طُهْرُ النهر وقَداسةُ المكان
أجراس النهر تدعو الحيارى، وتُشَرِّع لهم الأبوابَ نحو صفاء الروح،
وَتَحَدُّرِها نحو الشريعة، حيث يلتقي على طُهر مائها الأنبياء والقديسون،
فحيثما كان الماء كانت الحياة.. وكان الحلم مشبوبا، بأزمان هذا النهر، روحاً عربيةً ومدىً إنسانياً كونيا. وقد تسابق دفقه ليغسل درن الأحقاب وسنين طغيان الجبابرة العتاة، فينغدق ماء الأردن طهراً على الغرقى بأدران العيش.. المشتعلة ضمائرهم حمأً مسنونا.
يتحدر النهر سريعا يخالط ملح الأرض.. فترتفع قامات الدفلى ريانةً جذلى،
تَسْكُنُها الروحُ بأمر ربها.. تحمل الوعد بمولود جديد..
وما أن تهبط إلى ذلك الموقع حتى تتجاذبك نوازعٌ لم تُلْقِ ظِلّها وتمضي، بل تلمس الحقيقة .. حقيقة الكون والخلق.. بصورة أخرى تشي بك، ويكلِّمُك فؤادها، حيث القامات في ظلِّ عُلاً أرادته ضافي الوشاح من نبع صفاً، سماحةً وخلقاً فكان المكان بُعداً أخلاقيا، بَعْدَ، نبوةٍ فياضةٍ صافٍ ثراها مثل مائها..
فيا أيتها المجدلية رويدك.. واخلعي نعليك.. واسكني المحراب .. فالذي سكن الجسد البتول روح القدس.
ويا أيها المتحدر سريعا نحو فردوس الدروب..
يا أيها العارج من تلافيفها صوب السماء..
يا مَن تأخذك الترانيم المُصَّعّدَةُ نحو الأفلاكِ السابحةِ تباشيرَ فرحٍ، تسترجِعُ همسَ الطُّهر في الكلمات، وَتُفَصِّلُ القولَ في الحروف.. بين ألفٍ ونون.. تسبح في ملكوت الله؛ فوق النهر، وطهر الأرض، ودروب الأنبياء..
هنا مأوى يحيى، وإلياس.. ومهوى فؤاد المسيح، تشتاقه الأرواح والنفوس، متنكبة طيبةً بوميضٍ مُؤتلقٍ، وبجناحين طويا الغائب قبل طي الحاضر. فها هو وادي الخرار يتورد تحت أقدام يحيى، وهو ينهض من مرايا الكهف، صاعدا، وداعة نبي، نحو مكاور، يرتقي شمساً، وينهض سنبلة قمح، ويتسامى قديساً، ويمضي، لا يلوي على جنبٍ، جليلاً راقهُ أن ترتوي الأرض بتراتيل الدم.. وهديل الروح الذي يمنح الحضور للمكان على المدى.. رغم بروز ذاك الزمان الكسيح على طبق لسالومي.
هي القداسةُ تلكَ الهالةُ التي ترفرف فوق كهف يوحنا على مدى الحقب.. وأجنحةُ السلام.. وأغصانُ الشجر المتشابكة والمعمدان.
أنه وادي الخرار أصيلا وضحى.. يأسرك الشوق ماضياً مُخَضّباً لدم المسيح وبدمه، في كل خطوة يُرَدِّدُ الرجع نشيداً منهج خير ووئام، والأرض توشك أن تنداح تحت قدميه، مباركة خطاه، ومبارك ثراه، ومباركة أحقابه الأولى واللاحقة "ما تملَّت من يأس.. ولا لاح بها سقمُ".. إذ ينتقلُ بخطوٍ تئدٍ بين مساحات الروح، وحقيقة الجسد في خضم الموعد، بمهره الجامح، وشجو الحوادث، حائرة الدمع ومشدودة العياف، باقةُ مجدٍ مفوّفاً عبيرها، إذ يرويها ويبُلُّ صداها جفن الفلاة وسلسبيل الأمان...
يا مسك الأرض الغضبى .. وأنين الدروب.. أيها الدَّمُ المراقُ على عتبات الكهوف.. أَقْلَعَ أنبياؤك على بُسُطِ النار صوب السماء.. وقد هالهم ركام البغاث .. فيا إلياس تمهل، أي غابة غضة تلك التي تبحث عنها.. هنا وطني؛ أرض .. وأنبياء.. وناس.
يا أيها البشير.. يا من تعلو الروابي بالمرسلات نبياً يتوق للقيا نبي.. يا من توضأت بالشمس التي تزنر كهفك والنهر.. أي الطرقات تلك التي تُُصلّي على وقع خُطاك نحو مار إلياس. أيتها الأرض التي تتنفس الطُّهرَ، غوراً ونِجادا، لم يتعب التاريخ وهو يرصد مجدك على عتبات السنين الماضيات.. ويرصد زهوك في الآيبات.. فها هي صافِيات اليَنابيعِ.. تنساب صوب الكهف.. تروي شجر البردي والدفلى.. ترتشف النور اقترابا من نبي الله يحيى.
وعلى مقربة حيث يتلاقى التاريخ بصانعيه، وترتمي أعنَّةُ الفرح كلما حان لقاؤها متناهيا بعدها على القرب، وقربها من بعيد طافح بالنبوة وسحر البيان.. مُفترُّ البسمة بلا أجلٍ، وقد مُدَّ هامها فأضحى رُسُلا من قبلُ ورسلاً من بعدُ...
كم تشطُّ المسافةُ، وكم تقترب من تضاعيف الوقت، وقد تهادى ثراه، بأنبيائه ورسله حيث الحقيقة، وقد شدَّ سحْرُها حجى البشرية كلها بخدين صباحاتها ومساءاتها، وهي تنتقل بين زهو الربى لذراعي الغور وتل الأربعين وزورة القلوب، وعلى مقربة من الكرامة منتشيا وقد ضم في أهدابه نبيا يدفق الحنان والطيب والسماحة من جانحيه، مباركا لها وفيها دون وحشة الوادي، وقد ساجلته الزمان فوفّى له ووفّى به...
يا أيها النهر الذي ينتظمُ الوطن رهافة أنغام، ويرسمُهُ خرائطَ حافلةٍ بالحلم.. ومُخضَّر الآمال، ويغرس فوق كل شاهق فيه سموَّ بيارق.. ويمنحُ لنسوره وبواشقه إيقاع رحلته فوق ذراه. ويكتب أسماء ربوعه أبواب فجر.. وأسرار قداسة.. لقد منحت الأرض بين مغارة يوحنا وبيت عنيا فضاء ليلكياً وشلالات ضوء، وكسوتها ما بين دير صفصفا وهضبة صعود إلياس جدائل كروم وسرمديات نهوض للمعالي.. فأيُّ ملامحٍ تلك التي رسمت خارطة الفسيفساء في مأدبا، وقد جعلت المغطس وجواره موطن الغمام والنوارس، والتقاء الربانيين في صوامعهم وأديرتهم، فاستحال المكان قبسا من نور يسطع على النهر بضفتيه، ويصعد ومضا يعانق نجم السماء.
ها هو وادي المعجزات.. ونهر الأنبياء يتحدر سريعا من الأعالي نحو المجدلية أم الكليم.. يتحدر من هناك يفصل الزمن، ويرسم حدودا للأرض بين طهر الشرق وبين رجس هيرود.. في زمن الرذيلة ذاك.. كانت الأرض ترتدي ثوب الغضب، ليولد ذلك الطفل الذي هزَّ عرش روما.. فأي بشارة سيلقى الكليم .. حين يقابل يحيى.. الذي وعى سر خَلْقِهِ.. فاستحال راشداً.. وقد اطوَّف بين قومه.. ينشر الحلم: لا تفتروا.. اطعموا الجياع.. واكسوا العرايا .. لا تقتلوا إخوانكم بنسائهم.. فيا هيرودوس ألا تدرك حجم النور الذي يعتمر قلب يحيى.. أيخاف سجنك؟
سالومي.. عرّابة الفاجرات والراقصات العرايا.. ابنة هيروديا خائنة زوجها، غاوية هيرودوس المخمور والمفتون بتلوي الأفاعي، وروان النبيذ، يلتقون على طبق من ذهب وسيف.. والمطلوب رأس نبيٍ مهراً للفجور.. قتلته يد الرذيلة.. فشح سراج الهداية وأوحش الغسق.. وصارت الكهوف تطفح في صفصفا بالذكريات التي جاوزت تخوم اجترار الحزن.. فيا طهر الرأس ويا شموخ الجسد.. يحيى الفعل المضارع في الأرض وفي السماء "سيدا وحصورا".. وهو على الأرض الطهور يحفر السنين والقرون بشارات بقدوم عيسى.. وهو على يقين بأن النهر وشجر الدفلى وملح الأرض سيلقون على القادم سلاما ليوم مولده وبعثه.. وتحمله الأرض أغنية على ثغر التبسم وأحضان الأمل.
فماذا على ضفاف النهر غير الجراد وعسل البراري أداماً للأوابين والقديسين والأنبياء.. والشهداء؟.. لكنه المجد والسلام من مكاور إلى حجابات الصحابة الكرام، وتلابيب الكتار، وأبطال التاريخ في وطني يُكمِلون المسيرة فرسخا بأخيه. فمنه انطلق العاصف الوثاب، واللواء الخافق، وخضاب الجرح طائرا غريداً، هام على جناح النبوة، وأبطال الأمة من سرايا شرحبيل ومعاذ وعبد الله بن رواحة .. أعلام صدق يكملون مسيرة مسيح الورى والفضاءات بصحو الضمير ولحن الزمان، مشنونةً بمدارك التفكير، وبسيفي النبوة والدعة، كلما ضمّ الصدرُ جوى الذكرى، وقبابُ القدس تستصرخُ خيولَ الفتح، وصوت بلال "الله أكبر.. الله أكبر"، وعلى ضفة القلب بالكفرين والشونة، إذ لا عرين إلا بالأسود.. ولا كشف لسر غامض إلا بالإيمان وصدق الرؤى والعزم وقبلة الوحي.. هوىً في الفضاء، وهوىً على الذرى.. يَمخُر السنين بين ألق الرّوح وعنفوان المجد ليكتب الزمان تاريخ نهره وواديه.. ميلاده وهجرته..