الخميس ٢ أيار (مايو) ٢٠١٩
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية «ظلال الأجنحة»

بشفتين عازفتين و نشوة تتسلق الجسد، ثم تغتسل بعدها بمياه القصيدة... هكذا سطرت الشاعرة هدى الهرمي و كشفت رؤيتها للشعر من منظور أنثى واسعة الثقافة و المعرفة بتقنيات قصيدة النثر لترتكب غواية الشعر و غواية الكتابة ليتشكل لنا مولودها البكر دون عاهات، اختارت له من الأسماء " ظلال الأحجية " الصادر عن دار زينب للنشر و التوزيع سنة 2018 و الذي ضم بين جوانحه 32 قصيدة نثرية في 100 صفحة من الحجم المتوسط، وقد قدمه و كشف خفاياه الشاعر الأردني محمد خالد النبالي.

فالشاعرة التي ترسم جغرافية مرور القارئ عبر ثنايا النّصّ تبحث عن نفسها و عن كينونتها الشعرية بفعل الغواية التي جاءت لتربك القارئ هل هي غواية جسدية أم غواية أخرى (غواية كتابة و غواية شعر)... حيث تكرر لفظ "الغواية" (6 مرات) في عدة مواضع دلت على غواية الحب و الجسد و حيرة العاشقة و تشبثها بالمعشوق و لكن هل هذه الغواية غواية إبداع و كتابة أم هي غواية عشق روحي و جسدي، أم صراع أضداد، جسد الأنى بجمالها و الأنثى بإبداعها و صراعها مع ذاتها كأنثى و ذات الشاعرة في داخلها تقول ص(18):

ثم تستدرك لتتواطأ مع التوبة لتفتح أبواب فكرتها و تنطلق في التعبير عن أحاسيسها أحاسيس الشرنقة التي مازالت تنسج حرير حب الكتابة و نشوة الشعر:

"ما زلت في شرنقة محصنة بالحب
أغزل حرير النشوة
أهرول خلف فحولة الضوء" (ص36).

لتردف قولها بعد ذلك و تكشف تلك الشرنقة حبها و ميلها لغواية الضوء، غواية الكتابة:

"ظلها المتطاول شرنقة الوقت
و اكسير الحب
فهامات الرمح
تتكسر عند جدار كسيح
ليتهاوى عالم يتيم بين أصابعها
هي نشيد من أحرف
تندلق في قصائد وردية" (ص46-47).

لتدرك أخيرا أنها فراشة من نور تبحث عن الانعتاق، فراشة نائمة على وسادة الخيال، تداعب جسد الشعر المتوهج وترتشف حبه فيتغير الزمن وتنتفي القيود لتتمثل بالفراشة التي تداعب حواسنا لتمنح القارئ حق الانتشاء بنصوصها و تتركه يبحث في خبايا نصوصها ليغوص و يكتشف شعابه و دهاليزه. وهي بذلك تخالف رأي الشّاعر أدونيس في قوله "القارئ يحدّد الكاتب من الخارج والكاتب يحدّد نفسه من الدّاخل".

نعم هي غواية الكتابة و تعرية الذات الشعرية و كشف مكنوناتها و صراعها مع الشعر تقول الشاعرة:

" لم تسعفه بالغواية الآسرة
بل ظلت واقفة عند نوافذ الأحجية
ترصده و هو يتعثر بغفوة الحلم
و يولم لها حماقات الرجاء
حتى أصابعه الدامية
ما عادت تتقن صياغة القصائد
فكلماته هاربة من رسائل الوله
و أقلامه لا تكتب شعرا"

هذا التمرد النفسي و الشعري على قيود الكتابة النسوية المتعارف عليه عموما حيث تجعل من ذاكرتها روحا تطاردها و تمسك بتلابيبها، لتترك القلم يمارس سطوته على الكتابة، مما جعل نصها منفتح على تموجات و انعطافات قادته لتكرار لفظ (الذكرى/ الذاكرة) في أكثر من موضع معتمدة على جنسنة اللفظ و إعطائه روحا إنسانية و أوصاف إنسانية حسية: (و بعضا من عقيق الذكرى (ص33)- يمسك ببراءة الحب و تلابيب الذاكرة)ص39)- من رذاذ يكتسح زجاج الذاكرة (ص51)- نسترق تعاويذ الذاكرة (ص59)- فوق أرصفة الشغف و مواويل الذاكرة (ص64)).

و هنا نقف عند عبارة التكرار حيث نلاحظ أن الشاعرة في زخرف نصها اعتمدت على تكرار العبارات و الألفاظ و التي يمكن اعتبارها نفسا لا شعوريا أخذ من هندسة الشاعرة الروحية في تبويب و نقل مشاعرها بتناسق و غايات ساهمت بدورها في تشكل الصورة و لحدث أمامنا رغم أن الشاعرة تعبر عن تجربة ذاتية خاصة و لكن في الآن نفسه هي تعبر عن روح القارئ الذي يجد بعضا من أنفاسه في هذه النصوص لما تبثه نصوصها من دهشة وصدمة تربك المتلقي، فهي بمثابة رسائل مضمونة الوصول للحب و توحد الروح مع العقل و الجسد.

كما نشير هنا أيضا إلى اعتماد الشاعرة على تكرار حرفي "السين" (268 مرة) وهو كغيره من الأصوات المهجورة والمهموسة يوفر انتشاره فائدة موسيقية ودور هام في ربط المضمون الشعري خاصة مع هيمنة بعض الحروف الأخرى و خاصة تكرار حرف "الصاد" (163مرة) و هو حرف مهموس احتكاكي شبيه بحرف السين لكنه مفخم، و هذا التكرار مرده عالم الشاعرة النفسي الغامض و هو يدل على حالة الشاعرة المفعمة بالحزن والقلق كما في قولها: (ص16):

"فينصاع جفني إلى دمع هائم
كقطرة ماء في نهر
تصير الحواس مجرد دمى
و ملح قسوة...
هنا قبائلي المندثرة
و وحدتي السائلة في رصيف القدر
ربما مرة أخرى
أنتصب نافذة موصدة
دون ستائر"

و لتكرار الحرف في النص جعل من الصوت الشعري صوتا موحدا متجذرا مما انعكس على الواقع المتألم و المعيش الذي تعيشه الشاعرة تقول في نص "أي حزن"(ص31):

" أي، حزن هذا
يزيح وشاح الخاطر
وينفث في الوريد السواد
حتى المنية سئمت من تبرجها
و اعتكفت في مخدعها كدرا
كمن ينسج من العزلة غبطتها..."

لتسقط الآهات المزدحمة في فناء مسور بالهذيان و يمضي بنا النص إلى مفارقات ومشاهد تجتهد الشاعرة في تأسيس أبنيتها و قد أحسنت ذلك و هو ما مكنها بالضرورة من اللعب على أوتار النص لتطعمنا جمالا و صورا مجازية و استعارية زادت من حلاوة النص و خصوبته الفنية تقول (ص81-82):

"كل ذلك و أنا أجلس إلى شغفي
و المرآة تتفرس جسارة ظلي
و هو يتبخر عبر الهواء
و يسلك الهامش الضوئي
هناك... الحركة الراعشة
بين رقصة الألوان و صرخة دمي
مجرى الصحو
ها أنا... أنتفض في تشقق الماء
أعاند باطنك الشفيف
و أختلق لك مجرى الصحو"

هكذا هي الشاعرة تتخبط بأنفاسها و أحاسيسها بين كينونتها الأنثوية في صراع داخلي يحلم بالانطلاق كالفراشة تجوب الكون الفسيح و تطير فوق أجنحة الحمام لتلامس الضوء لتشكل ذاتها تقول (ص37):

"بعيدا عن انهاكة اللظى
عن ملكوت انزلق إلى عنق الظلمة
أدركت أخيرا
أنني فراشة من نور..."

تلك الفراشة المثقلة بقناديل الراحلين على ظهرها و هي توزع ضياءها الشارد بين الومضة و الأخرى و بين اللفظة و الأخرى لتنسج لنا من عبق قصائدها لوحة شعرية بصورة غاية في الفن اعتمدت فيها على ألفاظ منتقاة و أسلوب يجعل لنصها أجنحة تحلق بها في ظلال الأحجية، تقول (ص48):

"و أنا أطوقك
كفراشة تداعب جسدك المتوهج
ترتشف الحب الأنيق
فيتحول الزمن عصرا ذهبيا
لا يكابر مع تفاصيل الثواني"

هكذا هي أنفاس الشاعرة هدى الهرمي و هي تلامس ظلال أجنحة الفراش لتروينا من نورها وألوانها الزاهية و من نبيذ شعرها، ما يلهب زفير الكلمات و يفتح لنا أبواب التمعن و البحث في نصوصها التي تفردت بخصوصية خدمت نصها فظهر كقطعة بلور محكمة السبك لتخلق عالما خاصّا بها ولغة بدايتها اللاّوعي ونهايتها الوعي بالذات و بالواقع و بالمجتمع عموما بسرد حلالات وجدانية يومية تلامس شفاه الواقع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى