مزامير وضراعات محمد مقدادي
يكابد المقدادي الشوق وهو يطرق باب الزمان الموغل في التناهي، حيث كان الحدث دالاً في كثير من إيقاعاته على البحث عن الحقيقة وعلاقة الإنسان بما حوله.. إنها الحبيبة.. حيث نواقيس الضراعة ومزامير السير بخفة نحو ذاك المتألق من حدائق بهجتها، جامعة أساطير الخلق، وتنهدات صدرٍ تجتاحه الشرايين دافقةً.. وهي تقلِّبُ أوراقَ الشاعر وتعيد كتابتها من جديد... طافحا شوقه إلى مجهولها، ومستجليا مآثرها ورادّات فعلها، حيث يبدأ النصَّ بالترتيل ويختتم كذلك.. "ما حاجتي، لأريقَ اغنيتي على العتبات، وهي تجيءُ مشبعةً، بما أحتاجُ من عبقٍ، ومن نزقٍ، وتحطُّ مثلَ فراشةٍ، محمولةٍ فوق الاكفّ، فأنحني لمقامها، وأعيدُْ"!!
ولقد جاء حضور المكان في الديوان وفق نسق متكامل مع الحالة والموقف، سواء في عمومية الطرح.. أو في التحولات الموقفية.. وهو في النسق الرؤيوي العام "المنفى".. والذي يتراءى في مستويات دلالية مُقاربة في خِضَميِّات المواقف التي يُفْرِغُها الشاعر تعاطياً شعرياً.. وفقما نَحسها لحما ودماً.. ففي الذهنية الشرقية يرتسم الرجلُ المراسمَ فلا يتخطاها.. ولا تُتَخطى إذ رسم، غير أن عنونة الديوان تضع الرجل في حالة المفعولية، فالمرسوم يُكتب له في حُبٍٍّ ليس من هذا العصر، ومكان لم يعد لصاحبته أثر فيه. وقد تركزت عنونات الشاعر في خطابه الشعري في ثالوث، الحب والمنفى وامرأة (تنكيرا)، مدلاجها ثلاثة مفتتحات: ضراعات ومزامير وحدائق من بهجة وكستناء.
"أيها المنفى.. اعطني صدرا.. يتّسعُ كلما ضاق العالم من حولي، وكفّاً...، تنبسطُ كلما انقبضت راحةُ الغيم! وعيناً...، تحدّقُ مليّاً في سرادق الليل..، كي تملأ روحي..، بنور كواكبهِ التي لا أرى!!".
وما تفتأ حدائق البهجة والكستناء تتراءى مرايا تنسكب لجينا تَفْتَرُّ عن ثغر باسم.. يستعصي الكلام عن وصف وارف الخمائل المفروشة رياحين وزنابق .. وعن دفقة الشهد الشذِيِّ.. وانتشاء افتراش الروابي.. ففي ربوعها لم يتأود العود.. ولم يُرْدي غُصْنَهُ اشتياقٌ لندىً.. فعندما رشَّت الشمس ضياءها فوق غاباتها.. ارتشف السهل السنا.. وأصبحت شمسها تختصر الدروب توقاً للإياب.. لينتشر في مفارقها رحيق الأزاهير.. وأنفاس الخزامى .. وبهاء النرجس.. ونشوان الرؤى.. وندى الشمائل..
"قال العاشق: تهرعُ الازهار الى اسرارها، في الشذى، فلأيّ شيءٍ أهرعُ..، أنا البستانيُّ...، حينما اراكِ..؟" وتبقى صباحات المحبوبة وفضاءاتها أندى الروابي، وأوفاها بهاء، يعانق نجم سمائها طلع الزهور، وسحائبها تهمي عبقا.. ترشرش عشب سهولها سلافا.. فتسبيحٌ على كل الدروب وأجراس وضراعات.. وفي فضائها الرحب تفاصيل حكايا وصلبان تعب.. وحنين النظرات العطشى نحو مغرب الشمس في الأفق المجنح في ما تبقى في دفتر الأيام.. فخل بينك وبين الروح تسبح صوبها.. فهنا كان القرار.. وفيه تعجل سفح الدرب..
"شهران مرّا أيها الوردُ، لا زهرة تحنو ولا تشدو، لا برق يرشقني فاتبعُهُ، وأنا قعيدٌ.. قيديَ الوعدُ. هيئ لنا يا حبّ أغنيةً، ليضجّ في أعماقي الوجْدُ.... ويعودَ لي في الحلم مبتسماً، قلبٌ.. كواه القَبْلُ.. والبَعْدُ. شهرانِ مرّا فاقترح لغةً، لا يلتقي في ضدّها الضدُّ. هيئ لنا مهدا وأمنية، وأيائلاً تعدو...اذا نعدو. وأرسمْ على الأجفان ساقيةً، ليفيض من أحداقنا الشّهدُ. يا وردُ صار سريرنا وطنا، فاعصف بنا ما شئت.. ياوردُ."
لقد تمظهر المكان في الديوان فيما يقارب تسعين معلما سرديا.. فجاء المكان العلم والمكان الملمح والمكان الدلالة والمكان المخيال.. والمتكأ في الديوان دلالة مكانية أيضاً.. يوحي بالسكن والمستقر، وهو عند المقدادي مهداة الديوان، (امرأة) تسبح في فضاء التنكير.. وسؤال حائر بين زمن فائت وزمن قادم؟ ويكفينا الشاعر في هذا المتكأ مؤونة اللهاث وراء المحتمل والمتعمد.. "أيها الحبّ ...، كفى بي..، كفايتي بك..!!" فهو في اكتفائه بالحب وكفايته به يكون قد استوى على عتبات موطئ أراد، مُتمكنا مستكفيا به عن غيره، قانعا زاهدا به عمن سواه. "ما حاجتي للورد، حين تكون لي وردا، بكامل عطرها؟ ما حاجتي للماء... ما حاجتي للدفء... ما حاجتي للناس -كل الناس- وهي مدينتي.."
ومن هذا المستهل الدلالي والاشتقاقي لعتبة الديوان نلج مع المقدادي عالم الميل والتواد والمحاببة والحبور، والضراعات الطافحة بالتذلل والتعطي، وفي تساميها الابتهال...! ويتمظهر احتشاد المزامير في دلالة الذيوع والإفشاء.. وهي إغراء وامتلاء وطرب، وفوق كل هذا ترانيم إنشاد ودعاء.. فكانت مزامير الألفة والليالي والدهشة والكينونة والبحر.. وغدت مزامير الغريب والغياب والتحولات.. تستحضر اللحظة والمكان في "مزمور المقهى" و "مزمور الخاتمة".
"أيتها المبهمة، حتى الوضوح. الواضحة .. حتى الإبهام. والرائعة .. حتى الوجع. والموجعة.. حتى الفتنة... وها أنذا، أعلن أن مدادي، قد جفّ، وما أكملت فيك رسالتي...".
ويخال لي أن مسألة البحث في المدلولات، التي تشير إليها حركية أسفار الضراعات والمزامير، وفهم السلوك المنساب في معانيها، على اتساع أفق مجتمع الديوان، وتفهم السلوك الوجداني والمجتمعي الداخلي والخارجي، هو جوهر استنطاق القصائد، وتلمس التوافق النصي المسكون في لغة الديوان؛ من حيث تكاملية الحالة العاطفية والشعرية، وهو بذل المستطاع في سبر أعماق رمزية النصوص، واستقراؤها على أنساقها المكانية والزمانية، وفتح نافذة لرؤية عالم الشاعر على وجه قريب.
"قال العاشقُ ايضاً: لا شارعَ في الشارع، لا ضوءَ في الشمعدان..الذي، خلا من زيته، واسودّت فتائلُهُ، لا نافذةَ في النافذةْ، لا مكانَ في المكانْ...، لكن المشهدَ منضبطٌ تماماً، أنا وأنت في الاطار، الاطارُ نافذتُنا الى شارعٍ بعيد، والشارعُ، يحتفل بقناديل تنثر دهشتها، مثل التسابيح، في صلواتٍ حميمةٍ، ومكتظّةٍ بالنداء!!"
وعندما تعلن "ليلى" الرحيل في "مزمور الغياب" يتسحيل عالم الديوان المكاني ضيقاً.. ومنفى.. تفاعلات خلقت شوارع بعيدة ودروبا بلا أرصفة، ومسافات تقتلع الخطى، ونهرا جف وغاب عن ضفتيه، وسواحل من غير ضفاف وحدائق لا تنبت فيها الأزهار، فلا مكان في المكان، والمدى رماد.. فيه يبحث الشاعر عن مكان للقيا!. المكان في النسق قصور الوهم، وبيوت مهجورة، وحجرات معتمة وغابات من الحصى والقيصوم، فالكون يمارس سريته لقيطا..
ليلىشربت آخر عنقودفي دالية العمر،وراحت صوب مضاربها،أخذت أشجاري،ووقاري،وبقيت أداري.تركتني في صحراء العمر وحيداأبحث عني."
وتتجلى حدود التماس مع الحيز المكاني، الطبيعية والنفسية، من خلال عدد من المواقف الاتصالية التي تطرحها القصائد، ومنها: العالم الضيق والمنفى، وتمرحلات العلاقة بين العاشق والعاشقة، والتواصل الوجداني والحسي، وصيغ الأفعال في عالم الضراعة وحدائق البهجة وارتطاماتها بجدران القلب أو ارتقائها إلى سماء مثقلة بالغيوم، وقد تناوبت الصيغ التي جاءت في ثنايا الفعل والموقف صيغ لعنات في مرات، وصيغ رحمات مرات أكثر.. يطلق الناس في أمكنة الديوان ضراعات ومزامير تكتنز بالابتهالات واللعنات وأسئلة الشك والحيرة والجحود.. فينبسط في الابتهالات الكف ويتسع الصدر وتبصر العين العتمة والروح.. فتروح في صوفية الصلوات الحميمة.. تسعى الروح فيها إلى الحبيب موسيقى قلب وشلال دم ويقين لقاء.
وفي أسئلة الحيرة واللعنات قنوط وجحود فهل ستجيء الفاكهة في موسمها؟ "مواكبي التي أبطأت كم يلزمها ليظل الحلم طازجا".. وفي قنوطٍ تمائمها لا تشفي أحدا.. تتبدى براعم الموت فوق الموائد الفقيرة والسلال الفارغة والنباتات المستنفرة.
"وقال ايضا: الحدائقُ لا أزهارَ فيها، غاباتُ الشهداءِ عامرةٌ بالحصى، والقيصوم. السواحلُ بلا ضفاف، النملُ يدخل في آذان المارّة، ويخرجُ من أنوفهم، الموائدُ بائسةٌ وفقيرة، الناياتُ مستنفَرَةٌ، والطبولُ مثقوبةٌ للطَّرْق، السلالُ مفرغةٌ من الغلال، الحقولُ متكورةٌ على ظلالها، البيوتُ هجرها سكانٌ مهزومون، الكون يتشكّل في السرّ كإبن الزنا، المسافاتُ تقتلعُ الخطى..، الجمرَ كأنه غيرةٌ باردة.، أصواتُ المنشدين معلّبةٌ في علب الليل، التمائمُ لا تشفي أحداً، العتمةُ سيدةٌ تتربّع في ملكوت الضوء، كجنيّةٍ منفلتةٍ من عقالها، العيونُ الجاحظةُ تجتاحُ الأمكنة، الخمرةُ تذيب قلوبَ القوارير حتى تشفّ، الشفاهُ مطبقاتٌ كبراعم الموت، لا تقرأ المكاتيب، ولا تحملُ للقيلولة غير التشققُّ..، الليلُ عاقرٌ، والمدى غابةٌ من رماد..، روحُكِ فقط...، تعيدُ كلَّ شيءٍ إلى نِصابِهْ."
هذه هي أمكنة الديوان.. حيث المنادى في مبتداه: أيها المنفى.. أما ناسها وشخوصها فتناوبوا بين الأنا والهو والنحن، واللصيق الداني.. والبعيد المجافي.. والمهمش المارق.. وذاك الملحق بالشخوص الآدمية. تبدت الشخوص ذواتا أو مؤشرات ودلالات.. فالشاعر البستاني يستحضر روحه العاشقة، ويكتفي بأنا وأنتِ.. وصيغتا اسم الفاعل العاشق والعاشقة.. الشاعر والحبيبة. وفي عالم العاشق والعاشقة أحصنة نسيت قوائمها وغابات شهداء مهجورة يسلك النمل في آذان المارة دربه ليخرج من أنوفهم.. خيالات سكان مهزومين.. ومن بعيد يأتي صوت المنشدين وحمائم بلا هديل ضيعت الحناجر وجنية ترافق الحوريات الراحلة.
"في الأول من أيار. قالت: أهلا بحبيبي!! ... في الخامس من ذلك الشهر، قفز إلى خيمتها المهر... في العشر من نفس الشهر. صعد إلى شرفتها البدر، ضمته..، وشمته..، في التاسع والعشرين من هذا الشهر المسكين. قالت: ليس لدي سرير يؤويك."
وينبري المرء في استقرائه للمقطوعات المزمورية أو الضراعية من وجهة الأنثـروبولوجيا اللغوية، إلى فهم دلالات الأسماء والأفعال الواردة فيها، وارتباطها بمجتمع العاشق في رحلة الديوان، والاتساق الداخلي فيما بينها، وبينها وبين مجتمع المكان الخارجي من حولها، والالتفات إليها بوصفها حالة وجدانية إنسانية، وتدارك الأنماط السلوكية فيها في رحلة علاقة وجدانية أشعلتها اللحظة والغربة وأنهتها ذات المكونات. وينهض المقدادي بالدفقة الشاعرة حنوا وحرارة ورقة.. وصوفية مريد.. وتسامي روح تَصَّعَّد في معارجها. ففي غياب المحبوبة ليس سوى الورد.. ومزمور الألفة.. وحلم بعذب لقاء.. وعذابات وداع.. والقيد الوعد!
"هتفتْ.. وألقت بالحرير على يدي.. فتريّثي ..يا ليلةَ الاحدِ. ولتعذري طيفين عمرُهما، دهرٌ من الاوهام والزّبَدِ. ما زال يحلم والايام تعصرهُ، ويكتوي وَلَهاً من عشقهِ، كبدي. ما زال يشكو ولا شافٍ لعلّتهِ، حتى توجّس أن الدّاءَ للأبدِ. فأتت على مهلٍ غزالتهُ، وتقاطرت عسلاً على جسدي. فطفوت فوق الغيم أحملها، وأسَلْتُ انهاراً من البَرَدِ".
في المزامير يغدو المكان منفىً ووجعا إنسانياً تحتشد فيه أيدي الضراعة في منافيها ومراسيم الحب التي كبلها القيد الوعد!.. فهناك في اللاذقية وبعد عشرين عاما يترك الشاعر قلبه مخلوعا "على شرفات بنفسجها.. كي يسبحها.. بكرة.. وأصيلا".
ويفيضُ بك الشوق مستعراً إذ تتلمَّسُ عتبات الزمان واقتراب المنفى، وقد طغى المكان بهيبته وحضوره المجلي، ووشت بك أعنَّة الفضول، حينما أفردت لك المرأة ما اتسق من دلالتها ما يتدفق معنى آخر من معانيها حتى يكون اسمها، وقد تماهت وتماهى مع حضور اللحظة الطاغي، لتسمَّى زمنا آخر.. وقد أفضى المكان بروحانياته إلى تبتل الروح ولهفة الوجدان كي تسهم في رسم الذاكرة ومعادلة الحاضر الغائب، حتى يصير دَربَها مراقي عليائها وإشراقة طلتها لتجلوَ ألق الحقيقة.. فلم تنطفئ مباخر هيكلها.. ولم تسكت ترانيم قديسيها.. ولم يهجرها الفرح .. فجعلت للتجلي أطواره.. وللأنوثة فرحها..
"ما حاجتي لصهيل افراسٍ، تحمحمُ في أتون حِمامِها، لمّا تجيءُ خيولُها، -جذلى-على مَهَلٍ، فأسقط في العناق الرحبِ، محتفياً بطعم حضورها؟"
لا ينهج المقدادي إلى تعمية الخطاب الشعري في الديوان.. قصة حب بدأت وانتهت خارج المكان وغفلا عن عقارب الزمن.. رحلتها ترفل بوشاح السعادة.. واللقاءات فيها شآبيب اشتياق ووله.. وعقدها مرسوم رجل أعلن الحب عليه المنفى. وسوقا على ذلك فالمكان في الديوان، هو ما أشرنا أعلاه، جدلية إحلال على الكلمة.. فكل ما فيه تناوب بين المكان والمكونات والأنساق.. فلا فصل بين المكون الزمني في ضراعات.. هو الليل وليس سواه؛ ليل الفوانيس المطفأة، الليل البارد الطويل، الليل العاقر في علب الليل.. يمضي الليلة الماجنة في العتمة.. فالزمان كيان مكاني أيضاً.. والإنسان لم يشغل المكان وحسب.. بل تناوب نسقيا على الاستحالة مكاناً في مساحة العلاقة الحسية.. والتي جاءت إيحاءً تغلب على الحضور الجسدي الحميم.. والذي في مروره على القصائد تمحور في بؤرة الدفق الوجاني والتنوع التضاريسي الجسدي.. الصدر.. "لهفة الصدر الذي.. جعلتَ منه منزلك".. "أي نار مقدسة أشعلتها شفتاك في صدري.. كي أتعمد.. وأنبعث من رمادي.. وأُحلِّق ثانية... فوق غابات "عذراء".. ودروب مهملة على ضفاف "العاصي"؟".. "وصدري سريرك..".
"وقالت العاشقةُ كذلك: الشراشفُ تذبل..، والأسرّةُ تموت..، والمخدّاتُ تتحنط..، إن لم أحتويكِ بذراعيَّ، في هذه الليلةِ، الماجنة!!"
كلمات القصائد تمضي موسيقى بربرية على فطرتها.. تغرق في مشاعر صوفية جارفة يصبح حضور الجسد فيها حضورا أنثوياً يجسد المعنى والروح غفلا عن مساحات الإثارة وتضاريس الجسد. فيا أيتها المرأة.. يا سيدة الحلم.. ورعشة الانتشاء.. كلُّ الصباحات بهية.. وحين تطلعُ من مبسميك.. يرّف القلب على طلعتك ... ويغدو الصبح أحلى. "فاجابت العاشقة: راحتاك ايوانُ النفس، وظلّكَ بهجتُها، ونفسي مجْهَدةٌ في البحث عن ظلٍّ، وإيوانْ.." أنتِ.. لحن الصباحات.. وآخر الحروف في دفتر العشق.. كيف السبيلُ إلى عطرِ السؤال؟.. وكسر المُحال.. كيف السبيل إلى جَسْرِ المسافة؟ بيني وبين مدار اشتيقي إليك.. أنتِ.. وقد صرت رحلة العمر.. وسحر الحضور.. وليفة الروح.. تحضرين في ثواني العمر.. صبحاً وضحىً.. لم يكن وهما حضورك.. لاح مع ألف رسول. "قال العاشقُ عندئذٍ: شعْرُكِ...، يبعث في قلبي...، ذاكرة الطين.." يا أمراة ليست من هذا الزمان.. هواك جموح العشق.. فإن أشاع العوسج أسرارنا.. فإنّا نستمطره في الدروب!.. انتشاءً.. وهياماً.. وعناداً.. وقَصاصاً لمسافات السنين.. فلعينيكِ انتباهُ الروح.. وارتسام الحرف.. وبوح الكلام. "ما حاجتي للورد، حين تكونُ لي ورداً، بكامل عطرها؟ ما حاجتي للماءِ، وهي تشفّ عن مطرٍ، وتشهرُ فوق أشرعتي غيومَ حضورها؟ ما حاجتي للدفءِ، وهي تؤمُّ ما أغلقتُ من زمنٍ، على عتمٍ مقيمْ؟" أيتها المتكأ.. يا شذا المسافات إلى كحل العيون.. وسوسن العمر في خريف الآتيات.. لعينيكِ.. يمامات عشقي.. ورسائلي التي أهديتها مرايا عاشقات.. وسفينتي التي يأوي إليها من كل زوجين اثنين.. ينداح شوقي إليك.. يباغتني الوجد.. أفتش عنك في بقايا ورقي.. أبحث عن عطرك العالق في الدروب.. أغالب ليل اشتياقي.. ويلهبني لاعج الشوق.. وتقترب روحي من باب روحكِ.. تستجير...
في أماكن تجليها تتقاطر الذاكرة أحلاما شهية.. ونوارس اشتياق.. ورهافة حواس.. وقواميس معانٍ ضاقت عنها حروف القصيدة.. فماذا سيكتب عنه وعنها؟ بأي مدادٍ يكتب عن منافيها؟.. وكيف يستحضر أخيل وقد هم بالثأر لصديقه الذي اغتالته طروادة في حربها الأسطورية.. وكيف نقرب المسافة بين طروادة ومقامها..؟
لا يتخلص الشاعر من سطوة المكان الخارجي المحيط، بكامل تشكلاته ومساحاته وفق حساب المسافات، والمكان الداخلي الحيوي الذي يرسم الشاعر سواء على لسان العاشق أو على لسان العاشقة. وهو محك البث الشعوري، وقد جاء المكان مرآة الشاعر التي تعكس لحظات التوتر والانفعال والتفاعل.. وقد يتخلق المكان كائنا حيا عندما تختفي من حول الشاعر العناصر الأخرى. وقد تأتي صورة المكان في الجهة الأخرى محورا للحدث تتماهى البيئات الحية جميعها فيه.. فتستحيل المرأة مدارات الشاعر والقصيدة. المرأة في دائرة الحب هي الفعل والفاعل وبؤرة الحدث نبعا ومصبا.. وهي، على أية حال، في الشعر العربي أقوى منها في صنوف الأدب الأخرى، خصوصا في فني الأبداع القصصي والروائي.. في القصيدة ينقاد الرجل لإرادة طاغية.. يغدو متعبدا في محرابها ومتضرعا يعلى مزامر وأناشيد الابتهال.. في القصيدة تستحيل المرأة حضورا أنثويا ينزاح الرجل مزورا بخطوه قليلا إلى الخلف.. لأنها الماء والورد والمدينة والاحتياج، ومعها يعلن الشاعر قناعته وكفايته.. على مطلق المائية والاحتياج فكل ما يبتغي من فاتحته هذه الانحناء في مقامها ويعيد.. ففي محراب الحب يغدو الرجال رهبان ليل.. وتصبح المراء سيدة الضراعة لتحلو لها الترانيم وشدو المزامير.
الحنين إليها عند محمد مقدادي توقٌ إلى الجنة.. وزخات مطر تهمي من مزن سمائها.. نبع الكوثر.. وحلاوة اليقين.. ينهل منه.. فلا ترويه سوى لذة الاستزادة..
"ما حاجتي للناسِ..-كلّ الناس-وهي مدينتي..، نهرٌ على شفة المساءِ،وغابةٌ،تهوي على زبدِ الغوايةِ،والجنونْ.ما حاجتي للموجِ،للخمرِ المعتّقِ في الدّنانِ،المتعباتِ من التوجّسِ،وانتظار القادمين؟"