قلَق
في الأيام الثلاثة الأخيرة، بتّ ألحظ شيئاً جديداً حملته الطاولة المقابلة لي تماماً، رجل ظاهر الشرود، القلق من ملامح وجهه البارزة، و عمق نظراته الفارغة المسلطة اتجاه ورقة بيضاء أمامه من السمات التي تعقلك إلى شخصه.
من هنا، في هذه المقهى البعيدة ، حيث جعلت من طاولة في ركن قصي محرابي، أمارس فيه طقوس فراري، و خلوتي و الكلمة فاراً من ابتزاز زوجة سليطة و شجار عيال ملاعين.
ثلاثة أيام أمضاها أمامي لا يفعل شيئاً غير جلوسه المحفوف بجلال الصمت و نظرة عميقة فارغة في ورقة بيضاء، و بين لحظة و أخرى تداعب أصابعه القلم في توتر جلي. لم ينجح في كتابة شيء، و لم أستطع مع تركيزي عليه فض بكارة ورقتي أيضاً.
أعترف ألا شيء يطاردني هنا حيث الهدوء المطلق في المكان شبه الخالي إلا من حركات نادلٍ تقدم به العمر، و همساتٍ محمومة لبعض العاشقين الفارين مثلي تماماً إلى زوايا معتمة يبسطون مشاعرهم خلسة عن أعين الرقباء، بيد أن وجود هذا الكائن القلق قبالتي جعل كل أجوائي صاخبة.
مطارق أسئلة كثيرة تدق خواطري.
أيكون عاشقاً معذباً في هذا العمر لمراهقة نزقة، طالبة عنده في الصف مثلاً، فلجأ حيث يستوحي من منظر عشاق المقهى كلمات يخاطب بها عشيقته المفترضة عن طريق خطاب غرام يبثها أشواقه و عذاباته؟
أم تراه صحفي اعتصم بهدأة المكان من ضوضاء مكتبه عله يظفر بمقال عظيم يصور مآسي شعب ما بين الحربين؟
أو ربما كاتب خطابات مأجور لاذ بقهوته السوداء بانتظار هطول كلمات من سماءاتها الغامضة فيُفرح بها زعيماً أميّاً مندلق البطن و الشهوات، ليرفعه من درجة القهوة السوداء إلى كأس ) خمس نجوم (؟
أختلس النظر إليه فيساورني قلق بريّ منه. لم لا؟ قد يكون جاسوساً في وطن بليد كل مهنه الجاسوسية، قيضه أحد خلفي يتعقب سكناتي و السكنات، و يستغل انشغالي و اشتغالي على قصتي الجديدة ليكتب تقريره اليومي البئيس عن بؤسي؟
اعتدلت في جلستي، و زايدني القلق، و صرت أكثر حذراً، بيد أني ما إن أطلت النظر في شروده حتّى زايلتني الربكة و تلاشى خوفي فاسحاً المجال أمام تربع قلقي المستفز