيدة من النوع المسمى"واكا"للأمبراطور"جوتابا""1239 – 1180").

عند كاراساكي
ضبابية أيضا
تضاهي البراعم المزهرة
فجرا ً في يوم ربيعي

ومن الواضح أن قصيدة"باشو"مبنية على قصيدة الأمبراطور، ولكن هذا البناء جاء بالغ البؤس في هذا النموذج الى درجة انه جريمة أسوء من الأنتحال، بالطبع علينا أن نقرأ القصيدة من دون الرجوع الى تلك الواكا، ولكن حتى في هذه الحالة فإن ثانوية القصيدة لا نزاع فيها، ويجب نسيان قصيدة من هذا النوع حفاظا ً على سمعة باشو، يقول"سانجا"هذه القصيدة تفوق الوصف ويتوسع"شوسون"هكذا لا تشير كلمة (ضبابها) الى عتمة مساء ربيعي حين تبدو هيئة الأشياء غير واضحة المعالم، وعلى رغم أن الشعراء منذ الأزمنة القديمة تغنوا عادة ببراعم أزهار الكرز المزهرة إلا أن أحدا ً منهم لا يصف شجرة الصنوبر بكونها ضبابية أمام مشهد البحيرة، حيث شجرة الصنوبر وأزهار الكرز ضبابية على حد سواء، نظر (باشو) بانتباه وأكتشف جمالا ً جديدا ً في الضباب الذي يغطي شجرة الصنوبر، الوقت في ذلك اليوم مختلف عليه.

تعليق: فكرة أكتشاف الجمال في الموجودات هناهي الأكثر لفتا ً للنظر في حديث شوسون لأن العادة الشعرية الرديئة الجارية في مختلف الفنون هي اقتراح فكرة عن الجمال والجميل لا اكتشافه، ومرة آخرى تعود هنا مسألة الموروث في إتكاء"باشو"على قصيدة الأمبراطور القديمة، ولكن بعد أن أطل بأدواته على مشهد جديد، فأن"باشو"كان ينظر الى المشهد وهو يتلامح في مياه بحيرة كاراساكي مساءاً وليس ليلا ً.

ويشعر"الأسعد"أن تقديم"باشو"لا يكتمل إلا بالوصول الى أكثر قصائد الهايكو شهرة، قصيدة"الضفدع"التي كتبها في العام 1686، ويبدو أن شهرتها أنطلقت فور كتابتها تقريبا ً لأن السجلات تظهر أن جماعة من الشعراء التقت في كوخ (باشو) ذات يوم من أيام أبريل، وأجرت مسابقة تأليف هوكو حول موضوع الضفادع، وبدأ باشو المسابقة بقصيدته هذه التي اطلقت في السباق الذي نشرت نصوصه في ما بعد تحت عنوان"مسابقة الضفدع"وهذه هي القصيدة: بحيرة عتيقة

ضفدع يقفز
بلوب

يقول الناقد"شيكو"كان الأستاذ (باشو) في كوخه على ضفة النهر شمالي"ايدو"في ذلك الربيع وجاء صوت الحمام عبر تساقط قطرات المطر الناعم، كانت الريح لطيفة والبراعم المتفتحة ساكنة، وكان يسمع في آواخر الشهر الثالث صوت ضفدع يقفز في الماء، واخيرا ً طفت في ذهنه عاطفة لا يمكن وصفها وتشكلت في سطرين

ضفدع يقفز
بلوب

"كيكايو"الذي كان الى جانبه، وكان من مقربيه، تجرأ وأقترح وضع تعبير "زهور جبل"ليكون السطر الأول، ولكن الأستاذ اختار تعبير"بحيرة عتيقة ويؤكد"الأسعد"بأن"زهور جبل"رغم انها تبدو شعرية ومحببة إلا أن عبارة"بحيرة عتيقة"تمتلك بساطة وجوهرا ً أعمق.

