الثلاثاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم عبد المنعم محمّد خير إسبير

مشهـــدٌ من الحيــــاة

إهداء لبعض الأُمهات في عيد الأمّ

في عيدك المجيد أيّتها الأمّ المدرسة الفاضلة، أقطف أزهارَ رياض القلب، وأصنع منها أطواق الحبّ، لأطوّق " بكل المحبّة والتقدير" عنقك، وأطبع على يدك البيضاء التي زرَعَتْ فأنبَتَت، وجاهدَتْ في سبيل أولادها فأوفت، ولملمت شتات أولادها في حياتها فجمعت، وبعد رحيلها، ظلّت عينها في مثواها تستشرف أحوالهم لا تنام، وبقي قلبها طيّ تربتها ينطق بالدّعاء المستدام.

أمّا أنت أيتّها الأمّ التي أسرَفت على نفسها فقصّرَتْ، وزرعَت فما أنبتَتْ، وأهدَرَت فما أوفَتْ، أقدّم لك مشهداً رأيته في حياتي، وقد رأيت منه الكثير، ليكون لك ولمن أنبتَكِ في الحياة أمّا قاصرة هدية تذكير وتبصير وتحذير، فلربّما كنت أنت أيضاً ضحية التقصير.

أعظمُ خسارةٍ يخسرها المرء في الحياة، هي خسارةُ الوقتِ الّذي يُهدرُ بلا طائل. فالوقت
جزءٌ ثمينٌ من كينونة الإنسانِ، يُحسَبُ لهُ أو عليه، ومن الخطأ أن نقول إنّ فلاناً عاش ستينَ أو سبعينَ عاماً في الحياة الدّنيا، فيما واقع الأمر، قد عاشَ العمْرَ الّذي عمل وجدَّ فيهِ في أمرٍ، يكتسبُ فيه ويُكسِبُ ربحاً في الحياتين، فإنْ عمل عملاً صالحاً في مدى عشرينَ عاماً ثم رحلَ عن الحياةِ الدّنيا وهو في السّبعين من العمرِ مثلاً ـ فإنّ عمره الحقيقي هو عشرون عاماً ؛ أي عمرهُ العامل لا عمرهُ الخامل، فالعمْرُ يقدّرُ بالمدى الّذي عمّرَ فيه المرءُ لا ما عمَر، أما الوقت الخامل فهو وقت ضائع لا يُردُّ ولا يسترد، والمرءُ فيه يكون مَيتاً قبل أن يتوفّاهُ الله.

في العام المنصرم، كنتُ أقف قرب باب مدرسة ثانويّة يدرس فيها حفيدي، أنتظرُ خروجه ومعه نتائج الاختبارات السنويّة النّهائيّة برغم ثقتي بأنّه من النّاجحين، فرأيت ابنَ أحد أصدقائي خارجاً من المدرسة يبكي بصمتٍ، وما إن رآني حتّى أسرعَ في خطاه باتّجاهٍ آخرَ ليتجنّبَ لقائي، وكنت أعلمُ بأنه كسولٌ في دراسته، إذ كثيراً ما كنتُ أنصحه وأحرّضه على الإجنهاد خلال السنة الدراسيّة،وأُبصّرهُ بعاقبة الكسل والّلهو وإضاعة الوقت في اللّعب والتسكّعِ في الطريق،فأسرعتُ نحوهُ لأخفّف عنه بكلماتٍ طيبة يقتضيها الموقف، إذ من الحكمة ألاّ تعاقبَ إنساناً عاقب نفسه بالبكاء والخجل والنّدامة، قبل أن يُعاقَب، فذلك كافٍ لتضعه على طريق الهدى والصّلاحِ والإصلاح، بالحكمة والموعظة الحسنة، بدلاً من تقريعهِ على انفرادٍ أو على مرأى من النّاس، وحينما فعلْتُ ذلك، ركَنَ إليَّ وقال وغصّةٌ تعترض حلقه:

ــ أعلمُ سبب رسوبي، أعلم سبب رسوبي. لعنَ الله الشيطانَ، ورفاق السّوء.

ــ الشيطانُ يَبطُلُ عملهُ فيك بوجود الرّحمانِ في فؤادك، ذِكْراً وأداءً وإيماناً، فلا تُلْقِ الّلومَ على الشيطان الّذي من الجِنّة، فقد يكون من النّاس أيضاً، منك ومنّي، فاستعذ بالله ( من الوسواسُُ الخنّاس، الّذي يوسوسُ في صدور النّاس، من الجنّةِ والنّاس ). أليس هذا ما ورد في القرآن الكريم؟.

ــ هذا صحيح، ولكن لا أستطيع أن ألتقي أمّي وأبي مع رسوبي؟ دعني هنا على رصيف الشارع، فلن أذهب إلى الدّار، أرجوك.

ــ كيف تقول ذلك؟! هل الشارع سوف ينجّيكَ مما أنت فيه؟

ــ كثيراً ما قضّيتُ فيه أوقاتاً طويلة حتّى أصبحتُ جزءاً منه لا جزءاً من بيتي.

ــ كانت غلطتك وحدك يا بنيّ.

ــ بل غلطة أمّي في الأساس.

ــ كيف تقول ذلك؟!

ــ كانت تفضّل أن أخرج إلى الشارع في كثير من الأوقات، إمّا حينما تعود من وظيفتها الحكوميّة متعبة،فلا تحتمل منّي ومن أختي أيّ خطأ فتضربني وتخرجني، أو حينما لا تطيق أصوات لعبنا معاً، أو حينما تدعو صديقاتها إلى (استقبالاتٍ) في بيتنا، أوحين يصيبني القلق ليلاً فلا أستطيع النّوم، كانت تفضّل أن أخرج إلى (الحارة) لأجتمع مع أصحابي قبيل منتصف الّليل أو بعده، لتنفرد هي في مشاهدة برامج خاصّة تفضّلها!! وتقول لي لا تعد سريعاً!!

ــ ولكنّ حالة والدك الماديّة مناسبة، فما حاجة أمّك إلى العمل؟

ــ تحتاج إلى كثير من المصاريف الشخصيّة من أجل زياراتها واستقبالاتها وما يحتاج ذلك إلى
مزيد من الملابس وأدوات الزّينة.

ــ ألا تعطيكم من وارداتها شيئا؟

ــ لا تكفيها، وتأخذ المزيد من أبي.

ــ وأين أنت وأختك في دائرة اهتماماتها؟!.

سكت طويلاً ثمّ أجاب:

ــ ليت لي أباً وأمّاً مثلك، ولو كان لي ذلك لما رأيتني على هذه الحال... على رصيف الشارع.

أمسكْتُ بيده،وقبّلت رأسه قائلاً:

ــ بقاؤك في الشارع ليس حلاّ.

ــ وما الحلّ؟

ــ الحلّ يكون بالعزم على التصحيح، تحمله إلى السنة الدراسية المقبلة، سنة التصحيح إن شاء الله، فكلّنا نُخطئ، ولا عيب إن أخطأنا ولكن عيبٌ علينا إن تمادينا في أخطائنا، وانحنينا أمام نتائجها بيأس واستسلام. قم يا ولدي قَومةَ رجل يملك نفسه ولا تملكُه، يتحدّى الخطأ ويتصدّى للفشل با لعزم والتوكّل على الله.

بينا نحن في غمرة التّحادث، خرج حفيدي من المدرسة ضحاكاً مستبشراً، فلحظ زميله معي، فأشرت إليه إشارة فهم معناها، فاقتصدَ في إظهار فرحة نجاحه، وأقبل على زميله يعانقه وهما يبكيان، فقد أحسن حفيدي صُنعاً بذلك إذ ليس من الرّحمة وحسنِ الخُلُق، أن يستعرض المرءُ فرحتــــه (أية فرحة) و نعمتهُ (أيّة نعمة) أمام من افتقد الفرحة والنّعمة، وما أكثر الخاطئين في تلك المواقف الإنسانيّة.

سألتُ حفيدي بعد إشارة خاصّة مني فهمها:

ــ هل تذكر يا وضّاح حديثاً للرسول الكريم يصف فيها القويّ؟:

ــ نعم. فقد قال رسول الله: ليس الشديدُ بالصُّرَعة، ولكن الشديد الّذي يملك نفسه عند الشدائد.

ــ هل سَمعْتَ، هيا فقم يا ولدي إلى بيتك، وكنِِ الشديدَ الّذي عناه الرسول الكريم.

وغادرني إلى بيته، لأجده في نهاية السنة الدراسية التالية يخرجُ من المدرسة ضاحكاً يقفز في الهواء من فرحة نجاحه، وأقبل عليّ يبكي.

ــ أتبكي ثانية ياولدي؟!

ــ من الفرحة يا عمّي، شكراً لك على نصيحتك في السنة الماضية، فالفضل لك بنجاحي.

ــ أستغفر الله يا ولدي، فاستغفرْهُ أنت أيضاً، فالفضل لله أّولاً، ثم لعزمك وتوكّلكَ عليه.

ثمّ أمسكت بيده لأنتهز الفرصة للمقاربة بين امتحانين، فقلت:

ــ كيف رأيتَ نفسك بينَ الأمس واليوم؟

ــ الحمد لله فسعادتي الآن لا توصف.

ــ أتسمح لي يا ولدي أن أُذكِّرَكَ بامتحانٍ آخر؟

ــ تفضّل.

ــ في امتحانِ الماضي كنت على قارعة الطريق تبكي ألماً، والآن على عتبة النّجاحِ تبكي فرحاً، ألم تفكّر يوماً في مصيرك عند سقوطك في الامتحان الأعظم؟

ــ بدهشة بالغة سأل: وما هو يا عمّي أما اكتفينا من الامتحانات؟

ــ لا يا ولدي، إنني أعني الامتحان الإلهيّ، امتحانك أمام الله، يومَ تشيب فيه الوِلْدان، ألا يستحقّ منك التّفكّرَ والتدبّر والعمل من أجله؟

سكت طويلاً... ثم أدركَ مقصد كلامي، فأطرق.... ثم أدمعَتْ عيناه.....

ــ أرى أنّ في دموعكَ خيراً وأملاً يا ولدي، وهذا أمْرٌ يُغنيك عن الجواب ويُسعدني.

أطرقَ ثم رفع رأسه تجاهي فلمحْتُ دموعه تتلالاً تحت أشعة الشمس كقطع الألماس تتدحرج على خدّيه، ونظر إليّ بحسرة يغالب فيها نحيب بكاء هاجم صوته:

ــ كم أتمنّى أن تكون أمّي وأبي.

ــ لا يا ولدي، أنت تخطئ فأبواكَ لهما عليك فضلٌُ كبيرٌ، وسوف تُُحِسُّ به في المستقبل.

فهزّ برأسهِ كمن لمْ يقتنع بكلامي وقال:

ــ كن معي دائماً يا عمّي...... فأنت أبي وأمّي.

تركتهُ يتّجه إلى بيته، ومضيت ساهماً في طريقي، أسترجع بيتين من قصيدة لي نظمتها في بداياتي:

تاللهِ لو نِعَـــــمَ الإلهِ فقدتهـــــا

وأبي يعيشُ، فلا شقاءَ ولا غُمَمْ

جُرحُ البنوّةِ لا يُضمّده سوى

أيدي الأبوّةِ في الدّنا وفـــؤادُ أمّ

إهداء لبعض الأُمهات في عيد الأمّ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى