قراءة فيما طرحته رواية «وادي الغيوم» للدكتور علي نسر
"وعاء يفيض بالقضايا المثخنة بالجراح والتناقضات"
رواية "وادي الغيوم" باكورة أعمال الدكتور علي نسر تطرح العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والنفسية، وتسلط الضوء على النظرة العميقة للمجتمع العربي بكل أطيافه وتناقضاته وإيديولوجياته، ورمزيته وواقعيته المتجذرة في كل أسماء شخصيات الرواية من يوسف وصلاح ومرام وماجدة وأم يوسف الأرض والكفاح والوطنية والأرض المغتصبة. بل تبرز الواقع الأليم الذي تعيشه الأمة العربية ونوستالجيا الغرق في الحزن والمونولوجات الداخلية الدفينة التي تبرز نقاط ضعف كل شخصية في الرواية.
ولعل عنوان الرواية "وادي الغيوم" (وادي) يحمل سيميائية الانهزام والدنو والانحدار الذي وصلت إليه الأمة العربية وتكومت على نفسها (الغيوم)، وهذا ما يظهر التناقض بين الانحدار والعلو. وهو ما أبرزه الكاتب لكل شخوصه المسرودة في الرواية.
رواية "وادي الغيوم" والتي تدور أحداثها حول البطل يوسف قنديل العلماني المثقف الذي خذلته الحرب خرج منها مهزوما مهزوزا صور رفقائه وجثثهم وأشلائها المبعثرة قابعة في مخيلته، يوسف النرجسي كازانوفا الجنس الناعم، يوسف قنديل دلالة سيميائية لاسم سيدنا يوسف الذي تآمر عليه إخوته ورموه في الجب والذي يحمل قنديل المعرفة والحكمة والتغيير والانتفاضة ذلك الطفل الضائع بين عوالم وادي الغيوم وجذوره المتأصلة في واد آخر والذي تكالبت عليه الحرب وشقت روحه إلى صفعات متتالية، يوسف قنديل ذاك الشاب الهائم على وجهه الذي استباح براءة مرام وتركها على قارعة الطريق تنهشها الذئاب وتعوي عليها الرياح مرام الأرض والقضية والثورة التي جَبُن في الدفاع عنها وأخذ حقها من نفسه لها. يوسف الذي لم يأل جهدا في اقتناص أي فرصة تشبع نهمه من النساء ليخفي ضعفه وجبنه فيهن، فالعفة لم تكن لتعرف طريقها إليه إلا في مفرق واحد شكل له الاختيار الصعب وهو ماجدة زوجة صديقه صلاح التي كانت علامة فارقة كَبح جموحه ونرجسيته كأنها ضميره الحي الذي تجلى له من العدم ليوقف طوفان نفسه الغاضب، ماجدة الأرض، الوطن، المبادئ بل القيم التي كان يؤمن بها وخلخَلتها الحرب التي كان أحد متاريسها فمزقت ما تبقى من روحه المشروخة.
أما اسم "صلاح" البطل الثاني في الرواية المقاوم ذلك الأنا الأعلى أو النفس اللوامة ليوسف قنديل فهو رمز للصلاح والاستقامة والضمير الحي ليوسف والجانب المشرق في القضية العربية المستميت في الدفاع عنها بكل ما أوتي من عزم وصمود، ورغم اختلافه في الرؤى والعقيدة مع يوسف قنديل هذا التناقض لم يثنه عن صداقته المتينة له بقوله (لا أعرف أي قدرة مغناطيسية تشدني إليك، مشروع تخرجي في الحياة أنت يا (يوسف) لن أجعلك تفلت مني إلى النار).... هذه الصداقة التي يدافع صلاح عنها باستماتة في كل موقف مع زوجته ماجدة إن جاء ذكر يوسف في أحاديثهما، ماجدة التي اعتقدها صلاح خطه الدفاعي الخلفي المحصن وبمثلها يستمر الجيش في مواصلة الحرب ويبقى الوطن آمنا لن ينخره سوس ولا يعتريه ذبول (ماجدة التي لم يدر عنها صلاح، أنها رغم حبها له فإنها عرت عن وجه الحقيقة كأنياب الذئب عما تعانيه بعض زوجات المقاومين حسب ما جاء في الرواية اللواتي ينخر عظامهن برد الخوف والفراغ مهما بلغ بهن الحب مبلغه فإن لم يكن للوطن أرضية متينة وأسوار منيعة من الداخل مملوءة حبا ودفئا واكتفاء وحضورا سيسهل اختراقه واستخرابه بسهولة).
وكما تعود القارئ على مدار فصول الرواية على صفعات متتالية مفاجئة من طرف بعض شخصيات الرواية والتي تدفع القارئ لطرح سؤال: هل أحست ماجدة بأن صلاح يُكن مشاعر دفينة لمرام؟ هل هذا سبب كفيل بطلبها المعونة من يوسف؟ هل هذا ما جعلها تفرغ خوابي حب صلاح وتنتفض؟.
وهل موت صلاح موت للقضية العربية والثورة والمقاومة والحق؟
أم هو استشراف الكاتب عن مستقبل الأمة العربية وشحذ همتها لتستفيق من غيبوبتها وجبنها وخذلانها؟
نلقي الضوء على شخصية "وفاء" التي يمسك يوسف بأذيالها مع تلك الرواية التي أدمن عليها كأنها كتابه المقدس الذي يُسَكِّن آلامه ويغذي أماله من الوفاء الذي انبرى من الوجود وانحسر في رمزية واحدة هي الأرض التي ظلت وفية لكل من دنس ترابها وخضبها بالدماء ونكس أعلامها ورواها بالخيانة والخذلان رغم وفائها، ظلت توأمه الروحي وعشقه الحقيقي الذي يبحث عنه في كل الوجوه رغم غصة الخذلان والاغتصاب التي يتجرعها مع كل كأس نبيذ.
ويُفجّر الكاتب في آخر الرواية مفاجأة ليوسف قنديل على لسان أبي رياض الجابري هذا اللقب الذي يرمز لجبر ما انكسر في روح يوسف لتكتمل لديه الصورة بحلقاتها المفقودة في شخصيته، ذاك الشيخ الممسك بعصا الحقيقة المرة بهيبته ونظراته الثاقبة والذي أحس يوسف أمامه أنه تدحرج من علو جبل شاهق، تلك المفاجأة: صباح نصف الشامة المفقودة ونصفها الآخر الحاضر في شامة عين يوسف قنديل كأنهما توأم فرقهما الموت، تلك الخطيئة حسب مفهوم أهل القرية والتي ستدنس طهارة قبور الأموات إن هي دفنت في مقابر القرية، صباح الأرض البريئة المستباحة المغتصبة والمتخلى عنها والموؤودة حسب العادات والتقاليد، تلك الأرض التي تنجب أبناءها لتأكلهم، ذاك السر الدفين الذي أثقل كاهل والدته سميرة من سهل لواد حملته كالغيوم فوق الجبال في صمت وازدراد، تلك الصباح التي شقت صدر جبل يوسف ليُخرج كل الحقد الدفين على العادات والتقاليد والدين. تلك الغزالة الشاردة التي قُتلت آلاف المرات، ابنة ناجي قنديل ابن السلالة العريقة الضاربة جذورها في تخوم الأرض رمزية تحيلنا إلى الفنان الفلسطيني ناجي العلي ذلك الرسام الكاريكاتيري الذي عمل على ريادة التغيير السياسي باستخدام الفن كأحد أساليب التعبير والتكثيف المرئي خصوصا رسمة حنظلة الشخصية التي ابتدعها ناجي العلي تمثل صبيا في العاشرة من عمره وهو يعقد يديه خلف ظهره، تلك التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية، ولعل عمر حنظلة من عمر يوسف قنديل حين مغادرته لقريته بادئ الأمر بعد مقتل صباح، وهذا توصيف ورمزية بليغة من الكاتب لتوظيف كل ما يخدم القضية العربية والمقاومة والتغيير بجلب كل الرموز الرائدة التي كان لها دور فعال في خدمة القضية.
إن رواية "وادي الغيوم" لا تكفيها الصفحات في تفكيك شيفراتها ورموزها، المتجددة صورها فكلما أعدْتَ قراءتها تكتشف بيادق أخرى وتحديات أعمق لا تكشف عُريها إلا لمن غاص أعمق وتقمص شخوصها وأمكنتها وبراريها وأفيائها، إنها رواية رائعة بلغتها الرصينة وصورها البديعة ورمزيتها التي تحيل على الوجه الآخر بل الضفة المقابلة للدكتور علي نسر وبعض ملامحه الفكرية والثقافية....
لقد كانت لغة الرواية مرصوصة حرفا تلو الآخر حتى تكتمل الصورة للقارئ كأن الكاتب ينقل المشاهد بصورة مرئية متقنة وسلسلة مبهرة، ولقد كان الدكتور علي نسر ديمقراطيا في إعطاء كل شخصيات روايته الحق في التعبير عن نفسها وتناقضاتها الصارخة.
"وادي الغيوم" رواية تستحق القراءة بقدر المعاني العميقة الملبدة بالغيوم والإشكالات والأسئلة المعلقة المطروحة والصدمات المتوالية تحفز إشكالية الذاكرة، ناقلة مراد الشخصيات ونظرة الكاتب العميقة.