وكتب الناقد"موران"هذه القصيدة غامضة غموضا ً عصيا ً على الوصف، إنها عميقة ومرهفة ومحرّرة ولا يمكن أن يفهمها المرؤ إلا بعد سنوات من الخبرة.

ويأخذنا"شيكي"الى شيء آخر، إلى أن هذه القصيدة بسبب بساطتها البالغة، من المحال تقليدها:"ما نراه أمر معقد دائما ً، بينما ما نسمعه بسيط عادة، هذه القصيدة لا تعدو كونها تقريرا ً عن ما أحسّت به أعصاب الشاعر السمعية، ولم يتضمن شيئا ً من أفكاره الذاتية أو البصرية أو مجرد صور متحركة، ما يسجل هنا ليس سوى لحظة زمنية، لهذا السبب ليس لهذه القصيدة عمق ٌ في الزمان والمكان. للناقد"أبي جي"تعبير مختزل:"هذه القصيدة مثل ومضة برق تضيء زاوية هادئة"، ولكن الناقد"شيدا"لا يكتفي بالومضة، إنه يحلل الحركة التي التقطها الشاعر، فجأة يكسر الصمت ضفدع يقفز في البحيرة العتيقة، وفي اللحظة التالية ساد الهدوء مرة آخرى، وخلقت النقلة المفاجئة من السكون (لا صوت) الى الحركة (صوت)، ثم عودة الحركة (صوت) إلى السكون (لا صوت) وقد تراكبت مع بحيرة عتيقة وضفدع، جوا ً لا نهائيا ً ومتوازنا ً يتسق تماما ً مع العاطفة التي ترددت داخل باشو، إنها ترمز الى أعمق مشاعره، لقد أنتج"باشو"تحت وطأة التأثر العميق هذه القصيدة بالتأمل الى حد كبير.

تنوير:

يتابع"الأسعد"بأن الناقد (ياماموتو) يقدم تنويرا ً يجعلنا نستغني عن كل تعليق أو تنوير نقدمه من جانبنا:

(على رغم أن ما استهدفه معاصرو باشو لم يكن بعيدا ً عن نمط الدعابات التي جرت عليه مدرسة"دارين"الشعرية، فما لا شك فيه أن دعابات هؤلاء لا يتبعها إحساس ٌ بكآبة وجودية، ومع ذلك لم يعرفوا كيف يحولون هذا الإحساس الى الفاظ هذه الهوكو موجهة تحديدا ً الى تلك النقطة العمياء في فكر أصحاب الدعابات الشعرية)، والقصيدة تقدم شيئا ً كونيا ً يفتن القاريء مثل ابتسامة، إنها تمتلك شيئا ً تشترك فيه مع الحدث البوذي الشهير الذي يبتسم فيه (بوذا) صامتا ً وهو يقلب زهرة بين أصابعه، في هذه القصيدة تمثل الإبتسامة اعلى إنجازات الفكر، مكملة ما بدأ به الضاحك، ويكمن سرّها ربما في الدقة البالغة التي يقبض بها الشاعر على الموضوع ويحكمه.

من هذا نستطيع القول أن قصائد الهايكو تعتمد البساطة والسهولة، وكلما أرتفعت درجة البساطة فيها أقتربت من الجمالية في إثارة الصدمة الجمالية، أن ّ الهايكو يعتمد في أساسه الجمالي ّ على المشهد الحسّي الواقعي الآني ّ، دون أن يعني استبعادا ً تاما ً للصور الذهنية المستقاة من المخيّلة أو الذاكرة، أو الحلم، وتركيبها مع المشهد الحسّي الآني، والواقعية ليست في حسية الصورة أو اللقطة العفوية أو الحدث العفوي، وإنما في بلاغة التعبير عن هذا الشيء المجسد كقيمة جمالية، وهذا يعني الواقع تمثيل للطبيعة كصور حسية مشتقة من الطبيعة ومتعلقاتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى