قصة الخفير
كانت المحطة تقع بجانب بستان الشيخ " عرفان " أكبر البساتين فى المنطقة على الاطلاق .. وفى مواجهتها ترعة الإبراهيمية وفى الشرق والجنوب تمتد المزارع وأشجار الجميز والسنط وعلى امتداد البصر تبدو حقول القمح المحصودة .. والذرة المزروعة حديثا .. والأرض الجرداء الملاصقة للجبل الغربى ..
ويبدو من هنا وهناك شريط ضيق بين المزارع ينحدر حتى مجرى النيل ويلتف ويدور صاعدا حتى المحطة ..
وكانت المنطقة آمنة .. فقد تحول الناس بكل طاقاتهم إلى العمل والكفاح فى سبيل الرزق ونسوا حياة الفراغ والجهالة فيما سلف من الأيام ..
وكانت المحطة مع صغرها معروفة وكثيرة الحركة لأنها المتنفس الحديدى الوحيد لعدة قرى متقاربة فى الصعيد ..
وكانت مشهورة أكثر من أى شىء بخفيرها " سليمان " وهو شيخ متوسط الطول حاد البصر ..
كان له فى شبابه تاريخ حافل بالتصدى لرجال الليل وقطاع الطرق ، فلما طعن فى السن وترك المزارع والوابورات إلى المحطات .. عاش من وقتها على صيته القديم فلم يطلق رصاصة واحدة طوال حياته فى السكة الحديد ..
وكان يؤدى عمله اليومى بأمانة عديمة النظير .. فيحب المحطة وناظرها وعمالها ودخان قاطراتها وكل ما فيها من جماد كأن كل هذه الأشياء قطعة من جسمه ..
وتحرك كعادته كل صباح على الرصيف يرقب عربات البضاعة والعمال يحملونها بالأكياس .. وهم يثرثرون ويغنون .. ولاحظ حركة السيمافور المفتوح على خط القاهرة .. لمرور الاكسبريس .. فجلس على كتلة من الخشب ينتظر مروره .. طاويا البندقية بين رجليه .. وأشعل سيجاره وأرسل عينيه السوداوين إلى ما وراء الترعة .. وكانت الشمس قد ارتفعت وضوؤها يبهر الأبصار .. وغمرت صفرتها المحطة وكل ما يحيط بها فبدت المزارع والمياه والبساتين وحتى الرمال التى تبدو من بعيد فى الجبل ، مكتسية بلون الأرجوان ..
وأخذت الريح تهب لينة مداعبة اوراق الشجر .. وصفحة المياه وأعشاش الطيور .. وبدت السيارات الكبيرة المحملة بالبضائع والركاب تثير الغبار على الجسر ..
وفاض سيل الحياة المتدفق فى دائرة قطرها ثلاثة أميال على الأقل فدارت وابورات الطحين والسواقى والطنابير .. وأخذ الفلاحون يعزقون الأرض ويفلحونها .. ويسوقون المواشى إلى مرابطها فى أطراف الحقول ..
ولاحت أشرعة المراكب من بعيد فى وهج الشمس وهى تتحرك ببطء فى النيل فقد كانت الريح لينة والقلوع لاتشيل ..
وقبل أن يمر قطار الاكسبريس .. سمع الناظر رنين جرس التليفون .. فدخل المكتب .. وقبل أن يرد عليه قطع ورقة من النتيجة نسى أن يقطعها الفراش وهو ينظف المكتب .. فظهر يوم 5 يونيو .. بخط كبير وجلس يتلقى من محطة المنيا محادثات هامة عن تحرك القطارات وشغل فى مكتبه عما يدور فى الخارج .. وظل العمال ومن فى المحطة فى عملهم الصباحى المألوف ..
وأزت فجأة طائرات فى الجو .. ثلاث طائرات صغيرة كالنسـور مرت فى سماء المحطة وهى منطلقة بأقصى سرعتها .. وتطلع إليها العمال .. وأوقف الفلاحون حركة المذارى فى أجران القمح .. وحولوا وجوههم عنها فقد أخذ الهواء يعصف ويدوم ويطير التبن فى عيونهم من فعل الضغط ..
وحدق "سليمان" الخفير .. فيها طويلا حتى غـابت عن بصـره واحتوتها السماء .. وبدت بعدها السماء صافية وفى زرقة ماء البحر .
وتصور من فى المحطة أنها طائرات مصرية فى طريقها إلى أسوان .. ولكنهم عرفوا بعد قليل من الاذاعة .. أن اسرائيل هجمت فى جبهة سيناء والطائرات مغيرة .. ووجم " سليمان" قليلا لما سمع الخبر ، ولكن ما عتم أن صفت نفسه ولانت ملامح وجهه .. فقد كان على يقين من النصر ..
واخذ يسترجع فى ذاكرته كل ما سمعه ورآه .. من مواقف البطولة التى وقفها المصريون وهم يقاتلون الأعداء فى الزمن القريب والبعيد ..
ورجع إلى ميدان المعركة وكان عالم الرؤية يبسط أمامه المواقع فى الجبهة .. تذكر هذا كله .. فرأى الجيش المصـرى بكل فرقه بمشـاته ومدرعاته ودباباته وطائراته يتقدم صوب اسرائيل لسحقها .
وظلت الصورة فى رأسه مبهجة تهز المشاعر .. حتى سمع همسا فى العصر يدور .. على ألسنة الناس .. فارتعش بدنه .. ولكن شجاعته لم تبارحه ويقينه من النصر لم يتزعزع .. فلم يصدق الخبر وغضب غضبا شديدا وكاد يحطم كل متحدث به حتى ناظر المحطة نفسه ..
وفى الليل ظل جالسا وحده .. ينظر إلى الحقول .. ويسمع حركة القطارات وقد أطفأت أنوارها ..
وكانت أسلاك البرق تهتز فوقه ، والظلام يخيم على القرى والمزارع والمحطة غارقة فى الظلام .. خيم جو الحرب بسرعة ..
وكانت صفحة النيل هى الوحيدة التى تلوح بيضاء فى هذا السواد .
وخرج ناظر المحطة من مكتبه .. منفعلا يغلبه التأثر وقد أحس بمثل السكين تغوص فى قلبه .. وقال بصوت يرتعش من الغضب .. اتهزمنا إسرائيل .. يا شيخ " سليمان " ؟ !.. يا للعار .. نتراجع ياللعار .. فلنقاتل حتى الموت .. لنعيش كراما ..
وتجهم "سليمان" .. وأخذ يهدىء من روع الناظر .. ويعده بتحول الحال .. وظلت الأفكار تلاحقه .. أيذهب هو الى الجبهة .. إن ولديه حسن .. وعبد الرحيم .. هناك .. أيذهب هو أيضا ؟ .. إن زوجته قادرة على رعاية الأسرة فى غيابه ولكنهم لايقبلون تطوعه .. فهو شيخ قارب على الستين .. يكفى ولداه .. وقد يقتلان ولكن قبل أن يقتل أى واحد منهما سيقتل عشرة من الصهيونيين على الأقل .. ويكفيه هذا فخرا .. وسيكون النصر .. والشجاعة توحى بالإيمان والأمل ..
ظلت الأنبــاء عن المعركة متضاربة .. حتى الساعة التاسعة ليلا ..
وفى الساعة العاشرة وقف قطار يحمل الجنود الذاهبين إلى المعركة .. فسرت انتفاضة فى جسم " سليمان " .. وأخذ يرحب بهم .. ويشعل فيهم نار الحماسة ..
وبعـد أن تحرك القطـار .. أحـس بصوت عجـلاته يدوى فى قلبه ..
وخيم السكون على المحطة .. وكان الظلام تاما فى كل مكان .. وعاد صوت الطائرات فى الجو .. وصوت المدافع المضادة يسمع من بعيد ..
وسمع "سليمان" أن طيارا هبط بالمظلة بعد أن أصيبت طائرته قريبا من قرية تل العمارنة .. واختفى فى الحقول .. وأخذ البوليس يطارده .. وانتصف الليل ولم يعثروا له على أثر .. وازداد القلق والتوتر واشتعل رأس "سليمان".. وأخذ يرسم فى رأسه الدائرة التى يمكن أن يختفى فيها هذا الطيار .. بعد أن طارده البوليس بخيله ورجاله .. ووضحت الصورة فى ذهنه ..
واعتقد أن القدر وضع فى طريقه حدثا جللا بعد كل هذه السنـين الطويلات المدد ليمتحن قدرته على القتال ..
ظل يعيش متنبه الحواس حتى الهزيع الأخير من الليل .. وكان على يقين من أن الطيار سيظل فى مخبئه لا يبارحه .. ثم يتسلل قبل نور الفجر ليذهب إلى الجبل .. أو إلى المدينة ويغيب فى زحمة الناس .. بعد أن يخفى مظهره ..
وبارح سليمان المحطة فى خفة الثعلب وتسلق شجرة ملتفة داخل بستان الشيخ عرفان .. وكمن فيها .. وعيناه تتحركان فى كل اتجاه .
وفى حوالى الساعة الرابعة صباحا سمع حفيفا واهنا بين أوراق الشجر .. فتسمع ومد بصره .. فرأى شبحا يتحرك بحذر ناحية الشرق .. وتوقف الشبح ليأمن طريقه قبل التحرك .. كان الخوف يزيده يقظة فى كل خطوة .. ورأى "سليمان" عينيه تتوهجان فى الظلمة كما تتوهج عينا الثعبان وهو خارج من جحره .. ومال برأسه إلى اليمين مادا عنقه كما يفعل الثعبان تماما ..
وأدرك "سليمان "دقة الموقف وخطورته .. لو تنبه الطيار المذعور إلى وجوده .. إن الذعر سيجعله يبادر بالحركة ..
لقد حانت الساعة ليهاجمه .. وإلا فلتت منه الفرصة إلى الأبد .. وانتظر " سليمان " لحظات حابسا أنفاسه .. ثم هبط إلى الأرض .. يزحف على بطنه .. من جانب وجاعلا ظهر الطيار إليه .. حتى أحس بانفاسه وظل ملتصقا بالأرض يشتم ترابها ويده على زناد البندقية ..
وأطلق الطيار أولا .. أحس وهو مرعوب بأن شيئا خطرا وراءه فاستدار سريعا وأطلق .. ثم دوى الرصاص .. من الجانبين .. بعنف فمزق سكون الليل .. ونبحت الكلاب بشدة .. وجرى الناس على صوت النار .. ووجدوا على بصيص النور الذى لاح مع نور الفجر "سليمان" يستدير لمواجهتهم والدم ينـزف من كتفه ..
وتحت شجرة ضخمة .. يرقد الطيار الصهيونى ساكنا وقد مزق جسمه الرصاص ..
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية فى 9|5|1968 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " لمحمود البدوى فى 1971