عبـاس الكاظـم
الصاحبُ صاحبٌ، وان تباعدت المسافات، وغدرت الجغرافيا، وقلت اللقاءات، وأمتد التاريخ. هكذا ارى في ما مررت به من تجربة وعمر.. وعباس الكاظم، واقع لما قلت، ذلكم الفنان المبدع بأمتياز المتميز، الدافئ حتى في غضبه، وخلافه واحتجاجاته..
والرجل من اهل المحمودية (البغدادية) وإن اعترض"البابليون"الذين يحسبونها لهم!. درس في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1976 وكان ذلك الاختيار صعب في تلكم الايام، على ما تحدث به الي قبل سنوات... وتخرج من المعهد بتفوق، مما دفعه للمزيد من التحصيل والابداع في ذلك التخصص فغادر البلاد الى اوربا، والى ايطاليا اولاً ليتخرج من اكاديمية الفنون بروما عام 1978 ومنها الى الدانمارك حيث اكمل دراسته العليا، واستقر فيها عطاءً نشاطاً الى اليوم، غارفا الجمال والابداع والدراسة والمهمات الثقافية والوطنية وغيرها، ولسنين طوال كان خلالها- وهو الواحد احيانا- اكثر من تجمع او هيئة او اطار طلابي او سياسي او فني.. باذلا سبيل ذلك وقتا وجهدا (ومالاً حين يتوفر!)، مقارعاً الارهاب والدكتانورية وحالما بوطن جميل، وشعب حر يبني ويعيش.
كان بدء التعارف في براغ اوائل الثمانينات الماضية، حين انعقد اجتماع- مؤتمر لمندوبي فروع اتحاد الطلبة العراقي العام في الخارج، وكان عباس يمثل الدانمارك في تلك الفعالية، وقد لفت انتباه المشاركين منذ الدقائق الاولى، بحيويته وروحيته الانسانية، واستمر هكذا في الفعاليات الطلابية والوطنية والاجتماعية اللاحقة، في براغ وغيرها من عواصم الدنيا، مستقطبا المحبة والصداقات، وذلك من أغلى الرساميل!.
ثم تعددت اللقاءات وتعمق التعارف، وتوطدت الصداقة في مناسبات متنوعة: عنده في كوبنهاغن، بضيافة اسثنائية، ولقاءات مع اعزاء واصدقاء، ومن بينهم شقيقه الاديب الدؤوب: حسيــن السكاف.. او عندنا في براغ: مرات للعمل المشترك، واخرى لتغيير الاجواء، وبعض الاستراحات، وربما المغامرات احيانا!.. وهكذا هي الحال في عواصم اخرى: في القاهرة بمناسبة انعقاد معرض الكتب الدولي عام 1998 وكنا برفقة احباء واصدقاء.. وفي العاصمة النمساوية فيينا بزيارة خاصة، وكذلك في دمشق الشام مع مطالع الالفيــة الراهنة..
وحكاية اللقاء في الشام لها طعم اضافي خاص، حين كان الرجل متطوعا، ولعدة اشهر في الاشراف الفني، واخراج أكمل طبعة لديوان الجواهري، بأناقة باهرة، طرزتها لوحاته وتخطيطاته التي اضافت جمالية انيقة زادت الديوان حلاوة وتميزا، وقد بقيت تلكم الطبعة بأجزائها الخمسة، والى اليوم مرجعا اساسياً لكل ذوي الاختصاص وغيرهم..
لقد كان الرجل مسرفاً في العطاء، وقادرا على الجمع بين متطلبات الحياة، وموهبة الفن والتشكيل، والنشاط في رحاب السياسة، والعمل الديمقراطي. ومع كل تلك المزايا، بقي متواضعاً، واثقا من عطاءاته دون تسويق وافتعال برغم ما لديه من شهادات ولمعان، وجوائز ومعارض شخصية ومشتركة، ومشاريع ممتميزة في مدن عديدة اعرف منها على الاقل: في الامارات واسبانيا وايطاليا، فضلا عن الدانمارك. ولربما تكفي الاشارة الى انه خطط ونفذ ورعى مهرجان / فعالية "تحت سماء أخرى"عام 1996 (1).
ونعود الى براغ التي جاءها عباس الكاظم - كما أسلفتُ- لأكثر من مرة في الثمانينات والتسعينات والعقد الاول من الالفية الراهنة. حيناً للمشاركة في فعاليات سياسية وطلابية عراقية، واخرى مسؤولاً عن وفد لطالبات وطلاب فنون دانماركيين، وثالثة لاجراء حوار مطول ونادر على مدى ثلاث ساعات مع الرائد الكبير محمود صبري(2).. وأخرى حين اشرف متطوعا عام 2007 على الجانب الفني لفعالية استذكار الجواهري الخالد، بعد عشرة أعوام على رحيله والتي اقيمت في الصالة الكبرى لمكتبة براغ المركزية(3)..
وفي كل زيارات براغ اعلاه، واللقاءات الاخرى، كانت لفرص الصداقة مع عباس مذاقاتها الجمالية الشخصية، واشراقاتها العامة التي ترسخت في الذاكرة والوجدان، لتصبح منبع فرحٍ في اجواء الغربة، والاحباط التي عشناها واشتركنا بها – بهذا الشكل والقدر او ذلك- والى اليوم الذي نعيش، ولا ندرى متى وكيف الخلاص!.
قليل مثل عباس الكاظم في عالمنا اليوم، والعراقي خاصة، في شخصيته وألقه ومشاعره الجميلة نحو الناس (من أظلم كالفحم، ومن اشرق كالماس).... وبرغم انها من سمات الفنانين الانسانية، الا ان الرجل راكمها لتغدو ميزة اضافية، راحت تقرن به عند كل معارفه، كما أدعي، وأنا واحد منهم بعيان وليس بسماع، أو تكهنات..
(*) تحاول هذه التوثيقات التي تأتي في حلقات متتابعة، ان تلقي اضواء غير متداولة، أو خلاصات وأنطباعات شخصية، تراكمت على مدى اعوام، بل وعقود عديدة، وبشكل رئيس عن شخصيات عراقية لم تأخذ حقها في التأرخة المناسبة، بحسب مزاعم الكاتب.. وكانت الحلقة الاولى عن علي جواد الراعي، والثانية عن وليد حميد شلتاغ، والثالثة عن حميد مجيد موسى والرابعة عن خالد العلي، والخامسة عن عبد الحميد برتـو، والسادسة عن موفق فتوحي، والسابعة عن عبد الاله النعيمي، والثامنة عن شيرزاد القاضي، والتاسعة عن ابراهيم خلف المشهداني، والعاشرة عن عدنان الاعسم، الحادية عشرة عن جبار عبد الرضا سعيد، والثانية عشرة عن فيصل لعيبــي، والثالثة عشرة عن محمد عنوز، والرابعة عشرة عن هادي رجب الحافظ،، والخمسة عشرة عن صادق الصايغ، والسادسة عشرة عن صلاح زنكنه.. وجميعها كُتبت دون معرفة اصحابها، ولم يكن لهم اي اطلاع على ما أحتوته من تفاصيل..، وقد نُشرت في العديد من المواقع الاعلامية..
1/ شارك في هذه التظاهرة أكثر من تسعين فناناً من أربعين بلداً من جهات العالم الأربع، وعلى هامش الفعالية نُظمت ندوات ولقاءات دراسية لمناقشة حالة الفن في المنفى، وصدر عنها كتاب يضم الأعمال الفنية والمداخلات التي قدمت فيه.
2/ ذلك الحوار المسجل فيديوياً ملئ بالجديد عن حياة وعوالم الرائد محمود صبري، وقد كانت لأسئلة ومداخلات عباس الكاظم الحيوية، دورها في تميّز ذلك الحوار الذي حضرته، وكم هو ضروري لو جرى نشره وأشاعة فرص الاطلاع عليه..
3/ كانت الفعالية متميزة في البرنامج والحضور والمكان، ودامت نحو ساعتين، وبجهود اسثنائية.