الجواهـــري مثالاً... أيضاً، عن مواقف السكوتِ و التصـدي
ثمة رأيان متضادان في المواقف من التجاوز والتطاول، وخاصة بعد تكاثرها"الأميبي"حتى، وانتشارها اللامسؤول، عبر وسائل الاتصالات والنشر المفتوحة للجميع، وأزدياد"التباري"المتهافت يوماُ بعد يوم في (الكتابات) و(التقييمات) تحت ما سميّ – ويسمى- حرية الرأي والتعبير، وكأن ذلك يعني أشاعة الاحقاد والسباب الذي يؤشر مستوياتِ الوعي المجتمعي، دعوا عنكم الفردي– الشخصي..
قلت انهما رأيان متضادانِ في الموقف مما يُنشر، وممن يَـنشرُ، تلكم الكتابات. أحدهم يدعوا للتجاهل وعدم الرد او التعليق، ومن منطلق عدم إعلاء قيمة المكتوب والكاتب، تيّمناً ببيت شعر قديم يقول"كبرتَ عن المديحِ فقلتُ أهجو، كأنك ما كبرتَ عن الهجاءِ".. أما الرأي الثاني فيرى في الصمت، والوقوف على التلّ، والتجاهل: مشاركةً، وربما ايغالاً في تزييف الحقائق، ولحد أن تصبح الأساءة أو الزيف أمراً واقعاً يصعبُ محوه – بتقادم الأزمنةِ- من الذاكرة الجمعية.
وأول المعنيين هنا بطبيعة الحال هم المثقفون والمتابعون على ما يفترض. وما علينا بغيرهم الذين يصفقون، أو يشاركون في التعليق والنقاش دون ان يدروا، ولو كانوا قد عرفوا فالمصيبة أدهى كما هو شائع القول... أما أسباب توسع مثل تلكم الكتابات الحقود، أو المشوهة وغير الموثقة، فهي عديدة ومتنوعة، لعلي اجازف بالقول ان ابرزها يتمثل بالشهوة الجامحة للشهرة والأنتشار. وما أسهل ان يكون المرء شعبوياً تضج كتاباته باللغـو ليرتفع الرصيد الهافت، خلواً من اي ثقل معنوي حقيقي، الى جانب كل ما يترتب على ذلك من انعاكاسات وتداعيات خلاف المؤمل والمرتجى.
ومن المؤكد اننا لا نعني ما يخبرنا به التاريخ ومنذ منذ قرونٍ عن جدالات وخصومات الشعراء والمفكرين والأدباء، بل وتنابزهم، التي جاء الكثير منها خلاصاتٍ لترسيخ المعرفة العامة، وتحفيز ذوي العطاء، وتنشيط الذاكرة واشاعة الوعي.. ولأن الشعر ديوان العرب، فذلكم هو حافل امامنا ومنذ عشرات، بل ومئات السنين، بما يصلح شاهداً على ما ندعيه، وبشكل خاص: التباهي والتفاخر بالعطاء الروحي والانساني، والتسابق لأعلاء الشأن من جهة، والحطّ،، وبقسوة، من قدر ومكانة الاخرين الذين ينهاضونهم، حواراً او أحتكاماً، والى مرحلة الهجاء اللاذع. ومما تلمّ به الذاكرة قول: المتنبي وهو ينالُ من منافسه ابي فراس الحمداني، في حضرة سيف الدولة، كما تقول احدى الشروحات: أعيذها نظرات منكَ صادقةً/ ان تحسب الشحمَ فيمن شحمه ورمُ.. كما ذلك هو جرير ينالُ من غريمه الفرزدق، فيقول: زعمً الفرزدق أن سيقتلَ (مربعاً).. أبشر بطول سلامة يا (مربعُ). وتتوالى النماذج والمشابهات..
وفي الجانب الآخر نشير الى حالات السمو عن الرد، وتجاهل المقابل، بل والأستنكاف من ذلك، ودليلنا شعراً ايضا ماقاله الطرماحُ بن حكيم الطائي"لقد زادني حباً بنفسي أنني/ بغيض الى كلِ امرئ غير طائلِ.. وأني شقيُ باللئامِ ولا تَرى شقياً بهم الا كريم الشمائلِ".. وكذلك ما ينقل عن الامام الشافعي: يخاطبني السفيه بكل قبح / فأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مجيبا/ يزيدُ سفاهَة فأَزيدُ حِلماً /كعودٍ زادهُ الإِحراقُ طيبا..
الجواهري مثالا..
وفي هذا المحور نبدأ متسائلين أولاً: هل هناك مقابل في القرن العشرين، على الأقل، شاعرا كان، أو مفكرا أو عبقريا، عانى بمثل مثل ما عاناه الجواهري (1989-1997) من أيذاء وتجاوز، وأبتذالات من بني وطنه وأمته؟!. نشكُ في ذلـك، وعسى أن يقارن ويضيف المتابعون الأجلاء، أو يُخطئون. نقول ذلك غير ناسيـــن، بالمقابل، ست عشرة اطروحة دكتوراه، واحدى عشرة رسالة ماجستيـر أجيزت عنه – الجواهري- من جامعات عراقية وعربية، من تلمسان الجزائرية، وحتى صنعاء اليمنية، مرورا بجامعتي الازهر والقاهرة المصريتين، وأربيل والكوفة والبصرة العراقيات (1).
لقد بدأ مسلسل التطاول عن الجواهري منذ بدايات حياته الشعرية، وهو يثبتُّ ذلك شعراً، ومن بينه اواسط العشرينات الماضية، اي قبل قرن كامل تقريبا، حين كتب: أنْ انكرتني أناسُ ضاع بينهم قدري، فمن علمّ الحداد بـ (الذهب).. وكذلك ما قاله، وهو يتكئ على بيت شعر قديم:"ولو أني بليتُ بهاشميٍ/ خؤولته بنو (عبد المدانِ).. لهانَ علي ما ألقى ولكن/ هلمّوا وأنظروا بمن أبتلاني".
ثم، وبمرور الزمن، ومع ثبات وثبوت عبقرية الجواهري، ودوره التنويري، الشعري والفكري، الوطني والعربي والأنساني يزداد التجاوز ومحاولات التطاول، من جهلاء ومتفقيهين على حد سواء، وبدوافــــع تتباين بين حسدٍ وغيـــرةٍ حيناً، وسياسية وتخلفٍ حيناً آخر. ونقول من جديد: ما علينا بـالنكرات و(الأصفار) بحسب وصفه لهم عام 1969 حين ردّ عليهم هادراً"ما ضرّ من آمنت دنيا بفكرتهِ، إن ضِيفَ صفرٌ الى أصفار من جحدوا".
وفي عودة للتساؤل التي اورده عنوان هذه الكتابة (السكوت التصدي) نقول ان الجواهري كان يتنقل بين ذينك النقيضيّن. ويبدو ان الأمر يعتمد عنده على الظرفين الزماني والمكاني، وحساباته عن الدوافع والأغراض، وغير ذلك، مما يحدو به لأن ينحى ذلك أالمنحى أو خلافه.
فمرة يزعمُ حال السكوتَ، بل ويدافع عنهأ، رائياً فيه الموقف الأفضل. وفي التأكيد على ذلك نلجأ لاشعاره ذاتها، ومن بينها قوله عام1927"سكتُّ حتى شكتني غرّ أشعاري/ واليوم أنطق حراً غير مهذارِ.. في ذمة الشعر ما ألقى وأعظمه أني أغنّي لأصنامٍ وأحجارِ". وكذلك عام 1944"وكن بالصمت أبلغ منك نطقاً/ وأورى في محاججة زنادا / فان الموت اقصر قيد باعٍ/ بان يغتال فكراً واعتقادا". وأيضا ما جاء في قصيدته عام 1949"فلقد سكتُ مخاطباً إذ لم أجدْ/ من يستحقُ صدى الشكاة مخاطبا". وثمة شواهد ومواقف أخرى وكلّها تشيع الدعوة للسكوت، والترفع عن تطاول هنا، وآخر هناك.. كما سمواً عما يراها صغائر وترّهات. ولكن هل استمر الشاعر في ذلك الأتجاه؟! وهل ثبتَ على ما اشاعه ودافع عنه؟!. قصيدُ الشاعر ذاته يجيبُ في شواهد عديدة الى نقيض ذلك، وبأكثر من مناسبة، وزمن وعهد.
لم يصمتْ الجواهري، بل استهجن وصخبَ، وهدر بكل عنفوان، وأطاح – شعرا وتحدياً- بمواقف"المتحرشين"كما يسميهم، وبدوافع مختلفة، سياسيين ومثقفين وغيرهم، عراقيين وعربا، وأعاريب. بل – ووفق حساباته- مأجورين ومتصيدين وحاسدين وشامتين وعداهم. وقبل ان نوثق بشأن ما تقدم، وبأمثلة ليس إلا، نشير الى ان بعض لواعج الشاعر حدت به الى مواجهة المجتمع قاطبة في بعض الأحيان، الذي أنجب أولئك المتطاولين، ومن بين ذلك - ومثلاً ايضا وليس حصراً- ما قاله عام 1984مخاطبا صديقه صلاح خالص"أصلاحُ أنا رهنُ مجتمعٍ/ يخشى اللصوص فيذبح العسسا/ يُزهى بفارسهِ أذا أفترسا/ وبضوء نجمٍ ساطعٍ طمسا". وكذلك عام 1985 حين قال"برئتُ من الزحوفِ وأن تلاقتْ/ تسدّ عليّ منعطفِ الدروبِ.. أأنبذُ بالعراء بلا نصيٍرٍ/ نبيلٍ أو أديبٍ أو أريبِ.. فيا لمؤلهٍ فيها غريبٍ/ ويا لتعاسةِ البلد العجيبِ"وهكذا الحال في ابيات ومقاطع قصائد أخرى عديدة.. ودعونا ننتقل الآن لهدير الشاعر في غضباته"الفئوية"التي أسلفنا ذكرها قبل سطور قليلة.
قلنا ان الجواهري، وفي كثير من الأحيان ضمّن قصائده: عتابا وهضيمة وغضبا، وتصدياً، لمواقف وكتابات تداعى لها أشخاص عديدون، ومن بينهم"مأجورون"بحسب توصيفاته، وأرائه.. وكان ردّه عليهم قاسياً، وأكثر بكثير وأزيّد شدة – في الاجمال- من ردوده وتصديه لكتابات"منتقديه"ومخالفيه المثقفين والسياسيين... ولا بدّ من الأستشهاد هنا ببعض ذلك لمزيد من التوثيق، ومثالنا ما قاله قي رباعياته (1959-1960):"سيسب الدهر والتاريخُ من أغرى بسبي/ لا أولى سبوا فهم عبدانُ عبدان لربِّ/ يا لويل المشتلي كلباً لسبِّ المتنبي/ عرضُ (كافورٍ) تهرّى وله مليونِ كلبِ"..
أما عن امثلتنا – والشعرية كالعادة- على تصدي الجواهري لتجاوزات السياسيين، وأعوانهم، وفي عهود مختلفة، ومواجهاته لهم، طوال عقود، نشير الى ما قاله عام 1953"عدا عليّ كما يستكلبُ الذيبُ/ قومٌ ببغداد أنماطٌ أعاجيبً".. وكذلك بيته الشهير في قصيدة (هاشم الوتري) عام 1949 الذي يقول فيه:"أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهمُ/ أغري الوليد بشتمهم والحاجبا".. وايضا في"المقصورة"الاربعينية ذائعة الصيت"بماذا يخوفني الأرذلون، وممَّ تخاف صلالُ الفلا"..
اما المثقفون الذين حسبهم متجاوزين، شعراء وكتاباُ وصحفيين وسواهم، فلهم قسطهم من ثورات الجواهري ومواجهاته اللاهبة لتطاولهم، والرد على مروجي أراجيف، وكذلك الذين يدعمونها تحت عباءة حرية الرأي والنقد، والتقييم، وتبادل الاراء وغيرها من مشابهات. ونوثق في هذا السياق نماذج ملموسة - تفي الغرض كما نظنّ - لاستشهادات من قصائد الشاعر ذاتها، ومنها عام 1963 مهضوما من التجاوزات ضده، وعليه وهو في الغربة"وتفرج المتفيهون فلا دمٌ/ يغلي ولا قلمُ يذود ولا فـمُ... لم تنفقئ خجلا عيونٌ أبصرت/ وجهَ الكريم بكفِ وغدٍ تلطـــمُ".
وكذلك عام 1975 حين قال مستنكرا السكوت على ما يحيق به من تطاولات"وأم الضاد قد هُتكتْ/ وربّ"الضادِ قد جُلدا.. بهم عوزٌ الى مددٍ/ وأنت تريدهم مددا". وكذلك ما جاء في قصيدة"المقصورة"سابقة الذكـر"ومنتحلينَ سِماتِ الأديبِ/ يظنّونها جُبَباً تُرتدى... ولاهِينَ عن جِدِّهم بالفراغِ/ زوايا المقاهي لهم مُنتدى". وهكذا تروح العشرات من الابيات الجواهرية، في العشرات من قصائده تردّ وتتصدى وتردع، وتهدف للتنوير الجمعي وإن بدت شأنا خاصاً. ومثلما أشرنا فأن كل ما سبق ليس سوى نماذج وحسب، وفي الديوان العامر ما يضاعف من مثل تلكم المواقف والمواجهات، وكشف الزيف والادعاء وما اليهما. ولعلّ من الجدير ذكره هنا أن المعنيين بالأبيات والاوصاف والمواقف الواردة فيها لم ينبسوا ولا بكلمة واحدة- في الغالب الأعم- ولربما كانوا أذكياء هنا ليكتفوا بما تلقوه من ردود تكشف معايبَ، وتبيّن خبائثَ، بحسب قناعات الجواهري، على الأقل. كما يجب ان نتوقف هنا أيضا للتوكيد بأن الشاعر الخالد كان يميّز ويفرق بين النقد الهادف البناء، المبني على القدرة والمعرفة، وحتى في تفسير المواقف الشخصية ودوافعها، من جهة، وبين التطاولات والمزاعم والاباطيل، السائبة أو المغرضة، أو المتاجر بها، من جهة أخرى.
وفي مجال الأستدراك ايضا، والتوضيح، للقارئ – غير اللبيب خاصةً - الذي قد يتصور ان الجواهري لم يبقِ أحداً، سياسياً كان أم مثقفا أو كاتباً، وغيرهم، إلا وناله في اشعاره وقصائده... نوثق بأن مثل ذلك الأستنتاج لا يقوم على أسس رصينة وبالمطلق. نقول ذلك وفي الذاكرة والديوان العامر، وفي جزأي"ذكرياتي"للجواهري ذاته، العشرات من الابيات والمقاطع الاخوانية، والتقديرية لرموز سياسية وثقافية بارزة، عراقيا وعربيا. ولمن يطلب المزيد نوثق وعلى عجالة فان من بين تلكم الشخصيات السياسية، مع حفظ المواقع والالقاب: جلال طالباني، عبد المحسن السعدون، عبد الوهاب مرجان، سعد صالح جريو، مصطفى بارزاني، عبد اللطيف الشواف، يوسف سلمان يوسف، وصفي طاهـر... ومن الشعراء والشخصيات الثقافية، وايضا مع حفظ الالقاب والمكانات: الرصافي، ألياس ابو شبكة، بشارة الخوري، سلطان العويس، على جواد الطاهر، فيصل السامر، مهدي المخزومي، طه حسيـن، يوسف ادريس.. وعشرات آخرون.
أخيرا، وبرغم أننا لن ننقطع – كما يبدو- عن مثل هذه الكتابات والتأرخة، طالما كان هناك متصيدون، وطالبو شهرة، وسياسيون ومثقفون على الضفة الأخرى مما يقف الجواهري. أقول برغم ذلك فأن البعض قد يتساءل عن دوافع هذه الكتابة الجديدة الآن بالذات، فأردّ بأن الفترة القريبة الماضية - ولنقل اسابيع قليلة- شهدت تقولات وتطاولات جديدة في توقيتها، ولكنها مكرورة في فحواها عن الجواهري الكبير، والتي عنتها – وتعنيها الشواهد التي اتيّنا بها في متن هذه الكتابة، ومنها عن قصائد مديحه، فضلا عن ادعاءات بعض الكتاب، و"المؤرخين"في تخيّل أو زعم هذا التوثيق وخلافه، ولربما نعود لتفاصيل أكثر بهذا المنحى (2)...
1/ نشرنا في الانترنيت، ومواقع اعلامية عديدة قبل ايام قليلة، ثبتاً بعناوين الاطاريح ورسائل الماجستير واسماء اصحابها، والجامعات التي اجازتها...
2/ كتبنا ونشرنا اكثر من موضوعة ذات صلة، في الفترة القريبة الماضية، لعلها تسهم في توضيح المزيد لمن يتوخى الاستفاضة..