الأربعاء ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٨
بقلم رواء الجصاني

مع فالح عبد الجبار، وعنه ... في براغ

رحلت الشخصية الوطنية العراقية المميزة: فالح عبد الجبار بتاريخ الاثنين 2018.2.26.. وفور انتشار الخبر الأليم، انهمرت المواساة ومشاعر الحزن، كما الذكريات والاستذكارات، وما برحت، وستستمر، وذلكم هو ديدن الاوفياء من المعنيين والاصدقاء والاقران، كأبسط تعبير عن التقدير والاجلال لباحث ومؤرخ ومفكر، يشهد له المخالفون والمختلفون معه، وربما قبل غيرهم، بالكفاءة الاستثنائية ..

ومن المفترض- بل والمطلوب على ما ندعي - ان تكون هناك وهنا توثيقات وتأرخة عديدة لعطاء الفقيد الجليل، وكذلك عن سيرته ومغترباته، وبشكل رئيس في بيروت ودمشق ولندن، فضلا عن براغ، وهي التي ما تسعى له هذه السطور العجلى، مساهمة على ذلك النهج ..
وبعيدا عن بغداد ودمشق، واللتين تشاركنا فالح وانا في صداقاتها وذكرياتها، منذ اواسط السبعينات، أخترت براغ دون غيرها من مغتربات (فالح) لاسجل بعض ما لدي عنه وله، لأنها محطته الاولى ، أو تكاد، في مسارات المنفى الاضطراري التي امتد عنده – وعندنا - لاربعة عقود بالتمام والكمال... وكذلك لأن عطاءه في هذه المدينة العريقة، غير معروف، او غير موثق بتعبير ادق، عند المتابعين والمعنيين.... كما يأتي التوثيق (البراغي) ايضا لان علاقاتنا وصداقتنا قد ترسخت وتنوعت هناك اكثر فأكثر، كما سيرد الحديث.

ففي عام 1979 يصل فالح من بيروت، ومعه (أميرته) مع براعمهما الثلاثة (خالد وفيروز وعلي) الى براغ، التي كنا قد ولجناها قبله بفترة قصيرة، ليعمل – رسمياً- مترجما ومحررا في القسم العربي بمجلة (قضايا السلم والاشتراكية) .. ولكنه ليتفرغ - عملياً- لمهام ونشاطات الاعلام الخارجي (المركزي) للحزب الشيوعى العراقي، قبل ان تتحول تلك المهمة الى بيروت، ثم دمشق لاحقا.

وفور حلول فالح في براغ ضمتنا الهيئة المسؤولة عن ذلك الاعلام، بمسؤولية الراحل الجليل ثابت حبيب العاني (ابي حسان) ومعنا شمران الياسري (ابو كاطع) المعطار، النقي، وآخرون.. وتولى فالح المسؤولية الاولى في التحرير والصياغات، وكنت مكلفاً بالشؤون التنفيذية لتلك الهيئة.. وصار كعهده: شعلة من العمل والتميز في الاداء والعطاء(1).

ثم يبدأ تالياً، بعد فترة وجيزة ليس إلا، الاسهام في التحضير لاطلاق رابطة الكتاب والفنانين والصحفيين العراقيين في الخارج... ولذلك التقينا ثانية في مهام جديدة، اضافية، وقد كان لفالح عبد الجبار، دوره المميز هنا ايضا، بل وفي صميمه، وفي ما يخص براغ واوربا بشكل رئيس...

وهكذا راحت النشاطات السياسية والثقافية والاعلامية، الحيوية تترى، ولتتعزز بعلاقات شخصية وعائلية حميمة، كان ركناها الآخران: صديق عمر فالح، عبد الاله النعيمي، وكذلك صديقنا المشترك الحميم: حميد برتو.. وكنا نجد فسحاً هنا، واخرى هناك، بمحطات استراحة انسانية، وان كانت شحيحة، في "معمان" العمل التنظيمي، والفعاليات السياسية والوطنية.. وكم كنت احسد (فالحاً) في فلاحه بجمع كل تلك الحيوية العملية والحياتية، ومحبة الاخرين، ووديته مع الجميع، وقدرته على احتواء وادامة الصلات مع ذلك الكم من الاصدقاء والمحبين ... ويكفي الاستطراد هنا بالاشارة الى ان شقته كانت مضافة لعشرات من المثقفين والسياسيين وغيرهم، ممن زاروا براغ، لعمل او سياحة او مهمات..

لقد جمع فالح عبد الجبار، طيلة وجوده في براغ، بين جديته العملية، وطبيعته وسجيته الانسانية - وانا شاهد عيان هنا - فهو محاور ومتابع وحريص في اطروحاته السياسية والفكرية امام، ومع الجواهري وزكي خيري ومحمود صبري، وغيرهم.... مرة في السياسة المباشرة، واخرى في الجوانب الفكرية، وثالثة في الشؤون الثقافية. ولعلني أفيدُ أزيّـد لأذكر وأستذكر، محاورته للرائد محمود صبري، ومعه يحيى بابان – جيان، ومجيد الراضي، حول "واقعية الكم" والتي نُشرت لاحقا في اصدار خاص ربما هو الاول، والاسبق من نوعه .

كما ثمة لقطة اخرى ذات شأن وصلة، وهي علاقة فالح مع الجواهري في براغ، الذي كان معجبا به، ومطمئنا له، وذلك ما أجزم انه كان وراء طلب الشاعر الخالد منه، لاحقا في دمشق، لمتابعة اجزاء مهمة من شؤون تحرير وصياغة مذكراته – الجواهري- ذات الجزأين، وقد سبق ووثقت عن ذلك في كتابات سابقة..

وأذ يطول الحديث وتنهمر الذكريات عن الفقيد العزيز، وحوله ومعه، أعود لبعض إشارات ومؤشرات عن العلاقة الصداقية مع فالح، وكذلك الاجتماعية، التي توطدت عبر امسيات، ثنائية أو أعـم! و(مؤامرات) خفيفة حينا، أو (مغامرات) وجدانية احياناً أخرى !!. ألم أقل انه كان يعطي لكل حال حقها، ولكل أوان حاله!!!. وتلكم هي مميزات ليس من السهولة جمعها في وقت واحد..

وبعد عامين في براغ، يستدعى فالح الى دمشق، للمشاركة في الاعلام المركزي للحزب، ومن بعدها الى كردستان حيث بؤر وتشكيلات الانصار الشيوعيين، ثم يعود الى دمشق، لتتوالى اللقاءات، والجلسات معه، واصدقائنا المشتركين، مرات ومرات ومرات. لنتعاطى السياسة، والثقافة وما بينهما، كثير كثير !!.

ثم تلعب الجغرافيا دورها، كما ظروف اخرى، فننقطع حينا ونتواصل في أخر، وحتى نلتقي مجددا في اربيل عام 2000 في مهرجان الاحتفاء بمئوية الجواهري الكبير، وكان الرجل امينا في الحفاظ على مثابرته وتميزه، بل وبعمق يتزايد، بالتزامن مع اتساع المعرفة، وتضاخم الجهد الفكري..

لقد كان آخر اتصال هاتفي مع فالح قبل اشهر قليلة، حين كنت اهيئ لاصدار الكتاب التوثيقي عن الذكرى السنوية العشرين لرحيل الجواهري، وقد اعتذر بكل تواضع عن المشاركة هذه المرة لوعكة صحية، وانشغالات - كما وتجبجباً من ان لا تكون مساهمته بالمستوى اللائق ومناسبة مهمة كهذه كما اوحى واستنتجت-(2). وقد أكد انه سيعمل على مادة (دسمة) بحسب تعبيره، للذكرى الحادية والعشرين لرحيل الجواهري في تموز 2018 ... ولكنه رحل قبل الاوان، ليتركنا نبحث نحن عن مواد نكتبها عنه، وفيها بعض التباهي ايضا – ولمَ لا !- بعلاقات جميلة وذكريات حميمة مع انسان تميز بالمعرفة والوعي، وذي مواهب لا يباريها غير قليلين ... وداعا فالح !.

* احالات

** الصورة المرفقة مع الموضوع، للجواهري والى يساره فالح عبد الجبار، ثم رواء الجصاني، في دارة الشاعر الخالد- دمشق عام 1984

1/ كان من ابرز ما اصدرت تلك الهيئة - وبالرونيو حينها- مجلة / نشرة "رسالة العراق" لتوزع اوربياً، ولتعاد طباعتها بشكل انيق وبالالوان في بيروت، وتوزع بشكل اوسع..

2/ صدر الكتاب/ الكراس، عن عشرينية رحيل الجواهري في مطلع آب 2017 بمشاركة اربعين مبدعا ومثقفا وسياسيا، وصمم غلافه الاول الفنان البارع فيصل لعيبي، وقد كان مقدراً ان تكون المشاركات فيه أكثر لولا أن البعض قد (ظنّوا) فـ (ضنّوا)!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى