متنفَّس عبرَ القضبان «108»
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019 (مبادرة شخصيّة تطوعيّة، بعيداً عن أيّ أنجزة و/أو مؤسسّة)؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
عقّب الصديق عبد الكريم زيادة: "لك حسن عبادي أجمل الصباحات وبوركت وأنت تنشر الأمل بين أهالي الأسيرات والأسرى، أنت صاحب الأفعال وليس الأقوال، زياراتك اليومية متطوعا مؤمنا بالفعل الإنساني للأسيرات والأسرى عطاء فاق عطاء مؤسسات دولية كالصليب الأحمر. الحرية لأسرى الحرية جميعا".
وعقّب الصديق إبراهيم الخطيب أبو وسيم من الشتات: "طوفانك المستمر على الأسيرات والأسرى، نضال تميزت به. وواظبت عليه حملت للأسيرات والأسرى بشرى ولأهاليهم أملا وقلوبا على شكل أشواق. لك كل التحايا على دأبك المتواصل."
وعقّبت الأسيرة المحرّرة أم عناد البرغوثي: "فك الله بالعز قيد الأسيرات والأسرى والله إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ونحن على ما تمر به الحركة الأسيرة لمحزونون ولكنْ عزاؤنا أن كل ذلك في سبيل الله. بوركت جهودك أستاذ حسن".
نشرت يوم 29.11.2023 خاطرة بعنوان "صفّرنا الدامون"... وخاب أملي.
عُدت لزيارة الدامون للاطلاع على وضع حرائرنا؛
"ما في غيري برّه السجن"
زرت صباح الخميس 1 شباط 2024 سجن الدامون في أعالي الكرمل السليب لألتقي بالأسيرة زينب محمد أحمد سجدية؛ (مواليد 08.06.1973)، مخيّم الدهيشة/ بيت لحم، وفي الممرّ شاهدت أسيرات من غزة في طريقهن لعناق الحريّة، وما إن دخلنا غرفة لقاء المحامين أمطرتني برسائل ياسمين، إخلاص، سهام، دلال، ليندا، براءة، شاتيلا، ديالا إلى أهاليهن.
حين قرأت لها رسالة ابنها محمد نزلت الدمعة من عينها، وأخبرتها برسالته حين سألته عن اسمه "محمد ما في غيري برّه السجن وثنين جوه".
خبّرتني عن وضع القسم؛ وضعهن بعد نقلهن من قسم 3 إلى 4 (قسم الأشبال سابقاً)، زميلات الزنزانة (أحلام يونس، هيا حج يحيى، ليندا جعارة، ياسمين أبو سرور، دلال خصيب، زهرة خدرج – وصلت حديثاً)، الفورة وقتها قصير، الأكل بنقص مرّات، فش تواصل بين الغرف، "بنحكي من ورا الحيطان"، وما في تواصل مع العالم الخارجي.
حدّثتني عن ساعة الاعتقال؛ ع الثنتين ونص منتصف الليل، "كنت نايمة، فجّروا الباب (يحصل للمرّة الثالثة!)، لبست ع حالي جاكيت، مشّوني من المخيم لحدّ مقبرة الشهداء، دبّتني المجنّدة المرافقة ع الأرض بالميّة الوسخة، عصّبوني وكلبشوني، أخذوني ع المعتقل وزتّوني ع الأرض في الساحة وطلعت ع إجريّ الجراذين الكبيرة، نقلوني للتحقيق، كلّها فيس وإنستا، غلطوا عليّ كثير بالحكي، "بدّي أطخّ ابنك راني، إنت إرهابية وولادك إرهابيين، والله لأشلّخك تشليخ، بودّيك على غزة توكلي شوارما مع أبو عبيدة، وأجوّزك إياه". كلّ الطريق إلى سجن هشارون ضرب (من الساعة 11:00 للساعة 14:00) وحين وصلت تم استقبالها بالضرب "شلّخت المجنّدة كلّ الأواعي الّي عليّ، كلّها، بما فيه الداخليّة، معط شعر، خبط راسي بالحيط، حاولت تدخّل راسي بالكبّين وقاومت فطلّعت شخّة من الكبّينة بكاسة وزتّتها ع راسي".
أوصلتُ رسائل أهل بدرية، براءة، تمارا وإخلاص.
أملت عليّ رسالتها للعائلة، فرداً فرداً، وخاصّة محمد وأولاده وأولاد مهند (ابنها الأسير)، ورندة ورزان، وكناينها شروق وفطّوم، والأحفاد جوجو وتوتي وسراج وسام (والبيبي الجديد، ولد خلال أسرها ولا تعرف اسمه بعد)، وزيدان وعيسى.
وحين افترقنا قالت: "محمد حبيبي، ما تقلق عليّ، أنا كثير منيحة ورايحة أظل كيف أنت بدّك إيّاني، الأم يلّي بتفتخر فيها وبتظلّ رافعة راسك دايماً".
"دبلِة من خرز"
عدتُ ظهر الأحد 04 شباط 2024 إلى سجن الدامون لألتقي بالأسيرة ملاك رائد نعمان النتشة من الخليل (مواليد 25.06.2000)، خرّيجة هندسة طاقة تطبيقيّة، أطلّت بابتسامة قاهرة.
بعد التحيّة مباشرةً قرأت على مسامعها رسالة خطيبها أحمد (كانت القعدة الشرعيّة يوم 29.11.2023، كتب الكتاب يوم 06.12.2023 والحبسِة يوم 13.12.2023 (قطعوا الفرحة) فدمعت عيناها فرحاً وحدّثتني عنه كثيراً (طالب دكتوراه في الفقه) عن الخطبة والتحضيرات للعرس وصوّرت لي تطريزة والدتها بمناسبة كتب كتابها.
حدّثتني عن زميلات الزنزانة (أنغام، جنين، عرين، براءة، أميمة، تمارا، آية، نوال، حليمة، شهد) واحتفالهن بخطوبتها "البنات عملولي دبلِة من خرز".
أخذت تصوّر لي وضع زميلات الأسر؛ 72 أسيرة، الاكتظاظ الكبير، الأكل أسوأ ما يمكن، فلفل حار كخضرة وحيدة، بقوليات (عدس بُنّي وأحمر) وحمص (حب وتدهين) مما يسبب مشاكل صحية، الغرف باردة جداً، البقّ ما زال يسيطر على فضاء الغرف، رطوبة بالغرف والدهان يتساقط من السقف، الشاي بدون سكر (السكر نوع من أنواع الرفاهية)، فتحة الغرفة مسكّرة ببلاستيك عازل، فصل تام الغرف عن بعضها، المرحبة خلال الفورة ممنوعة، الإهمال الطبي الصارخ سيّد الموقف، العلاج: اشربوا ميّة، والمياه ملوّثة مع صدأ وكلور، والكل صار معه قِشرِة في الشعر، الكاميرات على مدار الساعة في كلّ مكان، وما في خصوصيّة، 24 ساعة لابسات أواعي الصلاة خوفاً من التفتيش المفاجئ، فوط ومناشف حمام مفيش، ونقص حاد بالملابس الداخلية.
أوصلت لها رسالة العائلة، ورسائل لخالدة، بدرية، إخلاص، فاطمة، حليمة، براءة.
سمّعتني قصيدة لشهد، طلبت إيصال سلامات ورسائل لخطيبها أحمد وللعائلة فرداً فرداً، وأملت عليّ رسائل زميلاتها الأسيرات لأهاليهن؛ شهد، أميمة، أنغام، حليمة، تمارا، عرين، جنين، آية، نوال.
بعد مرور ساعتين قالت لي فجأة: "مش حابب تعرف شي عن الاعتقال"؟ حدّثتني بتفاصيل الاعتقال، ورحلة العذاب ودرب الآلام من جعفرة إلى عتنائيل إلى الشارون، وطقوس الاستقبال هناك؛ سجانون استقبلوها يتمسخرون بأغاني أعراس (إجت العروسة)، سجّانة تدخّن بوجهها، تفتيش مُهين جداً، "قعّدتني السجانة ع الأرض وبلّشت تضرب فيّ بإيديها وإجريها وتخبّط راسي بالحيط، كل ما بحاول أوقّف بتدفشني ع الأرض، رفضوا السماح لي بالحمام عشان أصلّي، "العقربة السودا" شلّخت الأواعي وسرقت الجلباب، قنينة ماء واحدة لثلاث صبايا معتقلات لثلاثة أيام، استعملنا الجرايد بدل المحارم، ولما انتبهوا أخذوها ولما وصلت الدامون أعطتني الصبايا أواعي، كل وحدة أعطتني قطعة ملابس وصرت "مرقّعَة".
"الفَرشات بتنَخِّز"
عدتُ مرّة أخرى صباح الاثنين 05 شباط 2024 إلى سجن الدامون لألتقي بالأسيرة فاطمة محمد سليمان صقر من الشرفة/ البيرة (مواليد 15.08.1976)، أم لأربعة أولاد وجدّة لأربعة أحفاد (أصغرهم خالد، لم تشاهده ولم تحتضنه بعد).
بعد التحيّة مباشرةً أملت عليّ رسائل زميلاتها الأسيرات لأهاليهن (لا يوخذنا الوقت، على حد تعبيرها)؛ أنغام، زينب، سهام، بسيل (أسيرة جديدة، أم لثلاثة أطفال وحامل)، أسيل، بدرية، سجى، دانا، أختها دلال، شاتيلا.
حدّثتني عن زميلات الزنزانة، ووضع السجن؛ الوضع سيئ للغاية، الأكل سيئ جداً، كاسة لبن (كلّها ملعقة واحدة)، فش ملح، فش سكّر، بنشتهي زيت الزيتون، أكثر شي متوفّر الفلفل الحار، القهوة مرة بالأسبوعين/ ثلاثة، الغرف باردة جداً، الفرشات مليانة حشرات وبتنخّز كل الليل، فصل تام الغرف عن بعضها وكلّ من ترفع صوتها تُعاقب وتُعزل (اليوم الدور على دانا)، الفورة كل غرفة لحالها، نقص حاد للفوط الصحيّة والملابس الداخلية.
أوصلتُ لها رسالة العائلة، أبكتها فرحاً، ورسائل لتمارا وأميمة (من صديقتها تيماء) وملاك (من خطيبها أحمد) وزينب (خبرّتُها اسم حفيدها الصغير – وسام).
طلبت إيصال رسائل مؤثّرة للعائلة، فرداً فرداً، وخصّت الأحفاد كلّهم (وبالأخص خالد الصغير "يلّي بعدني ما شُفتُه").
حدّثتني بتفاصيل الاعتقال، من الشرفة إلى عوفر، عتصيون، هداريم، هشارون (فيلم رُعب) والدامون. وحين ذكرَت الشارون بكت بكاءً مريراً (نحيباً)، مشهد التعذيب هناك يلاحقها، "تفتيش مهين جداً، الضرب كلّ الوقت (ما زالت العلامات على جسمها)، الضرب وإحنا عراة، المسبّات والإهانات (كل الليل بناديني السجان لعند الباب وبغلط عليّ وبسبّ على حياة صالح)، أحاول الوقوف فتقعدني السجانة بالقوة". أخذت تبكي وقالت لي: "مش رايحة أنسى صورة السجّانة (العقربة السودا) لو حطّوها بين مليون واحد"!
رغم ذلك افترقنا بابتسامة أمل وثبات، ومعنويات عالية تناطح السحاب.
لكُنّ عزيزاتي زينب وملاك وفاطمة أحلى التحيّات، والحريّة لكُنّ ولجميع أسيرات وأسرى الحريّة.