مداد الزعفران
كان من حسن حظي أنني كنت أحد المطلعين والمتتبعين للكاتب محمد الأصفر.. وهو رجل عفوي جداً ولديه قلب لم يلتق يوما بالحقد.. وتشبيهاته غريبة ولديه مقدرة عجيبة على الكتابة التي أصبح أحد المشهورين بغزارتها.. تعرفت به في أحد النشاطات الأدبية بمدينة بنغازي.. وهو إنسان دمث الأخلاق يفتخر الوضوح بأنه أحد المتحلين به.. كثير الإطلاع ويمتاز بالنهم الذي لا حدود له في القراءة حتى أصبح أحد معالم بنغازي الثقافية.. كثير التجول إلى الحد الذي تجده في كل مكان.. عرفت خطاه المكتبات ومؤسسات الإعلام وديار النشر ومقاهي الانترنيت.. تمكن من الانتشار إلى الحد الذي أصبح من أكثر الشخصيات الليبية ذيوعاً في مجال الإبداع الحقيقي بعد الكوني والنيهوم والفاخري والفزاني والشلطامي حتى أصبح اسمه على كل لسان وتمكّنت العديد من الصحف العربية من التطاول على سواها بنشرها لأعماله المميزة وتمكن في زمن قياسي قصير من وضع بصمته جنباً إلى جنب في أعظم الصحف مع كبار الكتاب في وطننا العربي التي يحتاج الكتبة إلى بذل زمن غير يسير حتى تتمكن هاماتهم من الوصول إلى رسائل قرائها.. وقد تحقق هذا النجاح جراء المسافات التي كانت عرضة للطّيّ من قبل قدميه الصلدتين وهو يلاحق المعرفة من مكان إلى آخر في بنغازي حيث يسير بقدميه المتعبتين قرابة العشر كيلومترات يومياً من الفندق البلدي إلى مؤسسة الإعلام إلى دار النشر مرتين في اليوم.. صباحا ومساءً حتى أصبح أشبه بالموسوعة المتنقلة يوفّر على مثقفي بنغازي الجهد في متابعة أعمالهم فيخبر كل من يلتقي به عن محتويات كل صحيفة أو مجلة أو موقع إلكتروني.. يحمل حقيبته المليئة بالأعمال الأدبية والأقراص المرنة تحت إبطه وأما جيوبه فتعج بقصاصات تحتوي على العديد من عناوين المواقع الأدبية.
كتب القصة القصيرة والمقالة والرواية وله بعض المحاولات الشعرية التي لم ترق له رغم روعتها بالإضافة إلي دخوله عالم المسرح بمسرحيته الرائعة (شيّع وطّي) وهو اسم شعبي لإحدى ألعاب الأطفال العالمية حيث يجلس اثنان من الأطفال كل منهما على أحد أطراف الخشبة المثبتة من الوسط وتتم لعبة التوازن بينهما وقد تم عرضها لفترة طويلة.. حيث قام بدور البطولة فيها أحد أهم الشخصيات الخفيفة الظل في ليبيا وهو الفنان ميلود العمروني وقد لاقت رواجا منقطع النظير وأصبحت حديث الناس في بنغازي تلك المدينة المرهفة الحس والتي عرف أهلها بخفة الروح واشتهرت بلقب (ربّاية الذايح) الذي نالته بسبب فتحها لذراعيها أمام كل غريب وهي نسيج متناسق من كل سكان ليبيا.
وقد كان بسبب حبه الشديد للثقافة دور بارز على حياته الخاصة فهو يقتطع ثمن الكتاب من قوت أطفاله.. لا تراه إلا قارئا أو شاردا بذهنه ثم سرعان ما تخطر بباله فكرة جديدة.. يشجع المواهب وينبذ الأدعياء الذين أصبحوا أشبه بالضباب الذي يعيق النظر من أجل إخفاء تألق الآخرين.. ليس له مكان معين للكتابة حيث ترى أنامله الخشنة تتشبث بقلمه المنهك الذي ينفث صريرا على أوراقه الباهتة وسرعان ما يتولد عن ذلك بزوغ فسيفساء يعجز الخلاّقون عن محاكاتها.
منذ عدة أعوام قام بمنحي إحدى مخطوطاته التي نشرت فيما بعد تحت عنوان (حجر رشيد) وبمجرد تصفحها شدتني لليلة كاملة وكانت من أجمل ما قرأت وقد تمكّنت مخطوطته من رفع نير الأسى عن قلبي دفعة واحدة حيث قام صاحبها بإخراجي من ضجري وأنا أعيش مع كل حرف من حروفه لوجود القصص القصيرة الخالية من العوز الإبداعي مكانا فسيحا خلالها.
يفتخر الوفاء أنه أحد المتحلين به.. فقد كان وفيا لمبدعي وطنه حيث لم يغفل قلمه عن تأبين كل الشخصيات المبدعة فور رحيلها دون تمييز أو جهوية أمثال صديقه الشاعر الليبي الكبير علي الفزاني والقاص خليفة الفاخري والشويهدي والمقهور وغيرهم من الشخصيات التي فضلت أن تعطي دون مقابل كأنها لم تسمع عن شيء اسمه الأخذ.
وتتميز أعماله بكثرة الإسقاطات ومن أكثر القصص التي استهوتني قصـة (سقف شفاف) التي يصف فيها الشلالات بأنها دموع الجبل ثم يقول في مشهد مثير للغاية: "في قيامة الجمادات قال الجبل للفولاذ: تخرج مني وتنخرني أيها الجحود، بئس الرحم أنا.. ثم أطلق من سقف جمجمته حمما على قيامة الأحياء".
وفي قصته (تجدد) يحاول أن يجد للكسول مبررا باستخدام القطن في إطفاء الحريق بعدما قلب بقية السيجارة على ظهرها حتى وصل اللهب إلى القطن وخمدت تلقائيا.
وفي قصته (بذور العسل) يحاول جاهدا أن يحارب ظاهرة الغش.. ابتداء من الفلاح الذي باع الثمرة المعطوبة إلى صاحب المطعم الذي قام بطهيها للزبائن متطرقا لمربيّ النحل وتقصيصهم لأجنحته وتغذيته بالسكر لإنتاج عسل مغشوش حيث يقول عن ذلك رامزا إلى الحرية: "فمرضت الناس ولكن عرفت أن سر الشفاء يكمن في تناول العسل الذي أنتجه نحل يطير".
وفي قصته (فوزان (وهي الطفلة اللقيطة التي ماتت أمام عيني والدها المنكر لأبوته لها حيث يقول: "في إحدى المنعطفات كانت سيارة متهورة تقدم لها رصاصة الرحمة على طبق من ارتطام.. " ثم يقول عن الأب الذي كان يشاهد ما يحدث: "كان يبتسم ابتسامة ذئبية ولكن تكشيرة التاريخ تعده بإخصاء قريب .
وفي قصة (هموم نظيفة) يقول للأخصائية الاجتماعية التي قامت بغسل همومه ثم سألته أين سينشرها فأجاب: "لا عليك همومي ساخنة.. ستجف تلقائيا دون نشر".
وأما عن السعادة فرأيه مختلف: "لا نعصرها ولا ننشرها !.. فما أبشع أن ينعم الإنسان بسعادة جافة".
وفي قصة (ورود بشرية) يصف سمسار السيارات بلقب فضيع عند شرائه سيارة البستاني: " لقد باع سيارته المتهالكة بثمن بخس فرضه عليه أحد نخاسي السوق".
ويبدو تأثره بالقرآن واضحا حينما تحدث عن فنيي الكهرباء وقطعهم للتيار: "بتروا التوصيلة وجعلوا الأسرة اليتيمة في ظلمات ثلاث، ظلام موت الأب وظلام مرض البنت وظلام الاحتياج.. وعند مرور الأطفال أمام الفندق، أبصر أصغرهم بستانيا يعمل هناك فظنه والده الذي مات قريبا فصاح مناديا: بابا .. بابا .. تفاح .. موز .. تفاح .. موز". متذكرا ما كان والده يجلبه معه في نهاية الدوام.
وفي قصة (هوس المناقير) الطائران احتاجا لبعضهما للنجاة بعدما فقد كل واحد منهما جناحا بسبب الشجار فيما بينهما مشيرا إلى أهمية التعاون بين المختلفين للنجاة قائلا: "قبل أن يسقطا، التصقا ليستمر التحليق ولو برأسين وذيلين وأربع مخالب وجناحين بعيدين عن هوس المناقير".
ونلاحظ دائما حرص القاص محمد الأصفر على انتقاء العناوين الملفتة للنظر مثل (ملح المطر – تناص – فوزان - كسر خصوصي - هوس المناقير) وقد قامت بالنشر له كل الصحف الليبية والعديد من الصحف العربية مثل العرب اللندنية وأخبار الأدب والحرية التونسية والقبس والجيل والصدى وغيرها.. متمكنا من الانطلاق بلا هوادة كعصفور نزاريٍّ يغمّد ريشه في عالم الأدب شاقاً طريقه بعصامية وعفوية غير آبه بغمزات ولمزات المثبطين.
وللأصفر الكثير من الميزات الإنسانية فهو خفيف الظل إلى الحد الذي يجعل من الملل عرضة للسخرية بمجرد طرقه للباب الذي يفصل بينه وبين أضداده من المملين.. وهو دائما ضد الضد تخشى الحواجز دنوّه منها.. متواضعا إلى الحد الذي يجعل أراذل الناس عندما يجالسونه يحسون أنهم هم المتواضعون.. يحب التواصل إلى أقصى الحدود، فرغم انشغاله الكبير إلا أنه لم يتغيب عن مجاملة الناس في مناسباتهم.. لم يقدم إلى قرائه عسلا مغشوشا كما يفعل أولئك الذين يحاولون أن يركزوا راية أسمائهم الباهتة فوق ذروة الإبداع الذي تمكن بسبب الغيظ من ترهاتهم أن يجعل القذف من أهون المكافآت التي يجود بها دونما منٍ.. بينما يتأبط التاريخ ممحاة الزمن خلف طيّاته ليقذف بما صاغوه لنا من تفاهة إلى مزبلة الاندثار.
ومن ديدنه إلغاء القديم فهو أكثر من النهر تجدداً إلى الدرجة التي يأبى الرضا عن أعماله بمجرد مضي شهر واحد عليها كما يمتاز بقدرة على اختيار النص الذي ترغبه الصحيفة التي ينوي مراسلتها.
كانت هذه نبذة مختصرة عن الأصفر ذلك الغول البدائي الذي تلألأ اسمه في عالم التذكار.. أقدمها إلى قرّائه العرب الذين لم تحظ عيونهم برؤيته مثلنا بعدما تحلّقوا حوله تحلّق الغلاف بكوكب الأرض الذي تمكّنت النفايات من إحداث ثقب أوزوني جعلها تحس أن ثمة نهاية وشيكة سوف يتعرض لها الكون إن لم تتدخل الأنامل الداعية للسلام لكبح جماح الفناء الذي أصبحت خيوله تلوح في الأفق من أجل القضاء على كل ما هو جميل ورائع يحاول أن يرسم بالحرف كلمة يتضوع المسك من أردانها.