الاثنين ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم محمد هيبي

لا أحد فوق النقد الموضوعي الهادف البنّاء!

يأتي هذا المقال استمرارا للحوار ولمقالات سابقة حول أزمة القراءة والنقد، نُشِرت في صحيفة "الاتحاد ومجلة "شذا الكرمل"، واستدراكا لأوضاعنا الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تسوء يوما بعد يوم.

لا أحد فوق النقد! ولا يخافه إلّا من يرى نفسه فوق الناس أو فوق الحقيقة، وكذلك الخاطئ العاجز عن الاعتراف بخطئه. لذلك، لن أسمع صوت من يقول: "ما جدوى ذلك. وما الحاجة إليه؟"، خاصة وأنّني أرى أنّ الصدق لا يُسبب المشاكل إلّا في مجتمع يأكله الفساد.

نقدي لمحمد علي طه وكتابه "نوم الغزلان"، لاقى تجاوبا راضيا وواسعا. كثيرون قدّروا جرأتي ونقدي الموضوعي. وقلّة، اعترضوا على قسوته، من باب أنّنا "أولاد بلد"، قبل أن يفحصوا إساءاته للبلد وأولاده. وكثيرون نافقوني ونافقوه. ولكن، كل ذلك لم يخلق حوارا موضوعيا معلنا يهتمّ بالتصحيح الذي يحتاجه مجتمعنا. فإذا كنّا عاجزين عن طرح الحقائق ومواجهة من يُزيّف تراثنا وتاريخنا ويحتقر لغتنا من أبناء جلدتنا، فلماذا نحتجّ على قانون القومية وغيره من القوانين العنصرية الجائرة، وعلى ضرب السلطة العنصرية لمكانة لغتنا العربية؟ ما فعله محمد علي طه في كتابه "نوم الغزلان"، أخطر مما فعله قانون القومية. وأنا مسؤول عن كلّ كلمة أكتبها، فليست هذه مبالغة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن قانون القومية هو تحصيل حاصل، أو تثبيت لواقع جائر، وأنّ الذين سنّوه، عنصريّون يكرهون كل ما هو عربي، لأنّهم يروننا أعداءهم الذين نُزاحمهم على "وطنهم" الذي هو وطننا الذي سرقوه منّا؛ بينما محمد علي طه هو ابن كلّ الذين أساء لهم في كتابه، وقد استغلّ صمت الناس ومكانته بينهم، ليستخفّ بتراثنا ويُزوّر تاريخنا ويُشوّه الحقائق، فضلا عن إساءته لبعض رموزنا الوطنية، محلّيا وفلسطينيا. هذا هو الفرق بينه وبين القيّمين على قانون القومية، فماذا فعلنا؟ صرخنا في وجههم، بينما اكتفينا بشتمه في صدورنا، وصفّقنا له في العلن، وعقدنا له أمسيات التكريم قبل أن نقرأ كتابه، ومنحناه الدروع تقديرا لجهوده في تشويه صورتنا! فهل بعد ذلك، بقي فينا من يعتبر نفسه مدافعا حقيقيا عن مجتمعنا وقضاياه، إذا كنّا لا نقرأ ما يُكتب عنه، أو نقرأ ونكتفي بالقول:

الكاتب الفلاني أسلوبه جميل. ونتجرّع بجهل معيب، السمّ الذي دسّه لنا في الدسم؟ أين نقّادنا، بل أين قادتنا السياسيون الذين اخترناهم لحماية مجتمعنا فاحتموا هم به، وأثقلوا ظهره بصمتهم ونفاقهم لمن تجمعهم به مصالح ذاتية ضيّقة؟ هل صحيح أنّكم لا تفهمون ما تقرأون، أم تقرأون وتصفّقون لأنّ المعركة إعلامية فقط، تكفي صورة في جريدة، ومقطع في فضائية، أو في مواقع التواصل. كلّنا نشهد تهافتنا على الصور في كل مكان؟

هل لدينا إعلام يهتمّ بشؤوننا؟ ربما بسبب القبول الصامت لما قلته في نقد "نوم الغزلان" وكاتبه، خسرت أنا المعركة الإعلامية. نعم خسرت! ولكنّ الإعلام سقط، إن لم يكن كذلك أصلا! ولكن، هل أستطيع أن أوجّه اللوم لأيّ وسيلة إعلام، ما دام القيّمون على جريدتي وجريدة حزبي، "الاتحاد"، الذين "يُؤمنون" بحرية الرأي، يسكتون عن حماقات السلطان، ويرفضون نشر مقالاتي لأنّها تنتقد تلك الحماقات؟ هل تذكرون مظفّر النوّاب وهو يصرخ: "صمت ... صمت ... صمت، ماذا هذا الصمت يُسمّى في اللغة العربية؟!". وماذا بوسعي أنا أن أفعل حياله، إلّا أن أتذكّر توفيق فياض، وهو يستهلّ مسرحيته، "بيت الجنون"، قبل أكثر من نصف قرن: "كفرتم بي ... فازددت بكم إيمانا". نعم ازددت بكم إيمانا، ولن أكفر بكم، ولن أفقد الأمل، وسأظلّ أصرخ ولو في واد، حتى أموت أو تستفيقوا. لقد طغت مصالحنا الشخصية الضيّقة، وطغت عناصر تشوّهنا، صارت أكبر من كرامتنا الشخصية، وكرامة مجتمعنا وشعبنا. ومع ذلك ما زلت أومن أنّ ذلك اليوم سيأتي، مستعينا بقول الإمام الشافعي: "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت، وكنت أظنّها لا تفرج".

نحن بحاجة لتغيير المعايير. لم أعد أدري ما هي معاييرنا للتجاوز عن الإساءات؟ ولا كيف نتجاوز عنها إذا كانت تُشوّه تراثنا وتُزوّر تاريخنا، وتُسيء لمجتمعنا وشعبنا ورموزهما ومؤسّساتهما، ونُدين من ينتقدها؟

كتاب محمد علي طه، ونقدي له، وصمتكم، فتحوا أمامي آفاقا جديدة حول حاجة مجتمعنا لخطوة جريئة نبدأها بحوار موضوعي جادّ، حتى لو كان قاسيا. هذه الخطوة، تحتاج إلى مثقّفين حقيقيين يتمتّعون بالجرأة، والقدرة على حوار يُغيّر نمط تفكيرنا القَبَلي، ويسعى لبناء مشهد ثقافيّ مغاير لمشهدنا الذي يُجسِّد هذا التفكير، ويُجسّد ذاتنا الفردية المنقطعة عن ذاتنا الجمعية. كلّنا نعرف أنّ معظم كتّابنا لا يقبلون النقد الموضوعي، ولسان حالهم يقول: "من يمدحني فهو صديقي، ومن يُبيّن عيوبي فهو "حنقود"، يكرهني"! متى سنتوقف عن هذا التفكير القَبَلي، وعن أمسيات الإشهار والتكريم المسرطنة، كما وصفها بروفيسور إبراهيم طه ذات مقال له في "الاتحاد"، وننتقل إلى ثقافة الحوار المفتوح بما فيها من جرأة وموضوعية؟ نحتاج لذلك خطوة صغيرة تقودنا إلى خطوات كبيرة سبقتنا إليها شعوب كثيرة منذ عشرات بل مئات السنين!

لا أعرف إذا كان عند الأمم الأخرى، كما هو عندنا، كتّاب وشعراء يمدحون كتاباتهم ودواوينهم قبل أن يسمعوا كلمة نقد واحدة. وإذا جاءت، يجب أن تكون مديحا، وإلّا غضبوا وأوسعوا الناقد ذمّا وشتما، ونعتوه بالكراهية والجهل والحسد، ونحتوا له أوصافا بذيئة تلائمه، مثل الـ "حنقود" التي نحتها محمد علي طه وأكرمنا حين خصّني بها، أنا والبروفيسور إبراهيم طه. وبهذه الطريقة غير الموضوعية، يجهل كتّابنا الذين يتعاملون بالطريقة نفسها، أنّهم يفقدون مصداقيّتهم، ويُعبّرون عن عجزهم عن الردّ الموضوعي المقنع.

في مجتمع مثل مجتمعنا، تنتشر فيه الآفات القاتلة، وعلى رأسها العنف والجريمة، وفي مشهدنا الثقافي، حيث يدّعي الكثيرون الوعي بحجم آفاتنا، تنشأ الحاجة إلى حوار بين مثقّفين حقيقيين قادرين على المواجهة. وهذا هدف ما أكتبه هنا. فما يجب أن يجمعنا، هو تنقية مجتمعنا من عيوبه، وتخليصه من عقليته وتفكيره القَبَلييْن، والسعي به إلى الأفضل، إلى المستوى الأخلاقي والثقافي الذي يُخلّصه من آفاته.

في مقالات سابقة لي، ذكرت أنّنا مؤخّرا، نعيش صحوة أدبية ثقافية فيها الكثير ممّا يُرضي وينفع، رغم ما لنا عليها من مآخذ تجعلها مشبوهة أحيانا، أو موجّهة بأيدٍ لا تُريد لنا الخير. وطرحت فيها للنقاش، كون أزمتنا أزمة ثقافية وأخلاقية عامة وليست أزمة قراءة ونقد فقط، وإن كانت هذه الأخيرة موجودة أيضا. وقدّمت في المقالين براهين تثبت وجهة نظري على الأقلّ.
أقول ذلك، لأنّ مؤشّرات الأزمة والأيدي المشبوهة مستمرّة. وتقاعس مثقّفينا ومؤسّستنا الثقافية حيالها مستمرّ أيضا. هذه المؤشّرات، تأخذك رغم أنفك إلى الشكّ والبحث لاستجلاء الحقيقة. لأنّ صدقك مع نفسك، يجعلك ترفض بقاء أناس تحترمهم وتُقدّر جهودهم، في موضع الشكّ.

وعلى ما تقدّم، سأطرح هنا أمرين يؤسفني وجودهما، لأنّني لا أستطيع التعايش مع الشكّ إلّا مؤقّتا كطريق للمعرفة. والمعرفة هنا ليست هدفا بقدر ما هي وسيلة للتقييم والتصحيح. والمشكلة، أنّ كثيرين يشعرون بحاجتنا لذلك. ولكن مشكلتهم، أنّهم يصرخون بصمت، لأنّهم "أوادم" ومسالمون أكثر من اللازم، أو لأنّهم ضعفاء أمام ما يفعله المنتفعون "الأقوياء"، والمنافقون الجبناء.

وأكتب كذلك من منطلق حرصي على صحيفة "الاتحاد"، وعلى حزبي وقادته القيّمين على النشر فيها، وحرصنا جميعا على المبادئ والأهداف التي وُجِدنا من أجلها، ومن بينها مبدأ حرية الرأي والنشر والصحافة، ولن أنسحب كالذين انسحبوا من الحزب بسبب الخلاف في الرأي، فأنا أفضّل خوض معركة التصحيح من الداخل.

قبل بضعة أيّام، فاجأني صديق على الفيسبوك، بأنّه وضع على صفحته صورة ليافطة بيضاء ضخمة وطلب منّي ومن غيري، أن أملأ اليافطة بنصّ موجز يحمل رسالة تلخّص بعض ما أفكّر فيه. راقت لي الفكرة فملأت اليافطة بالعبارة التالية: "أيّها المظلومون، متى ستكّفون عن عبادة الظالمين؟"، لأنّني أعتقد أنّ شعبنا ومجتمعنا يعيشان هذه المفارقة، وواجبنا أن نُخلّصهما منها.

تذكّرت هذه الحادثة البسيطة، يوم الجمعة، 30/8/2019، وأنا أتصفّح ملحق الجمعة الذي خُصِّص لجوليان أسانج، صاحب موقع "ويكيليكس" الذي نعتوه وبحقّ، بـ "فدائي الحقيقة"، لأنّه فضح الوثائق السرّية للسياسة الأمريكية، كسياسة وحشية متعطّشة لدماء الأبرياء ومعادية للحقيقة والحرية.

ما ميّز ملحق الاتحاد" ذلك الأسبوع، بالإضافة إلى المقالات الخمسة حول أسانج، صورتا الغلافين: الأول يحمل صورة متظاهر يحمل ملصقا عليه صورة أسانج، كُتبت عليه عبارة "Free press" (صحافة حرّة أو الحرية للصحافة). أمّا الغلاف الأخير فيحمل صورة بنيامين نتنياهو، يرفع يده الملطّخة بالدماء، وفوق الصورة عبارة تقول: "نتنياهو وزمرته ... يخوضون الانتخابات بالدماء".
الحقيقة أعجبني الملحق، لكن حين قرأت ما جاء حول قضية أسانج، ضحكت لأنّي تذكّرت نفسي. ضحكت "كالطير يرقص مذبوحا من الألم". ضحكت وصرخت: "Free press"، وتساءلت: هل يُمكننا إصلاح العالم إن لم نصلح أنفسنا أولا؟ وهل يُمكننا أن ننقد الغير حتى لو كان أمريكا وإسرائيل وممارساتهما الوحشية، ونحن نتغاضى عن غسيلنا القذر الذي يجعلنا نراوح مكاننا في ثقافتنا القَبَلية، ضعفاء أمام من هم أقلّ قوة وبطشا من أمريكا وإسرائيل، وضعفاء أمام أنفسنا. ألا يُثير قلقكم أنّنا "نضحك على أنفسنا" لنمرّر مصالحنا الذاتية، ولسان حالنا يقول: "لتذهب الثقافة والأخلاق والمصلحة العامّة إلى الجحيم"؟

ماذا يمكن أن نقول عن صحيفة مثل "الاتحاد"، تنشر مثل تلك المواد، غير أنّها صحيفة وطنيّة تقدّمية تحترم نفسها والحقيقة وجمهور كتّابها وقرائها وشعبها أيضا، لأنّها تحرص على أن تُطلعهم على الحقيقة، بالإضافة إلى اهتمامها بحرية الرأي وحرية الصحافة وحرية الإنسان عامة؟ وماذا يُمكن أن نقول عن محرريها الذين أحترمهم، غير هذا الكلام أيضا؟

ولكنّ بعض القيّمين على "الاتحاد"، والمصيبة أنّهم يدّعون الإيمان بحرية الرأي والصحافة، يكيلون بمكيالين وأكثر، ويُنصّبون أنفسهم سلطة جائرة على التفكير الحرّ، بل يفوقونها في سياسة كمّ الأفواه تجاه من يُخالفهم الرأي، فيمنعونه من النشر حتى لو كان رفيقا أفنى عمره في خدمة الحزب. ولا يرعوون كذلك من زجّ "الاتحاد" ومحرّريها في خانة الصحف التي لا شأن لها بحرية الرأي والصحافة. وكأنّهم يجهلون أنّ السلطة الجائرة تنطلق عادة من جبنها وخوفها من الحقيقة، وترى بها وبالحرية والمعرفة، عدوها اللدود؟ هل يحقّ لمثل هؤلاء أن يتحدّثوا عن حرية الرأي، وهم يسلبونني وغيري، حقّنا في النشر، لا لأن مضمون ما نكتبه يتعارض مع مصلحة الحزب وأفكاره ومبادئه، أو يخرق حدود المنطق أو يُخلّ بالقواعد السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية العامة، وإنّما لأنّه يتعارض مع مصلحة السلطان "محمد علي باشا"، رغم علمهم أنّ تصرّفهم هذا يفضحهم، ويُظهرهم لعبة في يد "المهيمن المبجّل"، يُحركها كما يشاء، أو كصبيان أغبياء، يُطيعون السلطان طاعة عمياء، رغم علمهم أنّه لا يهمّه الحزب ولا الجبهة ولا الجماهير، بل ذاته واسمه ومصالحه الشخصية فقط. وذلك يؤكّد أنّهم يفعلون ذلك مقابل خدمات "توفيقية" فاشلة تمنع نشر غسلنا القذر وتكنس أوساخنا تحت البساط، مقابل خدمات مدفوعة الثمن، ماديّا ومعنويّا، يُقدّمها السلطان للحزب والجبهة وغيرهما من الأحزاب التي أقلّ ما يُمكن أن يُقال في قادتها، إنّهم فقدوا ثقتهم بأنفسهم وبقدراتهم وقدرات أحزابهم وكوادرها. وليس هناك من مبرّر غير ذلك، لتعاملهم مع السلطان بهذا الشكل. وكل الكلام عن ضرورة الوحدة وقدرته على صنعها، ليس إلّا مجرد هراء وهباء، يُدركونه أكثر من غيرهم. ولنا في مفاوضات "المشتركة" الأخيرة خير برهان. وكذلك في تصرف كتلة "التجمّع" الذي يتناقض مع أبسط حاجات الوحدة وديمقراطية القرار. فلو لم يخرج القرار من بين يدي السلطان إلى أيدي قادة الأحزاب، لما نجحت. وإذا كانت هذه المفاوضات ونتائجها لا تكفيهم، فلينزلوا إلى الشارع وليتواصلوا مع الناس البسطاء، وليسمعوا أصواتهم التي أرادوها في هذه المعركة وغيرها.

الحزب الشيوعي حزبي، وجريدة "الاتحاد" جريدتي. ولن أنشر أيّة مادة في جريدة غيرها إلّا إذا قام رفاقي "بيّض الله وجوههم"، بـ "تسويد" وجوه الحزب والجريدة ومحرّريها، بمنع تلك المادة من النشر. ومن هذا المنطلق، سأرسل مقالي هذا لـ "الاتحاد" أولا، وإذا لم تنشره سأرسله لصحف ومواقع أخرى.

إذا مُنِعت "الاتحاد" من نشر مقالي هذا، فستكون المرة الرابعة التي يتدخّل فيها قادة الحزب ويمنعون نشر مادة لي: الأولى، منعوا نشر مقالي، "البطولات المزعومة وتزوير التاريخ"، والثانية مقالي، "هل هي أزمة قراءة ونقد أم أزمة ثقافية وأخلاقية عامّة؟!"، والثالثة خبر صدور كتابي، "سقوط نوم الغزلان"، والرابعة قد تكون هذا المقال. ولن تكون "الرابعة قابعة". إذا نشروه فسأكون سعيدا أيّما سعادة بحفظ ماء وجه الجريدة والحزب، وماء وجهي أيضا كرفيق من رفاقه، حتى لو لم ينشروه احتراما لي ولأفكاري، بل احتراما لما قاله محمد علي طه في أمسية تكريمه التي لم يحضروها، في نادي حيفا الثقافي، يوم الخميس، 29/8/2019. قال في مداخلته هناك: "أنا من الكتّاب الذين كتب عنهم أكثر من ثلاثين ناقدا، وأنا أحترم النقد احتراما كبيرا، وأحترم النقّاد، يمكن أكثر ناقد كان قاسي عليّ نبيه القاسم" (نقل حرفي للغته. مقطع الفيديو موجود في صفحة نادي حيفا الثقافي على الفيسبوك). هل كان الكاتب "الكبير" يعي ما يقوله؟ العبارة أعلاه ظريفة، في خباياها سخرية واستخفاف بعقول الحاضرين. ولكن أظرف ما فيها، قوله "يمكن أكثر ناقد كان قاسي عليّ نبيه القاسم". لا أظنّ صديقي نبيه، قد انتبه لتلك العبارة ولم يضحك في سرّه. أمّا صديقي الذي انتبه، قال لي: "ذكيّ، ضربَك بهذه العبارة". ذكي؟ نعم! وقصد ضربي نعم! أصلا كل الأمسيات التي استجداها مؤخّرا، كانت لضربي، إذ ليست لديه وسيلة خرى للتعبير عن بؤسه. أشفقت عليه مثلكم. فهل بؤسه هو ما أسكتكم عن إساءاته لتاريخنا وتراثنا ورموزنا، وجعلكم تعتبرونها ليست أمرا ذا بال، بينما نقدي لكتابه وبيان حقيقة ما جاء فيها من إساءة وتزوير وتشويه، فتلك إساءة تستحقّ أن يقاطعني الإعلام بسببها؟ وليس أدلّ على بؤسه مما كتبه قريب له تعليقا على مقالي: "تبقى الأسود أسود والكلاب كلاب" (لغة التعليق)، ولم أجد أصدق من هذا التعليق بين كل التعليقات البذيئة التي حظيت بها.

عند مشاهدتي لمقطع الفيديو، وسماع ما قاله، تساءلت أولا: إذا لم يكن بائسا، لماذا لم يردّ على نقدي له ولكتابه، ردّا موضوعيا وأخلاقيا حتى لو كان ردّا قاسيا، بل ترك "حرسه الجمهوري" يشتمني بأقذع المفردات التي يخجل منها القاموس؟ وثانيا، تأكّدت من أنّ شبحي كان يرقص أمامه، ويُثير فيه الخوف من سؤال مشابه لسؤال ذلك الصديق الذي سأله قبل بداية الأمسية: "شو هذا الكلام إللي كاتبه محمد هيبي عنّك؟". وتأكّدت أيضا، أنّ طيفي كان مُخيّما على الأمسية وجمهورها، وأنّ الكثيرين ضحكوا في سرّهم وهم يسمعونه. ولكنّهم التزموا الصمت لأنّهم "أوادم" مسالمون.

وبالمناسبة، ما قاله محمد علي طه قد يكون صحيحا من منطلق أنّه لا يعتبرني ناقدا ولا نويقدا بل "حنقودا". وأمّا جمهور نادي حيفا الثقافي الذي أحبّه وأحترمه، فما أعرفه جيّدا، أنّه يُحبّني ويحترمني كشخص وكناقد، وقد سمعته أكثر من مرّة، يُثني على موضوعية مداخلاتي النقدية وغير النقدية التي قدّمتها على منبر النادي.

ولماذا أقحم الجمهور هنا، وبشكل خاص جمهور نادي حيفا الثقافي؟ ذلك لأنّه جمهور واع ومثقّف، يُدرك حاجة مجتمعنا إلى الحوار الثقافي الموضوعي والأخلاقي الهادف الذي أدعو إليه، ويُدرك بعضه على الأقلّ، ضرورة مشاركته ومشاركة نادي حيفا الثقافي في هذا الحوار. لأنّ ما نحن عليه من صمت، حتى لو كان سببه طيبة القلب والمسالمة، لا يخدم مشهدنا الثقافي وضرورة تطويره. وأنا بكل تأكيد، لا أريد للبرامج الثقافية التي يُقدّمها نادي حيفا الثقافي، وغيره من مؤسّساتنا الثقافية، أن تكون مجرد وسيلة للمتعة وتمرير الوقت. وقد قلت لصديقي فؤاد، في أكثر من مناسبة، إنّ من واجب مؤسّساتنا الثقافية، وعلى رأسها نادي حيفا الثقافي، أن تشارك في مثل هذا الحوار.

أنا أعرف جيّدا ما قدمتُه لنادي حيفا الثقافي، ولكنّي أعرف أكثر، ما قدّمه هو لي. وليس من شيمي أبدا، أن أبصق في الصحن الذي أكلت منه، ولكنّي أيضا لا أحبّ أن يبصق الآخرون في الصحن الذي أكلوا منه. قد أتغاضى عن الإساءة لو كانت لي شخصيا فقط، ولكّن تصرّف صديقي فؤاد، مدير النادي، يتنافى مع ما سبق وتداولناه بيننا، خاصة وأنّه لم يقم بدعوة محمد علي طه قبل نقدي له ولكتابه، لأسباب تداولناها بيننا أيضا. فهل صار الآن أديبا يستحقّ التقدير والتكريم، بعد أن بيّنت للعالم كلّه، حقيقة تزويره لتاريخ شعبنا وتشويهه حقائق تخصّ الكثيرين من رموزه ومؤسّساته؟ أليس في هذا التكريم، إساءة، ليس لي شخصيا فقط، بل للمجلس الأرثوذكسي ولنادي حيفا الثقافي وجمهوره ومديره؟

الحقيقة أنّ ما حدث منذ نشرت مقالي في نقد "نوم الغزلان" وكاتبه، وحتى اليوم، جعلني أدرك ضرورة الكتابة، وقيمة هذا المقال، وهو أنّه لم يعد نقدا لمحمد علي طه وكتابه فقط، بل أصبح صرخة في وجه مجتمعنا كلّه، ودعوة لكل المثقّفين الحقيقيين إلى الحوار. لهذا أصدرته في كتاب.

أنا حريص على سمعة المجلس الأرثوذكسي الوطني، حرص صديقي فؤاد عليه وأكثر. فهو مجلس له دوره المحترم في حفظ تراثنا وتنوير مجتمعنا. وحريص أيضا على سمعة نادي حيفا الثقافي كمؤسّسة لها دورها الفاعل في حياتنا اليومية ومشهدنا الثقافي. ولكنّي لا أرى أيّ شخص أو مؤسّسة فوق النقد. وليست تُهمة أنّني لا أستطيع السكوت عن الخطأ.

صديقي فؤاد نقّارة، إنسان نشيط جدّا، يقوم بعمل يستحقّ التقدير، ولكنّه مثلنا جميعا، يُصيب ويخطئ. وأنا هنا أنتقد أخطاءه، من أجل إعادة التفكير والتقييم والتصحيح، وللحقيقة والتاريخ. فما حدث أثار لديّ أسئلة مهمة في نظري: ما هي الأهداف الحقيقية التي قام من أجلها نادي حيفا الثقافي وغيره من مؤسّساتنا الثقافية؟ هل هو السعي للترفيه عن الجمهور فقط؟ هل هو السعي لتعريفنا بكتّابنا وكتبهم، وبعض مبدعينا في مجالات أخرى مثل الرسم والموسيقى والغناء؟ كل ذلك جيّد بلا شكّ، وعلينا أن نقدّره وندعمه. ولكنّه لا يكفي إذا لم يكن الهدف الحقيقي والأساسي، هو السعي بمجتمعنا ومشهدنا الثقافي إلى الأفضل.

أنا واحد من جمهور نادي حيفا الثقافي، وواحد من الكثيرين الذين قدّمهم كأدباء وباحثين، وواحد من الكثيرين الذين شاركوا ويُشاركون بمداخلات أدبية فوق منبره. وأنا أقدّر كل ذلك وأعتزّ به. ألا يحقّ لي أن أتساءل حين يُسيء لي أحد، وخاصة إذا كان صديقا بمكانة فؤاد نقّارة الذي لا يُحبّ الإساءة لأحد؟ وأنا واثق من ذلك. ولكنّ النوايا الطيّبة لا تُقلّل من أضرار الإساءة، خاصة وأنّها لم تكن إساءة شخصية لي فقط. ولو كانت كذلك لالتزمت الصمت كعادتي. ولكنّ تصرّفه أساء لي وللمجلس الأرثوذكسي، ولنادي حيفا ومكانته، ولجمهور النادي، ولشخصه هو أيضا. كم كنت أتمنّي أن يستخلص صديقي فؤاد بنفسه، نوايا محمد علي طه التي لا يعرفها إلّا من يعرفه عن قرب، ويعرف أسلوبه في الاستجداء، وأهدافه الحقيقية من استجداء هذه الأمسية وغيرها، الفتنة بيننا وإعلاء شأنه الذي فضحه مقالي؟ وما دمت لم أسكت عن أخطاء محمد علي طه، وأخطاء قادة حزبي، هل سأسكت عن أخطاء غيرهم؟

خطآن قام بهما صديقي فؤاد، يُشبهان إلى حدّ ما أخطاء قادة حزبي الشيوعي التي انتقدتها في هذا المقال وغيره. ربما يكون هذا هو أحد الأسباب التي تجعلني لا ألومه. ولكن ما كان عليه أن يتّخذهم قدوة، في أمر النشر على الأقلّ.

الخطأ الأول، وهو الأقلّ أهمّية، اعتاد صديقي فؤاد في الأشهر الأخيرة، أن ينشر على صفحة النادي، خبرا عن كل كتاب تصله نسخة منه. ولم يفعل ذلك حين أهديته نسخة من كتابي، "سقوط نوم الغزلان". وهذا ما فعله بعض قادة حزبي القيّمين على جريدة "الاتحاد". لم يسبق لي أن طلبت من النادي ومديره شيئا لنفسي، ولذلك حين تجاهل الخبر، تحدّيته أن يُنظّم أمسية لإشهار الكتاب، لأنّني بكل تواضع، أعتقد أنّ الكتاب وكاتبه وجمهور نادي حيفا الثقافي، يستحقّون ذلك، لأنّ فيه خطوة أولى نحو الحوار الذي أدعو إليه، والذي من الضروري أن يُشارك فيه كل مثقّفينا ومؤسّساتنا الثقافية، وعلى رأسها نادي حيفا الثقافي، إذا كان خير مجتمعنا، هو ما يسعون إليه.

والخطأ الثاني، الأكثر أهمّية، يعرف صديقي فؤاد أنّني لست راضيا عن تنظيم الأمسية، لا لسبب إلّا لأنّنا متّفقان أصلا، أنّ المكرّم، ولأكثر من سبب، لا يستحقّ. وبالرغم من ذلك، لم أحاول أن أثني صديقي فؤاد عن عزمه. فمن جهة، أعرف حجم الضغط والاستجداء الذي مورس عليه وعلى غيره، ومن جهة أخرى، ليس من عادتي التدخّل بما لا شأن لي به في النادي وغيره. ولذلك لم أهتمّ بإقامة الأمسية رغم عدم رضاي عنها. ولا بمنح المكرّم درعا. ولكن حين رأيت صورة الدرع المنشورة في الفيسبوك، وما كُتِب عليه، ثُرت وغضبت.

كُتِب على الدرع، "إلى الأديب والمربي محمد علي طه اعتزازا وتقديرا لعطائك المتواصل في خدمة الثقافة وكاتبا وموثّقا لتاريخ شعبنا". لولا خوفي أن أفهم خطأً لقلت إنّه يستحقّ بعض ذلك. أما أن يُقال له، "موثّقا لتاريخ شعبنا" فذلك ما أثارني وأغضبني. كل الأمسية كانت صفعة لي، وإلّا لما استجداها محمد علي طه. أمّا هذه العبارة فكانت صفعة مؤلمة حقّا. لأنّها جاءت من صديقي فؤاد ومن المجلس الأرثوذكسي. فقد رأيت فيها تكذيبا لي وللجهد الذي بذلته لكشف الحقيقة. خاصة وأنّ صديقي فؤاد كان من أوائل الذين أثنوا على مقالي. ورأيت في تلك العبارة أيضا، تزويرا للحقيقة التي كشفتها بعد أن زوّرها محمد علي طه، رأيت فيها تزويرا لا أقبله، لا من المجلس الأرثوذكسي الوطني، ولا من نادي حيفا الثقافي، ولا من مديره، صديقي المحامي فؤاد نقارة. فهل أغضّ النظر عن إساءة كبيرة بهذا الحجم، للحقيقة وللمذكورين جميعا؟!

وفي الختام، أؤكّد مرّة أخرى، لا أقصد فيما كتبته، الإساءة لأيّ شخص أو مؤسّسة. وهدفي الواحد والوحيد هو تصحيح الخطأ، ودعوة مثقّفينا أن يترفّعوا، وأن يتركوا تفكيرهم القَبَلي أو الذاتي، وأن يسعوا إلى ثقافة حضارية تليق بشعبنا ومجتمعنا اللذين نوثّق تاريخهما. كما أنّه يتوجّب علينا جميعا، كتّابا ومثقّفين ومؤسّسات الثقافية، أن ننتقل كما أسلفت، من مرحلة أمسيات الإشهار والتكريم، إلى مرحلة التثقيف الهادف والحوار المفتوح، اللذين يُحقّقان أهدافنا لا أهداف السلطة، التثقيف الهادف والحوار المفتوح بما يحملانه من حرية في التفكير وصدق في العمل، وقبول للرأي والرأي الآخر. علينا أن نتحلى بالجرأة التي تساعدنا على خلق هذا الحوار الموضوعي البنّاء. وما دام كذلك، لا يجب أن يُضيرنا كونه قاسيا أحيانا. فطريقنا لم تكن ولن تكون مرصوفة بالورود إلّا إذا مررنا بالأشواك واحتملنا وخزاتها. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى