قراءة في رواية تغريدة البجعة
يمور المشهد الروائي المصري بتحولات متعددة، تشهد لثرائه و تنوعه، وتندّّ عن تنوع سردي خلاق، يحتفي بالتعدد، و يتسم بانفتاح النص الروائي على أفق مغاير، و تمثل رواية (تغريدة البجعة) للكاتب (مكاوي سعيد) إحدى تجليات هذا المشهد المسكون بتحولات رؤيوية و تقنية متعددة.
بدءاً من العنوان- أحد أهم عتبات النص- ثمة إشارة نصية داخل الرواية تحيلنا على عنوانها، حيث يُشَبّه السارد الرئيس إحدى الشخصيات المركزية في الرواية(عصام) و هو في صومعته بحال (البجعة) حين تصدح بأغنيتها الأخيرة و هي على حافة الموت؛ غير أن هذه (النصية) كانت مراوغة إلى حد كبير، حيث نكتشف أن (الراوي) نفسه يعزف لحنه الأخير.
تمثل منطقة "وسط البلد/القاهرة" نقطة الانطلاق داخل الرواية، فمنها يبدأ السارد حكايته الرئيسة، و الشئ اللافت في النص أنه لم يتعامل معها وفق رؤية سابقة التجهيز، و لكنه تعاطى معها وفق ما يمكن تسميته بالرؤية من الداخل، حيث ثمة وعي عميق بالتكوينات الاجتماعية المشكلة لهذه المنطقة فضلاً عن الوعي بالمكان الروائي و دلالاته.
يمثل (المقهى) البؤرة المركزية التي تتفرع منها الحكايات و الأماكن (المنيا/ المكسيك/ سنغافورة) لتصير "وسط البلد" بمثابة النداهة السحرية التي ينجذب إليها الشخوص بتبايناتهم المختلفة، لتتجاور من ثم في "تغريدة البجعة" أمكنة متعددة و ثقافات مختلفة، لنصبح أمام وعي (كوزموبوليتاني) يتجاوز الواقع المحلي ليرصد واقعاً أشمل، و أشد شراسة في الآن نفسه؛ واقع تشكله آليات السوق الراهنة، و الرأسمالية الغازية:
"الوقت بعد منتصف الليل بقليل. و المقهى على وشك الإغلاق، ثمة رواد قلائل لا يشغلون أكثر من منضدتين، يلعبون بروح ثأرية غير مبالين بالبرد و الصقيع. كنت أحتمي بوجودهم ضد كآبة الجرسون و عصبيته و هو ينظر إلى ساعته بمعدل ثابت كل خمس دقائق. ثم يهز رأسه بعصبية و غيظ."
يعيش السارد حالا من الإخفاقات المتكررة طيلة النص، و ذلك على مسارات متعددة: أولاً: المستوى العاطفي: فهو لم يكمل أي علاقة حب و يوصلها إلى منتهاها، ف (هند) قتلتها دانة من بقايا الحرب (في إشارة مفعمة بالدلالة)؛ و (زينب) رحلت إلى المكسيك بحثاً عن لحظة أمان مبتغاة؛ و (ياسمين) لم تستطع أن تسد فراغ (هند) و لم تكن بديلاً لها؛ و (مارشا) لم تكتفِ بالسارد و لم يكتف بها. ثانياً: ثمة إخفاق آخر على المستوى الواقعي (العملي) حيث لم يستطع السارد أن يكون ما يريده، فلا هو أضحى بالشاعر الكبير و لا صار كاتب الأغاني الشهير!
إن السارد موزع إذن بين عوالم و حيوات متعددة، واقف على تخوم الأشياء، يبدو أسيان على حاله، إنه يعيش حالة من التأسي الحقيقي، و الذي لم تجدِ معه الأدوية المهدئة التي يتناولها، و لا الزيارات المتكررة للطبيب النفسي.
ترصد رواية (تغريدة البجعة) مجتمعاً لا يمثل- في ظاهره- متناً بأي حال من الأحوال: (الأجانب/ المشردون) طارحةً صيغة جديدة للهامش، و متجاوزةً الأفق المعهود له. فالهامش هنا له تجلياته المتنوعة، و من ثم نرى تجاوراً بين (مارشا) الأمريكية و (كريم) المشرد.
ثمة احتفاء بالتقاصيل الصغيرة، و الدالة على عالم واقعي يتم رصده، غير أنه الواقع المصوغ صياغة جمالية، حيث لا انعكاس للواقع، بل استجابة جمالية تعبر عنه.
يغوص السارد في أعماق شخوصه، و قد أتاح له استخدام ضمير المتكلم قدرة بارعة على اكتناه النفس البشرية، و الإفصاح عن عوالمها االخبيئة؛ يمثل (مصطفى) السارد/ البطل (الشخصية) المركزية في الرواية، و الذي نتابع بعينيه ما يدور داخل الرواية، فهو يمثل راوياً عليماً، ينقل زوايا النظر إلى شخوصه كيفما اتفق له، و هذا ما يبدو على السطح، لكن النظر إلى علاقات السارد بالشخوص ، و ارتباكه في تحديد هوياتهم الحقيقية، و أحوال القلق و التحول التي تنتابه إزاء النظر إليهم – تعد نظرة السارد إلى شخصية (سامنثا) دليلاً على ذلك- كل ذلك يدفعنا للقول إننا أمام راوٍ محايد، و تعايش الوظيفتين و تجاورهما في الرواية بدا موظفاً بشكل دال و كاشفاً عن تنوعات سردية مدهشة داخل النص.
ثمة تحولات درامية مبررة لبعض الشخوص، أبرزهم (أحمد الحلو) اليساري الراديكالي الذي تحول إلى إسلامي راديكالي أيضاً (فالجذرية طابع أصيل له في كلتا الحالتين). هنا في (تغريدة البجعة) كل شئ خاضع للحركة، و الرصد لهذا الواقع المتغير، و التفسير لسلوكيات الأفراد بداخله مهمة أصيلة للسرد، الذي يتجاوز حد كونه حاملاً للوظيفة الإخبارية، متجاوزاً إياها إلى آفاق بعيدة.
و تتعدد التقنيات داخل رواية (تغريدة البجعة) منبئة عن نص ثري متعدد الطبقات، و من أبرز التقنيات المستخدمة هنا توظيف الكاتب لتقنية (البناء الدائري) في بعض الفصول السردية، حيث يبدأ الفصل السردي من نقطة ما ثم يعود إليها، و كأننا ندور في حلقة مفرغة، مثلما حدث في الفصل (الثاني و العشرين) و الذي يبدأ بذكر حادثة تاريخية تتعلق بتعامل الدولة العثمانية مع حدوث الثورة البلشفية في روسيا 1917، حيث أخذ مقص (الرقيب) يمارس هوايته المفضلة في الحذف و التزييف، حيث تم ذكر الخبر على أنه (حدثت خناقة في روسيا بالأمس)، و هذا ما ينتهي به الفصل حين يبرز الكاتب تعاطي (الميديا) مع خبر الاقتحام الاسرائيلي لغزة؛ و توظيف البناء الدائري هنا، يعمق المأساة و يدين تزييف الواقع و تسطيحه، فضلاً عن فضحه للتواطؤ الرسمي.
و من التقنيات المستخدمة أيضاً توظيف تقنية التقطيع السينمائي المتوازي، ففي نفس الآن يطل علينا حدثان سرديان متوازيان، في استفادة واضحة من فن (السينما) و بتوظيف (واع) للثقافة البصرية بمدلولاتها الثرية، و ثمة تقنية أخرى يوظفها (مكاوي سعيد) مستعيراً إياها من حقل (الفنون البصرية) وهي "كسر الإيهام" حيث يوجه السارد خطابه السردي إلى القارئ/المتلقي حيناً أو إلى إحدى الشخوص الغائبة عن السياق السردي حيناً آخر، و هذا ما بدا في مخاطبة (المروي عليه/ هند) داخل النص:
"لا أنت تركتني يا هند و رحلت، و لا أخذتني معك.. و أنا طفلك الذي تركتيه بلا حماية. فماذا تتوقعين؟"
يوظف الكاتب المونولوج الداخلي توظيفاً دالاً فبدا متواشجاً مع خط القص الأول :
"طريق طويل محفوف بالمخاطر أصبحت أخوض فيه. عالقاً بين شتى العوالم بلا حب حقيقي. فلا ياسمين تطابقت مع هند و لا مارشا اكتفت مني و كفتني الأخريات.."
لم تكن افتتاحيات الفصول السردية منشأة في الفراغ بل أضفت طابعاً عميقاً على الرؤية السردية، و مثلت تقديماً للحكاية و تمهيداً لها، فقبل الحديث عن (مارشا) الأمريكية مثلاً يتحدث السارد عن آليات هيمنة الثقافة الأمريكية.
تمثل شخصية (خليل) ما يُعرف بالشخصية الحافزة أو المحركة ، وهي الشخصية التي تحدث تغييرا في الموقف السردي الراكد. فالحضور المتفاوت لخليل أسهم في توالد عدد من الحكايات الفرعية المتصلة بالمسار السردي للحكاية الرئيسة.
و بعد... عبر (لغة) تتنوع مستوياتها ما بين الكلاسي الرصين، و اليومي المألوف، و راوٍ تتعدد ماهيته بين (عليم) و (محايد)، تتشكل رواية (تغريدة البجعة) متكئة على توظيف دال للمكان الروائي الذي يصبح مرتكزاً لعالم سردي قائم و مستقل بذاته، مستفيدة من الحضور الواعد للفنون البصرية في فضاء النص الروائي الراهن.