الأربعاء ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٢٠
بقلم الهادي عرجون

قراءة في رواية «ذاكرة الأقفاص»

عندما يصير الواقع أكثر فانتازية من الخيال ويصبح فيه التخييل القصصي والروائي من رحم الواقع جزءا لا يتجزأ من ثراء المادة التي يعتمد عليها الراوي في حفز عوالمالكتابة الروائية وفي دفع شخصيات الواقع وأحداثه إلى جملة من الملاحظات والتأملات والأحداث لنقد الواقع بما فيه من سلبيات وتناقضات،فهي حكايات متفرقة من الذاكرة ومن الواقع ومن الخيال ومن المحكي معجونة بالواقع.

هكذا خيلي إلي وأنا أنظر بعيني رابعة وهي تشاهد تلك: "النملة العالقة في خيوط العنكبوت والتي كانت تتدلى أسفل الأريكة ..." أو هكذا بدا ركن من ذاكرة الأقفاص يرتعش بين يدي... أو هكذا بدا صوت من بين الكلمات يهمس إني أرى قفصا"احتفاء بأفكار جانحة تنسل من بين القضبان وترفرف عاليا لتعانق الغمام". هكذا بدت رواية " ذاكرة الأقفاص " للكاتبة كريمة العباسي الصادرة سنة 2020 عن دار الفردوس للنشر والتوزيع.

تندرج الرواية انطلاقا من أحداثها ضمن الأدب الواقعي الذي يطلق عليه بمصطلح " الواقعية الأدبية " وهو عبارة عن محاولة تصوير الحياة تصويراً واقعياً دون إغراق في المثاليات، أو جنوح صوب الخيال المفرط المأخوذ بناصية الغموض.

فالواقعية في مجملها هي التحرر من كل شيء وتحطم كل الأغلال والقيود، فهي التي تحرر اللغة كما تحرر الذات الإنسانية، لإن الكتابة هي أداة تحرير الإنسان أينما وجد وكيفما كان، وتصوير أحداث الواقع هي جزء من الكشف والتحرير لوجودية الإنسان بعيدا عن إشكالية الرمزية المطروحة في عالم الكتابة السردية الحديثة.

لا أخفي عليكم أنني وأنا أتصفح الرواية قرأت المقطع الأول وانتقلت للمقطع الثاني تملكني شعور القارئ المتسرع... ما وجه الترابط بين جزئي الرواية؟ لينكشف ذلك الخيط الذي طرزت به وردات فستان زفافها هو نفس الخيط الذي نظمت به كريمة العباسي خرزات روايتها الثلاث " شخص واحد شعرت رابعة أنه قد اهتم بملفها. صاحبة معمل الخياطة الأكبر في المدينة "(ص95)جملة بسيطة واحدة كانت كافية لجعلها رواية لها خصوصيتها في ترتيب الأحداث وفي طريقة سردها.

فالكاتبة كريمة العباسي تحاول أن تكون بسيطة في طرح أقاصيصها ورواياتها المنبثقة من رحم الواقع والحياة، وهذا ليس عيبا حيث اعتمده عدد من الكتاب العرب.

كما أن اختيار الكاتبةللأسلوب الواقعي أو ما يسمى بالشكل التعبيري-الواقعي-هو غاية وهدف اعتمدته في كتابة مجموعتها القصصية " اغتيالات "وكذلك الشأن في رواية ذاكرة الأقفاص" التي نتناولها بالدرس. همها الكشف عن خبايا هذا المجتمع وما تعانيه المرأة في مجتمع ذكوري تحكمه التقاليد وسلطة الرجلوعنفه لإيصال رسالتها الإنسانية والمعرفية إلى الآخر من خلالها، ومن خلال ارتباطها ككاتبة بالمكان الذي تعيش فيه وتفاعلها مع القضايا التي تناولتها وتفاعلت معها ومع معانات الشخصيات التي وظفتها في الأحداث والتراكمات الاجتماعية والطبقية والبطالة، فالكاتبة هنا تستل قلمها وتوظفه لفضح وكشف وتعرية كل ما هو سلبي وغير ايجابي داخل بيئتنا ومجتمعنا هو ما يجعلها مرتبطة أشد الارتباط بالمكان.

ذاكرة الأقفاص وأنت تخرج من عالمك إلى عالم قصصي تتراقص شخصياته أمامك تود أن تشتعل الذاكرة أكثر فأكثر وأنت تصارع تتالي الأحداث وانسيابية السرد وأنت تتنقل بين حكايات حقيقية رغم بنائها المتخيل والمركب، مستوحاة من الواقع المعيش.
وقبل أن تأخذ قلمها لتخط ما في ذاكرة الأقفاص من وجع أخذت منديلها لتمسح دموع وآلام شخصياتها المسحوقة والمهمشة في مجتمع لا يرحم وفي وضع مأساوي اقتضته الأوضاع الاقتصادية المتردية، ولكن حساسية الكاتبة المفرطة وهشاشة عواطفها التي انسابت مع الشخوص جعل ذلك المنديل أشبه بإسفنجة تمتص سريعا دموع وآلام وردات ورابعة.

مع العلم أنني لا أجد ترابطا بين أسماء الشخوص والبيئة التي نعيش فيها، فالاسم لابد أن يكون وليد تلك البيئة ومطابقا للشخصية. يقول الكاتب والروائي أمير تاج السر في إحدى مقالاته: "أعتقد جازما وبعد سنوات طويلة من القراءة والكتابة بأن أسماء الشخصيات في أي عمل قصصي أو روائي، يجب أن تكون مطابقة للشخصية، بمعنى أن الاسم يجب أن يشبه الشخصية في مكوناتها وصفاتها وبالتالي يكسبها قوة…كما يجب أن يكون الاسم في نظري له إيقاعه الخاص وملائما لبيئة الحكي وزمنه"(1).

فاسم شخصية عاهد مثلا يبدو في نظري رقيقا ولينا ولا يشبه اسم البطل الغامض المهرب وتاجر الممنوعات، فمعنى اسم عاهد في قاموس المعاني والأسماء يعني الملتزم بالوصايا والمواثيق والعهود، والموفي للذمم، والحافظ للحرمات.كما أرى أن اسم جاسر الذي لم أتصور أن صاحب ذلك الاسم بهذه الصفات التي بدت غير مطابقة لشخصيته العنيفة التي صورتها وأعطتها تلك الصفات التي يلبسها الكاتب لشخصياته، فجاسر كذلك في قاموس المعاني والأسماء يعني الشخص المقدام والشجاع والجريء الذي لا يخشى أحد، وبأنه يتفانى في تحقيق أهدافه، وهو شخص اجتماعي، كما أنه يدافع عن المظلومين والضعفاء.

كما يمكن القول أن طبيعة الحياة وتفاصيلها الدقيقة، وواقع الناس اليوم، وطرق كسب معيشتهم ومعاناتهم الانسانية، وطبيعة المكان، والشخصيات الواقعية كلها لها دور هام في تحديد اسم الشخصية.

ومع هذا فالكاتبة تتماهى مع شخصياتها التي تدور في فلك الاحداث لتختلط شخصية الراوي بشخصيات الأبطال، ليظهر من سطح الذاكرة تلك الشخصية التي تربك الراوي فيتجلى البطل العالم بكل شيء ويختفي الراوي خلف فكرة تولد في خيال الشخصية. يقول جاسر: "هل تنوين قتلي يا رابعة؟ انتفضت في مكانها، ارتعبت. كيف يمكنه أن يقرأ دواخلها بهذه البساطة؟"(ص91).

وبعيدا عن كل ذلك يمكن القول إن شخصيات رواية "ذاكرة الأقفاص" تسعى جاهدة للتحرر من قيود الماضي ولكنها تقع في ثقل الحاضر فالإنسانية على رأي إليوت لا تتحمل كثيرا من الوقع، لذلك تسعى الكاتبة إلى بث بصيص من الخيال يبرق بين الحين والآخر.

فالروائية هنا عندما تكتب لا تهتم لأي شيء، كل ما يشغلها هو القبض على الفكرة، وكيفية صياغتها، وهو أسلوب جميل في حد ذاته ولكن لابد من الاستماع للقرين المبدع -ان صح التعبير -الذي يظل يراقب كلماتها وأسلوبها وتقنياتها وخطاباتها، والحريص كل الحريص على نقدها وانتقادها والذي نادرا ما يكون راضيا عن الفكرة أو كيفية إخراجها.

فالفكرة التي تبحث عنها والتي تحاول اقتناصها هي مجموعة من الذكريات التي تحاول أن تستجمعها وترتبها خاصة وأن الرواية مبنية على فعل الذاكرة والتذكر فالرواية مبنية على الذكريات، والذي يطلق عليه النقاد عدة مترادفات أخرىلهذا المصطلح تستخدم في اللغة العربية، مثل: "الارتجاع الفني" أو "الخطف خلفا"، "السرد الاستنكاري"، "الاستذكار"، "الاستدعاء"، "الاستحضار من الماضي". حيث ورد فعل التذكر عدة مرات في مفاصل الرواية (مازالت تذكر-لتذكر نفسها – تذكر والدها-ذاكرتها التي تأبى النسيان – تتزاحم الذكريات-ذكريات كثيرة تواترت عليها وازدحمت – سافرت بذاكرتها...).

فالذاكرة هي نصف الحياة التي نعيشها، يقول ميلان كونديرافي روايته " خفة الكائن التي لا تحتمل": نحن نعيش نصف حياة فقط، أما النصف الآخر فذاكرة"(2)، وباعتبار أن الرواية هي ظاهرة من ظواهر التذكر أولا والتي يمكن أن نفصلها عن تخيل عوالم لا علاقة لها بالواقع فهما يعملان في خط متواز ولهما دور هام في بناء النسيج السردي للرواية، وعمومافإن الذكريات تبقى من أهم ما اعتمدت عليه الكاتبة في بناء روايتها "ذاكرة الأقفاص".

وهذه التقنية جعلت من الرواية مسرحا لذكريات الطفولة والحياة فانطلقت سيلا من الأفكار والدموعمع بعض الاضطراب، ومع هذا يمكن القول إن الكاتبة نجحت في مهارات بناء الذاكرة. وهي تحاول بحنكة تتبع خطوات أصابعها وهي تخط آخر عبارة" ...وحدها ظروف الأرانب والقبرات لم تتغير..."(ص 135). هذه العبارة التي تمنيت أن تقف عندها الكاتبة والتي تمنيت فيها أن تستمع للقرين المبدع في داخلها ليكتمل النص.

فالقرين المبدع كما يعرفه الروائي المغربي " أحمد الكبيري " بأنه: "هو صاحب البناء لا يكف عن ابداء ملاحظاته وتوجيهاته. وطبعا دون أن يكون فعل الكتابة خاضعا لأي طلب ولا موجها وفق أي أيديولوجيا، ما عدا الأفكار والحريات والقناعات التي أؤمن بها، والتي تنتصر في أغلبها للإنسان الضعيف المقهور حيث كان"(3).

من خلال اطلاعي على " اغتيالات " و" ذاكرة الأقفاص" يمكن القول إن الكاتبة كريمة العباسي كاتبة المهمشين والمضطهدين من بنات جنسها تبحث عنهم في القرى والأرياف والأحياء المهمشة والمهملة التي يحصل فيها التعدي على حقوق المرأة واضطهادها وما يحيط بها من صراعات عائلية وما ينجر عنه من هتك ومجون لتوصل أصواتهم وصرخاتهم عبر الكتابة. فهي صوت الطبقات الدونية في المجتمع.

فلا عجب إن شعر القارئ في بعض الأحيان أنها تخاطبه، فإن مخاطبة القارئ هي صيغة للجمل مبثوثة هنا وهناك لا تكاد تتخفى (لعلها من إرث مهنة التعليم) و" لذلك لابد من عين قابعة خارج الكتابة تغمز من هذا الخارج وتعيد الغمز مبتغية ضبط عمل الكتابة"(4).

وفي الختام ينكشف لنا الخيط الأسود من نور عدسة الكاتبة كريمة العباسي التي جعلت من الواقع المعيش مادة روائية إبداعية اختارت لها من قوالب المتخيل والمركب بناء تتحرك فيه شخصياتها بحرية يجمعها الواقع وتسيرها الأحداث لتلقي علينا حمولتها من رسائل ومواقف وأسئلة أرادت منا اقتسامها مع القارئ الذي يحرك مشاعره الواقع ويسعده الخيال.

فالكاتبة حاضرة حضورا فاعلا في الرواية سواء كان ذلك كإحساس أو كذات أو كموقف أو كأسلوب فشخوصها جلها شخوص مركبة معجونة بواقع انساني صعب يتقاطع فيه الحب مع متاهات الضياع والحرمان مع الظلم... عالم ظالم تحكمه أصوات متعددة ومع هذا تتقاطع فيها ذات الكاتبة مع ذوات أخرى لنرى الكاتبة تنزف مع جراحات وردات وآلام رابعة.

 أمير تاج السر: روائي وكاتب سوداني.

 ميلان كونديرا:روائي فرنسي من أصول تشيكية، صاحب رواية كائن لا تحتمل خفته، ترجمة ماري طوق،المركز الثقافي العربي.

 أحمد الكبيري: روائي مغربي.

 أحمد بيضون: أحمد بيضون، مداخل ومخارج: مشاركات نقدية: ص17.المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى