الخميس ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠١٩
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية «لا قلب لي»

عندما يصبح العشق ظلا عابرا و محرابا يتعطر طيبا يخالط ماء الشعر فيولد من نسيم العشاق دواوين شعر و أهزوجة طفولية فيصبح القلب من الياسمين و من الأغنيات و يعبق بعبير الأقحوان و من السوسن و الجواهر و السنابل فقلبها هديل الرائعين يهفو إلى الابتسام و مع ذلك تقول لي"لا قلب لي"و هو عنوان مجموعة شعرية للشاعرة التونسية نجوى الدوزي خلف الله تحاكي فيه أشجانهاو هموم الوطن و الأمة وتحاكي المعاناة التي يعيشها الوطن العربي و النفسية العربية من واقع وأحداث وآلام متلاحقة تنخر جسد الوطن العربي، و هو ديوان صادر عن منشورات دار زينب للنشر و التوزيع سنة 2019، و قد عزفت لنا الشاعرة سنفونية العشق على أوتار القلب و صفحات المجموعة الشعرية التي ضمت بين طياتها 30 قصيدة في 112 صفحة فيها من الشجن و الحب عزفا على أوتار حزينة يضيق قلب الشاعرة بها فتنفثها ليكون البديل اتساع الكلمة وانفتاحها لتطلّ علينا فراشة قلبه تراقص العشق و تسكن درب الهوى.

ففي البداية من البديهي أن ننطلق من عتبة العنوان، عنوان محير جاء لينفي القلب مع أن القلب هو محور الكتاب و عموده الذي تنسج حوله الشاعرة بـ"نول"كلماتها و خطوط عباراتها قصائد جاءت لتفتح روح الشعر و تنطلق معه نحو عوالم الحب و العشق و الجمال"لا قلب لي"جملة تنساب بين شفاه القوافي تبحر في صدر البيت و تعرج في عجزه.

فالمتتبع لمعجم الكتابة الذي اعتمدته الشاعرة يلاحظ ذلك الكم الهائل من المشاعر المدفونة في دفتي الكتاب فهي المرأة العاشقة و المعشوقة فهي زليخة التي تثير و تثار تصنع الحب تطبخه في قدر القلب لينضج ذلك الحب و يعبق عطره ليثير جنون حلم من ضياء و يلامس وردة خطت بلون الأرجوان كلاما لتضع قلبها في ضلوعها و تكون له ضوء الأحاجي و هي تفكك دمعة غيمة ينتشي معها الغياب.

ليظهر التمرد،التمرد النفسي و الشعري على قيود الكتابة النسوية المتعارف عليها عموما حيث اختارت من أنماطه كتابة القصيدة العمودية فهي التي تجعل من عمود الشعر سراجا ينير قصائدها يمارس سطوته على الكتابة، مما جعل نصها منفتح على تموجات وجدانية و انعطافات نفسية قادته للتكرار لتعيدنا الشاعرة إلى التشكيلات الجمالية على طول المقاطع الشعرية في الديوان فيتجلى حضور لفظ (العشق) و لفظ (القلب) و هو تكرار متعمّد في الديوان مرده الإيقاع السريع للألفاظ والكلمات مع كثافة الصور.

حيث نلاحظ أن الشاعرة في زخرف نصها اعتمدت على تكرار العبارات و الألفاظ والتي يمكن اعتبارها نفسا لا شعوريا أخذ من هندسة الشاعرة الروحية في بناء نصها حيث نجد تكرار لفظ (القلب) أكثر من 44 مرة في أكثر من موضع معتمدة على جنسنة اللفظ وإعطائه روحا إنسانية و أوصاف أخرى حسية مع تكرار عبارة (لا قلب لي):

لا قلب لي بل ياسمين
ينثال في لطف و لين
.....................
لا قلب لي بل أغنيات
عزف على ناي الحياة"(ص63)

ليصبح القلب ياسمينا و أغنيات و أقحوان و تصبح الشاعرة سنبلة تزهو و سوسنة تهفو إلى رشف الماء من نهر العشق:

"أنا ماء عشق قد تعطر طيبا
يخالط ماء الشعر عشقك في طيني
أخط تباريحي بجمر جوانحي
فما خطه العشاق لفح دواويني"(ص37).

هذا العشق الذي أضفى على مشاعرها و أحاسيسها جملة من الغايات ساهمت بدورها في تشكل الصورة خاصة هنا مع اعتماد الشاعرة على تكرار عبارة (العشق) و التي وردت حوالي 57 مرة في كامل الديوان و هذا يحيل إلى أن الشاعرة تعبر عن تجربة ذاتية خاصة:

"أحبك...أبصر تراتيل حرفي
فهل جنة إن جفاها خميل؟
أحبك أنت نبوءات ضوء
بلا زيتة لا يضيء فتيل
و واحات عشق تراود قلبي
فهل واحة ليس فيها نخيل؟"(ص45).

و لكن في الآن نفسه هي تعبر عن روح القارئ الذي يجد بعضا من أنفاسه في هذه النصوص كما تعبر عن محيطها و مجتمعها الذي هو جزء من الإطار الزماني و المكاني الذي كتبت فيه هذه النصوص، فهي بمثابة رسائل مضمونة الوصول للحب و العشق فهي تارة نبية للعشق:

"و بستان حلمي خصيب
فمد أنامل عطر
و هيت لقطفك
عميق يقيني
أنا من صلبت نبية عشق
بأهداب طرفك"(ص89).

و تارة تلتقط مشط الحروف و ترسل غيمتها في إتجاه البحر و تشدو لصحو الروح و ترثي مدينتها (نابل )التي مسها الضر:

"قل للغريقة ويح قلبي ما لها؟
إذ نوء ربي سرحت أغوالها
يا نابل الأنوار.. نبكي جنة
قد زلزلت أرواحها زلزالها"(ص57).

كما تحاصرنا الشاعرة نجوى بنمطية فرضتها الضرورة التاريخية للأحداث ( أهل الكهف – الفيل و محاولة هدم الكعبة ) التي وظفتها في ديوانها و كذلك الشخصيات ( موسى – هارون – يونس – يوسف – يعقوب – زليخة ). حيث استقت من نبع الماضي لترسم بريشتها الحاضر و تفتح أبواب المستقبل أملا في تغيير الواقع و إلقاء الضوء على قطع البلور المتناثرة في وطننا العربي.
لتكون زليخة الشعر التي تقد قميص الكلمات لتفضح بكلماتها و عباراتها نفسيتها كأنثى:

"سأقد همسات الجنون قصيدة
كانت على شفتي غفت مترددة
لغة الغرام بسيطة و جميلة
لغة كصوت الماء غير معقدة
قل هيت لي و امنح فوادي وردة
عرج بقلبي فالسبيل معبدة"(ص74)

و تكتب بكثير من الحب لتعبر عن عاطفة و إحساس أنثوي لتنصب نفسها نبية للعشق في زمن رجالي إحتكر لزمن نبؤة الكلمات لتولد النجوى و يولد العشق و الحب و الشعر من شفتيها عذبا عذوبة الماء:

"نجوى الحروف و ما أرق حمائمي
فافهم هديل الحرف في إنشائي"(ص21).

و في الختام يمكن القول عموما أن الخصائص الفنية للديوان تتجلّى في وحدة الموضوع وتنويعاته وتكامل بنائه العضوي والفنّي رغم وجود بعض القصائد المركبة التي تعكس الحالة الواقعية التي تعيشها الشاعرة من عشق وغربة وحزن و قلق وجدانيفهي العاشقة و المعشوقة و هي الباحثة عن الحب و مصدر الحب يدور في فلكها كون شعري فسيح اختارت له من جميل الشعر عموده جاء في سلاسة و انسيابية متقنة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى