لا أحد يسمع الصخب
عودنا الشاعر مانويل لوسانو Manuel Lozanoعلى المفاجئات الأدبية التي تأخذ القيمة العالمية حينما يستلم بعد جهد جائزة تضاف إلى مشواره الأدبي، و على إثرها تبدأ الصحف الإسبانية في تتبع مجريات هذه الأحداث.. قال عنه الكاتب الكبير خورخي لويس بورخيس – 1984- (يبهرنا بالصفحات البارزة، و أكتشف دائما من خلالها أنه يمتلك بنية الترداد العالمي، و أراه يترجم ذلك في سرية و غموض..) ..
الشاعر مانويل لوسانو Manuel Lozano.. من مواليد 1969 – الأرجنتين -.. هو كاتب و شاعر و قاص و ناقد و صحفي، درس الأدب و اللسانيات في أوربا، و أصبح بعد ذلك أستاذا في تاريخ الثقافة الأرجنتينية (مدرسة الإدارة الثقافية E.D.A.C )، استلم خلال عشر سنوات كفاءة عالية و من ثم تحصل على وسام (فيكتوريا أوكامبو) بعد أطروحته (سيلفينا أوكامبو اللغز )، في 1998 حصل على (أستاذ في وسائل الاتصال) من مؤسسة الدراسات العليا في مهارة و وسائل الاتصال.
في عامه الثامن عشر قدم للجامعة الوطنية، مقالاته : (شوبينهاور و وحي البوذية في الغرب).. و بالموازاة بدأ يشارك في المؤتمرات و المهرجانات المهمة في بلده، أعمالا ترصد استمرار التنمية و التواصل..
ألف 15 كتابا (بعضها يأخذ شكلا خياليا و شبه خيالي) و منها مجموعة مقالات و مجموعات شعرية أيضا، و من بين هذه الكتب : (الخط و الدائرة 1988 - معاهدة على دوران التعاويذ 1992، وحوش، جام سيسيوم، سيلفينا أوكامبو اللغز، بيانسيو تحت الماء، كل ليلة تُحضر لي زهرة ).. و من جهة أعماله النقدية فقد نشرها في عدة جرائد من بينها (جريدة الصحافة، جريدة القبيلة، جريدة السند، جريدة الرمل، صوت سان خوستو، جريدة الإصلاح، جريدة العالمية في كولومبيا، و جرائد أخرى..) و إلى جانب ذلك فقد كتب في منشورات متخصصة مثل (دفاتر جيل 27 - مالاغا – إسبانيا )، (في الثقافة )، (مذكرات أمريكية) تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية، و نشرية متميزة في فرنسا و غيرها..
تحصل على 39 جائزة وطنية و دولية، أول جائزة وطنية للفن سنة 1987، بواسطة كتابه (الخط و الدائرة )، جائزة (Gente de letras )..، في سبع مناسبات (المقال، الشعر و القصة، على التوالي ).. الجائزة الأولى (الجمعية اليابانية في الأرجنتين) 1987، جائزة (المؤسسة الأرجنتينية للشعر) 1989، جائزة الجامعة الفضية 1990، جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية – إسبانيا – 1993، جائزة جامعة كينتاكي (USA) 1995، جائزة الفيدرالية الجامعية Bs 1996.. و هناك جوائز عديدة تحصل عليها انطلاقا من اهتمام النقاد بأدبه و اهتمام المؤسسات الثقافية و العلمية على السواء بهذا الشاعر و الأديب المتمكن الذي ذاع صيته و هو لا يزال في مقاعد الدراسة الإعدادية..
يلتزم في طريقه أسلوبا غارقا في الفلسفة التي تنضح بالغموض، حيث يرتكز في معانيه على تغريب الصورة التي يرغب في نشرها و بث ألوانها، فينتهج لغة الدلالة التي لا بد أن يتتبعها القارئ بشيء من التحليل و التشريح..
و لذلك يصعب على الكثير استدراج المعاني في قصائده، التي تتطلب دراسة معمقة و قراءة مستمرة في أفلاك الشعر و اللغة و الفلسفة..
و لنوغل مع الشاعر مانويل لوسانو في قصيدته (تقديمات حول مدفن جرح) التي نشرها ضمن الأنتولوجيا الشعرية لشعراء اللغة اللاتينية بالبيرو، و التي استطاعت تلك الأنتولوجيا أن تضم أصوتا أضحت أسماء متميزة في عالم الكتابة و الشعر.. يقول في قصيدته هذه:
-1-
بدون شهادة مذعنة..
بدون خبز يولد في مرايا العشب،
لكن بخميرة الكابوس في جنبي الأيسر،
أُحضر إلى هنا.. الوعاء، و أُفرغه..
-2-
سأمتلك صليب صحاري الأقمار الحمراء:
تغيب في طيةِ قوس قزح.. حين أراه..
-3-
ما الأوهام التي توجّه النبي إلى ناسخه ؟
-4-
كانت سنوات غرباء التشريح على حدود الظلام،
تحصي تشققاتٍ في الأجساد التي لم تمت،
تتعرّف على بصمات إحدى السبل.. كخريطة
مبهورة بالمطر..
-5-
يشوّهون اللحاء البدائي للصراخ
-6-
كيف عدتُ إلى ذلك البيت، و متى صَلَبتُ العتبة،
و لماذا هما جسدان على ربوة مستترة وسط الأعمدة؟
– حديقة الصمت لك – .. قالها المارد..
-7-
تستلم تراب مملكة أناسٍ آخرين.. أيادي أخرى،
ستشرب ضياعها قبل استعادتها..
-8-
شظايا مهدك تنام في القبو..
-9-
حينما يحكّ ظهر الشتاءات،
هناك فقط يوجد غثيان ممزوج مع الغبار..
-10-
رائحة عذبة تغزل تيجان التهديد
أين الملوك الذين سبقوك؟
أكان (حقا) ذلك الماضي؟
-11-
ستستنزف كل الليل.. كل الآثار
-12-
لا أحد سيسمع الصخب..
-13-
عندما ينير الفجر
ستغادر مع ظلك..
متابعتنا لهذا النص و نصوص أخرى تجعلنا نفيد بأن الشاعر لم يتعمد الغموض في شعره وإنما الطرح الفلسفي الذي يقصده أدى نوعا ما إلى دخول القصيدة عند مانويل عوالم الغموض، و إن لم نكن نحن قد تعثرنا بنوعية هذا الغموض، خاصة في قصائده الحديثة فقوله (سيستنزف كل الليل، كل الآثار) هي مواكبة للتعب النفسي الذي يعتري (النفس القلِقة) فيركن إلى ظلام الليل متبعا سبل الآثار و هو الماضي أو كما نعبر عنه بالأطلال، فالمكوث في زمن الليل عن قصد هو المكوث في الزمن الماضي و هو المكوث أيضا فيما تبقى من ذكريات، ثم ينبه إلى موضوع جلسة الظلام، و هو التأوه الذي ينتج عن ألم الماضي ليقول (لا أحد سيسمع الصخب) لأن حوله صمتا لاذعا يقذف بشبح السكون فلا أحد سيعير لهذا الأنين انتباها، ثم تأتي مباشرة الفتحة التي يتركها الشاعر و التي تؤكد المقطع الذي قبلها فيقول (عندما ينير الفجر، ستغادر مع ظلك) و هو النهار الذي سيخفي ظلمة الليل و الذي سيخفي أيضا الهواجس التي ظلت تتوالى طوال الظلمة، فتتلاشى الذكريات بطلوع الفجر ضاربة موعدا آخر..
و يبدو أن الشاعر تستقطبه الفكرة البعيدة جدا مما يحاول استكشافها عن طريق تبييض الأماكن الخفية لتتجلى لنا تقنية متميزة في تشكيل النص لدى الشاعر، و عقلانية نسبية أساسها الإحساس، دون أن يخلد في نظرنا مفهوم انطباعي يطفو فوق ذوقنا للشعر اللاتيني.. و عليه يخرج في تقنيته من أثواب التصنيع إلى التجربة الإبداعية بما فيها من تنوع و تبدّل و تغيّر.. يلج إلى عالمه ملكا تخاطبه البلاغة و تلتف أحاديثه بسيكولوجية العالم و الإنسان و ارتباطهما بمعتقدات الميتافيزيقا.. الشيء الذي يحاول فيه الشاعر إعمال العقل و القلب و الإحساس بمفاهيمهم الفلسفية دون إرباك الفكر الناتج عنهم.. الفكر الذي لا يرتكز إلى الماورائية دائما والذي يرجع في بدايته و في نهايته إلى نقد تاريخي لا يتصل مطلقا باستنتاجات فردية، بل ينتهج طريق المعرفة و الإنسانية على العموم..