السبت ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠
بقلم زهير كمال

قراءة في الانتخابات الأمريكية لعام 2020

متهرب من الضرائب، مدمن على الكذب، محتقر الأسرى، زير نساء، مؤيد للعنصرية البيضاء وغير ذلك من الصفات التي لا يرغب أحد في اتخاذ صاحبها صديقاً فما بالك بإعادة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة . ورغم ذلك كله فقد انتخب 74 مليون أمريكي الرئيس الحالي دونالد ترامب.

لم تجتمع كل هذه الصفات الكريهة في رئيس أمريكي واحد منذ استقلال أمريكا، فما الذي يدعو هذا العدد الكبير من الأمريكيين لإعطاء أصواتهم لرئيس تمت محاكمته قبل عدة أشهر وكان على وشك أن يعزل لولا أغلبية من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الذين ربطوا مصيرهم بمصيره.

لم يؤيد ناخبوا ترامب صفاته هذه بل من المؤكد أنهم يمقتونها فمعظمهم من المحافظين التقليديين الذين يقومون بتقديم اقراراتهم الضريبية في موعدها ويذهبون الى الكنيسة كل أحد ويحافظون على التقاليد العائلية ويحبون أبناءهم الذين يؤدون الخدمة العسكرية ويقدرون من خدم فيها ويحترمون من أسر في معاركها، بينما نجد الرئيس الحالي يكذب مثلما يتنفس وليس بعيداً محاكمة الزعماء الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ لرئيس الجمهورية الأسبق كلينتون بتهمة الكذب فقط، كان يحاول تغطية علاقة غرامية، خيانته لزوجته مسألة ليست من اختصاصهم إنما هي اختصاص زوجته، بينما كذب الرئيس، رمز الدولة، هو في منتهى الخطورة.

لم يبق من سبب لاختيار ناخبي ترامب له سوى السياسة التي تبناها وقام بتنفيذها أثناء الفترة التي قضاها في البيت الأبيض والمفترض أنها ستنتهي في 20 يناير 1921، فقد تبنى ترامب سياسة العزلة وبناء الأسوار لوقف تدفق المهاجرين، وطرد المهاجرين غير الشرعيين والمقدر عددهم بحوالي 12 مليون نسمة، إرجاع المصانع الأمريكية الى داخل البلاد وكذلك إنهاء الرعاية الصحية التي أسسها سلفه أوباما والمعروفة باسم (أوباما كير)، لسبب بسيط وهو أن المستفيدين من هذه الرعاية الصحية والبالغ عددهم 20 مليوناً هم الفقراء وبخاصة السود، فأصحّاء سود يعني مزيدأ من الإنجاب ومزيداً من الإخلال بالتوازن السكاني.

ما سبق من أفكار وسياسة نابع من الخوف من نهاية سيطرة العرق الأبيض من الأنجلوساكسون البروتستانت (واختصاراً واسب ، وهي الحروف الأولى من العبارة بالانجليزية) على الولايات المتحدة.

مسائل بسيطة ولكنها ظواهر على التغيير الديموغرافي ونهاية سيطرة الواسب، فعلى سبيل المثال، قبل ربع قرن كانت كل الوثائق المتداولة سواء تعليمات حكومية أو دليل استعمال جهاز منزلي، كانت باللغة الإنجليزية فقط، واليوم تجد اللغة الإسبانية تصاحبها.

وفي بداية هذا القرن تم انتخاب رئيس أسود لأول مرة في التاريخ الأمريكي، وكان هذا الحدث بمثابة مؤشر خطر على بداية الانحسار، فعدد السكان في ولايات الساحلين الشرقي والغربي يزداد بسرعة مخيفة، وهؤلاء السكان خليط من الأعراق والألوان والأديان ولا يبالون كثيراً بهذه الفروقات بين الناس ويعتبرون الولايات المتحدة بوتقة انصهار، بينما ينظر الواسب الذي يتركز معظمهم في الداخل الأمريكي أو الولايات الحمراء الى باقي السكان على أنهم ضيوف ثقلاء، على اعتبار أنهم أصحاب البيت الأصلاء.

ومثل صراع الطبقات في المجتمع والتي حلل ظواهرها ببراعة كارل ماركس والماركسيون الذين تبعوه، يوجد صراع أعراق في الولايات المتحدة تعبر عنه مظاهر عديدة من بينها المظاهر الاقتصادية فمعظم الأغنياء وأصحاب الثروات هم من الواسب ويمثلون أقل من 10% من السكان ويستحوذون على 90% من ثروة الولايات المتحدة، والباقي من الطبقة الوسطى حيث يعمل بعض أفرادها 16 ساعة يومياً لتأمين متطلبات الحياة وكذلك طبقة الفقراء الذين يعتمد بعضهم على الإعانات الحكومية وهؤلاء من السود أو المهاجرين الجدد وينضم إليهم المهاجرون غير الشرعيين وخوفهم الدائم من الترحيل الذي يصاحبهم طيلة حياتهم فتجدهم يقبلون أحط الأعمال لتأمين قوتهم اليومي، ولعل أقذر مثال على التعامل المشين معهم فصل أكثر من خمسمائة طفل عن عائلاتهم ، فقد تم ترحيل هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين الى الخارج ووضع الأطفال الذين ولدوا في الولايات المتحدة وبالتالي يحملون جنسيتها في دور رعاية، أي تحويلهم الى يتامى وأهلهم أحياء.

وأحد مظاهر الصراع الخفي قسوة الشرطة في تعاملها الشرس مع السود فهم في اعتبار الشرطة مجرمون حتى تثبت براءتهم.

للانتخابات الأخيرة دلائل ورمزيات كثيرة، من بين ذلك أن الرئيس المنتخب جو بايدن يدين بالكاثوليكية وهو ثاني رئيس يدين بها بعد جون كنيدي أي أنه ليس من الواسب.

وأن نائب الرئيس هي امرأة، وهذه أول مرة تفوز امرأة بهذا المنصب، كما أنها سوداء من أصول آسيوية وهذا اختراق جديد وتمثيل جيد للتنوع العرقي الموجود في الولايات المتحدة. وفي حال نجاح بايدن في سياساته الطموحة في خلق فرص عمل جديدة في الطاقة البديلة والاستغناء عن النفط بعد حل المشاكل الكثيرة التي خلقها ترامب فستصبح كاميلا هاريس مستقبلاً أول رئيسة سوداء في الولايات المتحدة.

نجاح بايدن في ولايات بنسلفانيا وأريزونا وجورجيا ورغم أن تفوقه كان بسيطاً إلا أنه يمثل زحفاً للتركيبة السكانية الجديدة نحو الداخل الأمريكي.

وهذه أول مرة في تاريخ الدول يشكو فيها رئيس الدولة من تزوير الانتخابات في دولته ولا شك أن هذا مثل على دولة مؤسسات تتطلع شعوب كثيرة في العالم الثالث لأن تكون دولها على هذا النهج.

يبقى السؤال الأساسي في المراحل الأخيرة من وجود ترامب في البيت الأبيض وهو هل يمكن للسياسة أن تغلب الاقتصاد في دولة مؤسسات؟ هذا ما يحاول ترامب فعله كي يستطيع البقاء في البيت الأبيض، فهناك كثير من اللغط يدور حول إثارة حروب خارجية وحروب اختراق حواسيب القطاعات الحساسة في البلاد والتي يساعد فيها بوتين ترامب وقد نشهد أموراً أخرى تساعده على إعلان حالة الطواريء وإلغاء نتائج الانتخابات.

أحد أهم الاجتماعات التي عقدها بايدن بعد انتخابه هو اجتماعه مع رؤساء الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، وهؤلاء هم اغلبية أرباب العمل في كافة الولايات سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، حيث ضمن تأييدهم لخططه المستقبلية، وبموافقتهم هذه سحب البساط من تحت قدميْ ترامب، فالمرؤوسون يتبعون سياسة رؤسائهم في الغالب.

تمثل ظاهرة ترامب أحد مثالب الديمقراطية الخطيرة وقد يضر بها وبشعبه وربما بشعوب العالم كافة ولا بد من علاج هذه الظاهرة بشكل جدي حتى لا تتكرر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى