السبت ١٨ آب (أغسطس) ٢٠١٨
قراءة في المجموعة الشعرية
بقلم الهادي عرجون

«مزامير من سفر الأنا»

بادئ ذي بدء يقول أدونيس: عش ألقا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض (1) و بذلك يكون أدونيس قد استطاع أن يزيد سعة الأرض بتوسعة الرؤيا و تضييق العبارة انسجاما مع المقولة الشهيرة للنفري التي يقول فيها: كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة (2) هكذا بدا شعر عبد الحكيم الربيعي مضيقا للعبارة معولا على التكثيف و التخلص من الزائف و العرضي و هكذا أبدأ من محتوى النص لأقف على عتبة الم،جموعة الشعرية "مزامير من سفر الأنا "الصادرة عن دار الثّقافية للنّشر/ المنستير سنة 2016 في 95 صفحة ضمت بين طياتها 45 قصيدة نثرية تنتمي في مجملها إلى قصيدة الومضة باستثناء بعض النصوص التي جاءت مطولة مقارنة ببقية النصوص والتي مزج الشاعر فيها بين عدة متناقضات طغت عليها مسحة الحزن و القلق الناجم عن الغربة و الاغتراب داخل الوطن.

ففي البداية لابد من أن نقف على عتبة العنوان "مزامير من سفر الأنا "و هي تذكرنا بمزامير داوود و التي تعرف في العبرية باسم تهليم أي ”الحمد والتسبيح أو التهليل”، أما في اليونانية فتعرف باسم أبسالموس بمعنى أغنية مقدسة أو مزمور أو تأتي بلفظة يُرتل [ ترتيلة أو مديح]، أما اسمه في العربية "مزامير "فهو من الفعل "زمَّرَ "أي غنى أو أنشد بمصاحبة المزمار أو غيره من الآلات الموسيقية.

والمزامير هو سفر الإختبارات الروحية والتسابيح والتراتيل، نظمت كى يرنم بها وقت العبادة. وفي أطوار حياتنا كلها نجد سفر المزامير دائماً معيناً شديداً لنا، في أوقات الحزن والفرح، القوة والضعف، الصحة والمرض، فى الصغر والشباب والشيخوخة يكون سبب فرح وتعزية وتشديد وتعضيد وبركة.(3)

و المجموعة الشعرية "مزامير من سفر الأنا "لا تخلو من إرتباط بينها و بين مزامير داود فتاريخنا و حاضرنا لا يخلو من صراع فالشاعر ضمن أحداث تاريخية حدثت منذ زمن بعيد بأحداث تتكرر بصفة متتالية في جوهرها إيحاء و إخفاء يقول في نص ابتهالات الابن الضال ) صفحة (21 ) في إشارة إلى سيدنا آدم:

ليشهد الحزن ميلاد موتي
و تِيهي في غابة التوت و التفاّح
و الأمنيات العارية.
أتسوّل...
أتوسّل وسوسة إبليس
على عتبات اللّهفة

ليؤكد في نهاية النص أنه هو ذاته يستحق المغفرة فقد غفرت لأبيه في السابق لأنه قد ورث عن أبيه حب الشهوات يقول صفحة (22 ):

إلهي
حدّثني التاريخ عن نبي
وهو أبي
غفرت له زلّاته ببعض كلمات
و أنا الابن مثله
وَرِثت عنه حبّ الشّهوات
فأجرني من نفسي

كما أن توظيف القصص الموجود في القرآن و مزامير داوود كان توظيفا دلاليا لأحداث و أوضاع سياسية نعيشها الآن وظفها شاعرنا للتعبير عنها فهي ليست مجرد أحداث عابرة تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي و الفعلي فإن لها من الدلالات الباقية والقابلة للتجديد في صيغ و أشكال تتكرر من خلال أحداث جديدة يمكن أن نحمل عليها تأويلات و تفسيرات تعيد الحياة لهذه الشخصيات سواء بالحنين إليها أو لما تحمله هذه الشخصيات و الأحداث من أفكار وقضايا.
يقول في نص (ذات فجر ) صفحة (27):

ذات فجر
حين أورق الإنسان
رَغْبَةً
خُلع ثوب البراءة
و كان الطوفان
تَتِمَّةٍ
لفصلٍ في غير المكان
و هذه السفينة
تحمل خطايانا
مُسَرْبَلَة بالخوف

و بذلك نرى الشاعر يحدثنا عن شخصيات تاريخية و دينية ليصنع الحاضر فالسفينة في صورتها توحي لقوارب الموت و ما تحمله من معاني الهروب و لكنها ليست رمزا للنجاة بل هي رمز للموت "سآوي إلى جبل يعصمني من الغرق "فلا مرد من النجاة لأنها مغامرة و صراع بين الموت و الحياة الذي يجسده نوح "فعلى تعمير نوح مات نوح *** فلكل إمرأة ما تنوح ":

يقول أيضا في نفس النص صفحة (27 ):
تراتيل المزامير
تعزف لحن الغربان
على قبر هابيل

فشخصية هابيل القتيل الذي قتله أخوه قابيل راسخة في الأذهان لكونها أول جريمة قتل على وجه الأرض و بذلك حمل قابيل إثم من قتل بعده و هنا إيحاء للتناحر و التقاتل بين اخوة الدين الواحد و الدم الواحد و الوطن الواحد و ما يحدث من حروب في خارطة الوطن العربي هو أكبر دليل على ما أراد أن يفصح عنه الشاعر عبد الحكيم الربيعي و هذا ما يؤكده بتوظيف شخصية يوسف و أخوته و كيف باعوه بثمن بخس دليل على العمالة و التآمر على شعوب الوطن العربي كما في قوله صفحة (27 ):

و صدى البئر
يندب هاتيك الأخوة
بيعت بثمن الأحقاد
صُلِبت الحكمة
أمام الإغواء
و كانت الغلبة للأشقياء

فالشاعر كذلك يعود إلى الماضي القريب و ذكريات الطفولة و الشباب التي تراوده مرة تلو أخرى تشكل في شعره مسحة من الحزن فالماضي حزين و كذلك الحاضر لتخرج في شكل ومضات شعرية عذبة وصورا تذكارية تجسد حالة الشاعر النفسية رغم مسحة الأمل التي يلبسها الشاعر في نصوصه فالشاعر كرر لفظ الذكرى (10 مرات) إشارة إلى حالة التذكر و الارتداد إلى الوراء التي يعيشها الشاعر بتذكره الأحباب و الأصحاب و الرفاق و الحبيبة التي يماهي فيها بين المرأة و الوطن فالشاعر لا يستطيع أن يعيش دون ذكرياته فالذكرى تعني الحياة و النسيان إنما يعني الموت (تكررت لفظة الموت 06 مرات دلالة على نسيان الموت و تذكر الحياة و التي جاءت في مجملها مصحوبة بعبارات تحيل على الحياة: (بوصلة الحياة / نبض الحياة / طرف الحياة / يسقني حلو الحياة / إكسير نبض الحياة / تزهر الحياة / أبعث في الحياة ).

و الحياة التي جاءت بدورها للتعبير عن حالة الأمل التي يعيشها الشاعر رغم حالة الحزن والوجع التي يعانيها:

الصفحة
عنوان النص
اللفظة
النص
راعي النجوم
الوجع
عيناك تمطر ثلجا / يتراكم على شفا الوجع
سندباد الضياء
فقد ديس فيها سفر السفر / و سكنها الوجع
لحن ليس ككل الألحان
يسكب دمعا / يقطر وجعا
أين مني غدي؟
و أرتضي السكن / على شفا الوجع
مواسم الوجع
مواسم الوجع أنهكتني
رسالة إلى ما وراء الحجاب
آه يا مدى وجعي

وجع 1
الوجع رديف هواك / قطع عهدا بالوفاء / حين رحلت لازمني / بقي الوجع وشما

لحن الأرق
ينهشني / دون كلل / على موائد الوجع

وجع 2
حتى متى تشدها / أو تارا / للحن الوجع

هدي الأحلام
في معتقل الأحلام / حين كنت على شفا وجع

فجر يأبى الولادة

الحزن
منع عني الكرى / أنهكني حزني تلبسني

ابتهالات الابن الضال
يلهب شوقا / ليشهد الحزن ميلاد موتي

مواسم الوجع
كما العادة حليم / وديع مع حزني

رسالة إلى ما وراء الحجاب
رحماك ربي / أنهكتني أضغاث حزني

مراودة
على شرفات العتمة / يراودني الحزن

"فالشاعر من خلال تكرار بعض الكلمات والحروف والمقاطع والجمل، يمد روابطه الأسلوبية لتضم جميع عناصر العمل الأدبي الذي يقدمه، ليصل ذروته في ذلك إلى ربط المتضافرات فيه ربطاً فنياً موحياً، منطلقاً من الجانب الشعوري، ومجسداً في الوقت نفسه الحالة النفسية التي هو عليها، والتكرار يحقق للنص جانبين، الأول،ويتمثل في الحالة الشعورية النفسية التي يضع من خلالها الشاعر نفسه المتلقي في جو مماثل لما هو عليه، والثاني: (الفائدة الموسيقية)، بحيث يحقق التكرار إيقاعاً موسيقياً جميلاً، ويجعل العبارة قابلة للنمو والتطبيق، وبهذا يحقق التكرار وظيفته كإحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره؛ لأن الصورة الشعرية على أهميتها ليست العامل الوحيد في هذا التشكيل”(4).

حيث يمكن أن نجزم بأن استعمال الشاعر عبد الحكيم الربيعي هذا الطابع الحداثي القديم الجديد في الشعر العربي هو بمثابة المرآة التي تكشف نفسية الشاعر لحظة المكاشفة الشعرية و التي تعبر عن وصف الحالة التي تتملكه في تلك اللحظة لتشكل تلك الكلمة المكررة ركيزة من ركائز بناء النص الشعري عنده و هذا ما يؤكده الكاتب و الباحث السوري "عصام شرتح": "إن التكرار- في معظم نتاجات شعراء الحداثة- يؤدي دوراً مهماً، لاسيما إذا استطاع الشاعر أن يربطه بالمعنى والرؤية معاً، ربطاً دقيقاً موحياً؛ وهذا يتبع موهبة الشاعر ومدى براعته في الخروج بالتكرارات من دائرتها النمطية، إلى دائرتها الفنية والأسلوبية المبتكرة. "(5).

و هذا ما جعلني أعود إلى قراءة المجموعة أكثر من مرة للوقوف على حالة الشاعر النفسية التي أفضت إلينا بهذه النتف التي حركت في دواخلي سعادة و لذة حقيقية رغم ذكر الموت الذي يمكن اعتباره الطرف الغامض في قصائده حيث يقول الشاعر في نص "أمنية"صفحة (59):

يطوّقني الانتظار
يلتهمني
يسري كالموت
بطيئا في الأوصال
ليتني كنت إلاها
ليكون حضورك "كن فيكون"
فأحمل قلبي بين يدي
وأَبعثُ فِيَّ الحياة
و كذلك "وصية غريب "صفحة (60)
قال: "أنت غريب وستموت وحيدا "
قلت: "لا خيار حين النزع
أوصي فقط
غسّلوني
بدمع أحبتي
و كفّنوني
ببعض من نصوصي
عزائي أن من سيحمل نعشي
كاتب و شاعر
و كثير من تلاميذي.
فذاك، دون فخر كلّ رصيدي
و الذي يذكرني بقصيدة للشاعر التونسي الراحل "محجوب العياري "(6) و التي عنوانها "عن الموت... وعن حماقات أخرى ":

سأمــوتُ من وَلـَـهٍ.. أمــوتُ
سأموت حقـًّـا، لا مجازا..
ثـُــمّ يطــــويني السّـُـــكوتُ
سيسيرُ خلف النّعش أصحاب قليلٌ
سوف يمشي أدعيـاءُ وكاذبُـــونْ
لينتهي في آخر النص و يقول:
سأمــوتُ من وَلـَـهٍ.. أموتُ
سأمــوتُ حـقًّــا، إنّـما
من لحم أغنيتي ستطلعُ كرْمةٌ
سيحطُّ فوق جـبينها حبقٌ وتُوتُ
سأمــوتُ؟
وهْــمٌ ما أشاع المـيّـتُــونَ
وهــلْ أخُــو وَلـَـهٍ.. يمُــوتُ؟
هــلْ أخُــو وَلـَـهٍ.. يمُــوتُ؟

و هذا ما جعلني أستحضر مقولة للشاعر و الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري(7) التي يقول فيها: "إنّ الموت يتحوّل لدى الشعراء، بخلفيّاتهم الصوفية والفلسفية والوجودية المتنوِّعة، إلى ذريعةٍ قُصْوى لأَنْسنة الحياة وقد افتقدت لكثيرٍ من ملامحها وقوى تجدُّدها إن في ذاتها أو في مدى انعكاسها على مرآة النّفْس".

و في النهاية يمكن أن نقول بأن هذه النصوص نجحت في شد القارئ إليها خاصة و أنني تصفحت مجموعة "مزامير من سفر الأنا "من ثلاث رؤى مختلفة (قارئ و شاعر و ناقد) و لقد لمست فيها خصوصيات جمالية و دلالية تعكس تجربة صاحبها الذي وشح مجموعته الشعرية بعبارة لمحمد الماغوط (8) "أنا اكتب نصوصا و لن أغضب إذا قيل لي أنّني لست شاعرا و إنّما كاتب نصوص "ليخرج بنا من عتبة القصيدة الشعرية المتعارف عليها بكل مميزاتها إلى عتبات نصوص شعرية منفتحة على الواقع بأنماط مختلفة تعبر عن رؤية جديدة و مختلفة عن سابقاتها عنوانها التفرد.

– علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار أدونيس شاعر سوري.

– محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري من أعلام التصوف الاسلامي.

– الموسوعة الحرة ويكيبيديا.

– الجيار،مدحت،1995- الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي،دار المعارف،مصر،ط2،ص47.

وانظر،محمد الخرابشة،علي قاسم،2008- الإبداع وبنية القصيدة في شعر عبد الله البردوني،مجلة عالم الفكر،ع1،مج37،يونيو ستمنبر، ص241-242.

فنية التكرار عند شعراء الحداثة المعاصرين - دراسة أدبية كتبها الكاتب و الباحث السوري عصام شرتح ظهرت في مجلة رسائل الشعر (العدد التاسع كانون الثاني 2017، صفحة 66-88 ).

– محجوب العياري (1961 – 2010 ) شاعر تونسي راحل.

– عبد اللطيف الوراري – شاعر و ناقد من المغرب.

– محمد أحمد عيسى الماغوط (1934 -2006) شاعر وأديب سوري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى