الأربعاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سلطان المعاني

نقوش الحماد والحرّات القديمة

النقوش مرآة تعكس الكدح ومسافات التعب التي أحكمت طوقها على علاقات العرب القدماء في أرض الحماد والحرات في البوادي مع طرفي التكوين المكاني والزماني، والتي تنبه إلى علاقات متذبذبة قرباً وتنائياً، بغضاً حد القطيعة والاحتراب، ومودة درجة التفاني وردم الهوى والمسافات، والعربي في تذبذبه الوجداني هذا يبحث عما يضع المسافة بين الحلم والتشهي إلى استحالة سراب الصحراء ماء يجري فوقها يروى زرعاً وضرعا ليدرك الرمادي لون التربة الحمراء رياً وخصباً، لا طمعا في مقام ومكوث بل تقويضاً لمقوم الصراع وبعث الأيام بتوافر الماء والكلأ هنا وهناك على امتداد أثر القطيع وأوتاد بيوت الوبر.

لإن العربي في باديته، وعشرات آلاف النقوش التي خلف تعكس نمطية الفعل اليومي المتكرر الذي يشكل جوهر أسباب البقاء.. فهو يشعر من خلال تكرار الأداء بحتمية ما يقوم به، وعبثية تركه. ولعل تتبع النقوش عند العرب، يعد محاولة فهم أحسن لطبيعة المجتمع، واستيعاب الأحداث وإيقاعها المجتمعي، التي أوصلتها لنا نصوصهم المسندية. فقد كان العرب في بواديهم على قلق.. لكنهم لا يعلنون شكاوى احتجاج على ايقاع الانتقال الموسمي المفروض بحتمية نمط الحياة الاقتصادي القائم أساسا على الرعي..

يذهل المرء وهو يشهد فاعلية العربي في البادية الاردنية في إحلال عامل الوقت إطاراً واعياً لإرادته وفعله، وهو إذ يمتلك هذه المهارة فإنه يحتمى بها خشية النهايات والغرق في زحام العموم. ويخال لي أنه حَرِصَ غاية الحرص على ألا يكون غفلاً يتشبث بتلابيب الخيال والسراب راكبا بحر الأمنيات، فهو يرجو المشاركة في صنع العالم من حوله، ولا ينوي ترك مكوناتة تتبعثر من حوله فتسقط من يده. فلقد أسهمت البرية في رسم ملامح الحياة الاقتصادية العامة من مراع وواحات وأماكن تجمع المياه وتساقط المطر.. وشعاع شمس يهب الدفء حينا.. ويذهب بالأخضر النادر في غير حين. فحياة البادية تصارع حقيقي بين السلوك الإنساني اليومي داخل المجتمع، وبين ما تحتمه مقتضيات اللحظة من تصعيدٍ وحشدٍ لرفع الوعي بالخطر الداهم من تقليات بيئية وتغير في وتيرة العلاقات مع قبائل الجوار.

لم يزل العرب الشماليون يعاينون تعاقب الفصول لضبط محاور حياتهم الاقتصادية، وتبديد السلوكات التي تتصاعد في بعض المرات حد الاقتتال، وهي انحياز عن نهجهم وسلوكهم الغالب على علاقاتهم الانسانية فيما بينهم ومع الجوار. وقد التصق العرب القدماء بسبل العيش مع الجماعة، وتنكروا للعزلة والتصعلك والاغتراب. وقد أبرزت نقوشهم بشكل واضح هذه الحال في بعض المرات، وغابت أو كادت في مرات كثيرة.

وطفق العربي في نشاطه الاقتصادي يتواصل مع المحيط الاجتماعي ويتفهم البيئة من حوله ويتشبث بمقومات البقاء، التي كان أولاها الرعي وتربية الماشية، وهو ما أفصحت عنه النقوش كثيراً. ويبدو أن اجتماع العوامل الاقتصادية والنفسية والاجتماعية والطبيعية حفزت العربي لممارسة هذا النشاط، ودفعته إلى التمسك به جنباً إلى جنب مع نشاطي الاقتصاد الأخريين الزراعة والتجارة.

ولا غرو أن توحي عشرات النقوش العربية الشمالية بالبيئة الصحرواية الرعوية، وتكرسها أكثر من غيرها، الأمر الذي يؤكد بداوة أهلها، وتنقلهم الدائم أو الموسمي، واعتمادهم في المقام الأول على الرعي وتربية الماشية، ولعل هذا دأبٌ دأبَ عليه سكان البادية، سيما في مراحل هجراتهم الأولى من الجزيرة العربية إلى بادية الشام، ونتلمس فيما بعد عوامل تأقلم العربي مع البيئة الزراعية الرعوية، فأرض الحماد أرض صالحة لتربية الماشية، و قد أمدت المنطقة بالغذاء من اللحوم، وكان البدوي يقايض المدينة مقابل ذلك بالمصنوعات والحبوب.

قد كان الرعي سيد أنشطة العرب كثافة، وذلك في المناطق الشمالية والجنوبية من بلاد العرب، واستمر الحال ذاته في الشرق الأدنى القديم آلاف السنين. فإلى جانب زراعة المحاصيل، ربى العرب المواشي في المراعي التي تنبت فيها الأعشاب الرعوية، وحقول الحنطة. وفي توظيف النقوش لدعم ما ذهبنا إليه من اهتمام العربي قبل الاسلام بالانشطة الزراعية تتخاطر مفردات عديدة تتشكل فيها جمهرة الألفاظ الدالة على جوانب الزراعة المختلفة ففي الإطار المكاني الزراعي نرصد لفظة (أ ب ي) في نقش يشير إلى المرعى الصغير، وفي نقوش أخرى يتسع الإطار المكاني في منطقة أوسع وأكثر خصوبة، حيث لفظة ( ر ح ب ت)، فهي مرعى العربي، ومرابعه. ونشد العربي المروج ذوات الارض الممتدة المستوية الصالحة للزراعة، حيث أتت النقوش على ملكية المروج.

وتنقسم المفردات التي توردها النقوش العربية الشمالية، والمتعلقة بالمزروعات في مجملها إلى نباتات برية رعوية، كانت متطلبا رئيسيا في حياتهم، بينما أوحت مفردات أخرى بوجود نشاط زراعي يتطلب استقرارا وفلاحة، هدفها توفير الغذاء للإنسان، الذي يقوم بنفسه بعملية الزراعة.

ولعل الحال، في جنوب الجزيرة العربية، مختلف عنه في شمالها في بعض ملامحه. وخصوصا في مسألة الزراعة. ولقد أسهم عدم وجود مصادر مياه دائمة، وقصر مواسم الأمطار، وقلة مناسيب المياه فيها، العرب في جنوب الجزيرة، كما في شمالها، إلى البحث عن سبل إدارة المياه، والمحافظة عليها، واستغلالها الاستغلال الأمثل في عملية الزراعة، وقد لجأ في سبيل ذلك إلى التناوب على عملية الري ليلا في كثير من أصقاع الجزيرة، اتقاء لتبخر الماء الكثيف في النهارات اللاهبة.

ولقد حرص العرب في أرجاء البوادي العربية على تخزين المياه وحفظها في آبار خاصة، ليعيدوا استخدامها في غير مواسم هطول الأمطار، وقد برع عرب الجنوب وعرب الشمال في بناء السدود والآبار وقنوات سحب المياه إلى الأراضي التي تحتاج إلى الري، وليس أبلغ من مثلي سبأ في الجنوب، والأنباط في الشمال.

قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ".

ومن جانب آخر، تعتبر منطقة حوران حتى يومنا هذا من أكثر المناطق خصبا في زراعة القمح والشعير، وفي مواسم الأمطار الوفيرة كان السكان يلجأون إلى زراعة المحاصيل التي تسهم في توفير الطعام لهم ولمواشيهم.

ورغم اتفاق أغلب الدارسين للنقوش العربية الشمالية على بداوة مجتمع البادية في الشمال، غير أن هنالك ميلا إلى اعتبارهم أشباه بدو، اذ بدا من خلال بعض النقوش العربية القديمة، أنهم قد مارسوا أنشطة تجارية وزراعية، غير أنهم لم يتركوا "حياة البداوة نهائيا، بل كانوا يحيون حياة تجمع بين البداوة والحضارة، إذ كان منهم الرعاة ومنهم الزراع، ومن هنا ندرك كيف أن تأثرهم بالحضارة السامية الشمالية لم يكن سريعا بل تدريجيا".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى