السبت ١٣ شباط (فبراير) ٢٠٢١
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية «ليس البحر ما نسمعه»

عندما يبحث الشاعر رياض عمري عن الواقعية الشعرية التي تنطلق من اللحظة الأولى التي ألقت القصيدة أحمالها عليه، وهو جالس على شاطئ البحر يتلو الدهشة تلو الدهشة يرتب الأفكار والأذكار، يروي لنا رحلة الموج وينثر الجمال سنبلة حبلى بلطف الصيف لينزف الحبر مجموعة شعرية اختار لها من العناوين "ليس البحر ما نسمعه" لتكون عنوان أوّل مجموعة شعرية له صادرة عن دار الثقافية للنشر والتوزيع سنة 2021 والتي ضمت بين طياتها 38 قصيدة نثرية في 94 صفحة من الحجم المتوسط، كشف خطوط رؤاها ونسيج خيوطها الدكتور فتحي خليفي.

في البداية وأنت تحمل ظل الريح وظلك وارف كقطعة حلم تسمع البحر تقف عند عتبة العنوان " ليس البحر ما نسمعه " عنوان فيه الكثير من الإيحاءات، ولكن الملفت للنظر أكثر وانطلاقا من واقعنا جعلني أستحضر عادات وممارسات طفولية فمن منا لم يجرب سماع صوت البحر في أصدافه ونحن نتذكر قليلا حلاوة الصوت وعذوبته، في اندهاش، كيف يمكن أن تخزن الصدفة في الذاكرة ضوضاء الأمواج. ولكن تلك الضوضاء في الحقيقة هي ضوضاء العالم.

فالمشاعر لدى الشاعر رياض عمري تتقلب في وجدانه وتخرج من عالمه الخاص به إلى نطاق عالم المحسوسات إلى عالم آخر لا يدركه إلا من عايش فن المسرح وعشقه. فالمتأمل في هذه المجموعة يلاحظ أن أغلب النصوص مهداة لمسرحيين أو لكتاب مسرحيين مثل (سعد الله ونوس) وكذلك تتحديث عن شخصيات مسرحية مثل شخصية (الكتسي/سلطان) في نص (يجادلني الفن)، أو مستوحى من نص مسرحي كنص (سنبلة خريف) أو عن المسرح بكل ما فيه من أدوات و تقنيات لضبط الصورة المرئية للعرض المسرحي كـ:(الممثل، مكان العرض، الجمهور، الإخراج، الديكور، الإضاءة، الملابس، الماكياج، الإكسسوار، الموسيقي...)، و الذي يبرز في نص (وقفتنا الأخيرة) المهدى للمسرحي أنيس عكرمي (ص50):

"يمد عنقه في الغرفة
يستقبل أغصانها المزهرة من الشباك
يغني
يرقص إيقاعا زورباوي الوجع
والكتب
عالمه المسرح جواده السباق الموسم
والصبايا
تملأ السلال بحرا من ماء عينيه"

ليرسم لنا مشاهد شعرية درامية متحركة زادت في حركية النص كفراشة بألوانها الزاهية تحوم حولنا ناشرة إحساسا طيبا بالأمنيات والأغنيات العذبة، وكذلك في نص (جراح ليست لنا) عندما يقول (ص36):

"يا لوحة المسرحي المدمى عقله بالانكسارات
يا بهو القصور وقلعة القرنفل
يا زلة القلب حين ودعك كل ما يستطيع...
كل ما قد يحذف من القصائد"

فالمتأمل في مجموعة "ليس البحر ما نسمعه" يلاحظ اهتمام الشاعر في نصوصه بالمسرح معتمدا على لغة مسرحية فيها الكثير من الإيحاء تارة والتصريح تارة أخرى والتي جمع فيها صاحبها الخرافي والتخيلي والحلم كما ينتفي فيها الزمان والمكان، والتي يصفها كاتب العبث الفرنسي يوجين يونسكو بأن اللغة المسرحية تعتمد على العالم الخرافي الرائع، كما يصف المسرح بأنه تقمص الأحلام والخيالات التي تفقد القيمة المادية للزمان والمكان. وهذا الأسلوب يجعلنا نتابع مشاهدة قصائده التي نقرؤها بشغف شديد دون ملل كأننا نشاهد عرضا مسرحيا.

كما أن العلاقة بين المسرح والشعر ليست علاقة تنافر بل هي علاقة تكامل حيث أن كل واحد هو مكمّل للآخر ويضيف له ما يضيف من الجماليات ومتعة، بالإضافة إلى أن الإغريق أول من أسّس للمسرح الشعري أو الشعر المسرحي تمجيداً لآلهتهم في ذلك الوقت.

والمتتبع لتموجات نصوصه نلاحظ تكرار عدد من الثيمات التي حاول من خلالها الشاعر بناء نصه عليها على الرغم أن يلجأ في بعض الأحيان إلى الرمز والإشارات والإيحاءات إلا أنه في الآن نفسه يصور لنا صورة مألوفة محسوسة قادرة على نقل المعنى للمتلقي، يقول في نص (في البدء كان البحر يفكر) ص13:

"البحر يتلو الدهشة تلو الدهشة
ما يرى أمامه في رحلة الموج محض خلق
زرعه قلق الآدمي وحش الحضارة
فقامت على مرأى من البحر المعجزات"

وهنا نقف عند أيقونة (البحر) حيث نلاحظ أن الشاعر في زخرف نصه اعتمد على تكرار عدد من الثيمات كـثيمة: (البحر) التي تكررت أكثر من (15 مرة) والتي أخرجها الشاعر من بعدها الحسي الملموس إلى بعدها التخيلي والرمزي عن طريق تركيب صور استعارية ورمزية تعطي القارئ عدة تأويلات، فلم نعد معها نشاهد الصور بقدر ما أصبحنا نحس إيقاعها ودندنة عباراتها والتي تحمل عدة معاني مختلفة سواء كان ذلك عن طريق الإشارة إلى المعنى أو عن طريق جعل المتلقي مؤولا لأفكاره في المجمل يقول (ص 28):

"البحر لا يعرف أهل العروس
البحر رجل مسن أتعبه الدهر
يحفظ عن ظهر قلب قصص اليتم
وأحلام الفصول بتقويم بدائي
البحر دائما يربت على أكتاف العشاق
ولا يعتني بالجزر"

وكذلك ثيمة (الريح) التي تكررت حوالي (7 مرات) حيث يقول☹ص54):
"أيتها السماوات أطلقي أوامرك إلى الرياح العتيدة
أيتها الرياح اعصفي...ولولي بحق هذه الليلة الغادرة
بحق من يملك أمرك...وسموك...
أغرقي الخيانة بآلاء أبي البحر"

وهو ما يحيل على ارتباط البحر بالريح وما ينجر عنه من اضطراب وتقلب والذي يمكن اعتباره تعبيرا نفسيا لا شعوريا أخذ منه الشاعر هندسته الروحية، فـ" الصورة في الأسلوب تقتضي إعطاء الفكرة المجردة شكلا محسوسا" (1). وهذا الأسلوب الشيق يصور الصراع الذي يعيشه بما يخامره من إحساس مرهف يدفعه إلى التعبير عما يحيط به، باعتماده على قوالب إبداعية غاية في الدقة والإتقان ليعبر عن تجربة ذاتية تنبثق من دهشة البحر ليملئ من سلاله قبل أن يأخذ بالمجازفة.

وفي النهاية يمكن القول إن أصوات القصائد عند رياض عمري أصوات تلامس ظلال الواقع وتسبح في خيال نبيذ الشعر والمسرح، وهو ما يفضح عن خصوصية الكتابة وتفرد زفير الكلمات، خاصة عندما يجعل من (الطفولة عجوز ترتمي في التيه بلا عكاز)، فنلاحظ انسياب الكلمات عنده وتواترها كتدافع الأمواج لتلتقي بالشاطئ.

 صبحي البستاني: الصورة الشعرية في الكتابة الفنية: ط1 دار الفكر اللبناني بيروت، 1986، ص10.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى