مـا لـم يطـوِه التـاريـخ
تبدو الثورات الاجتماعية كما لو أنها نزوة كبرى من نزوات التاريخ. نزوة ضرورية يعلن فيها التاريخ عن نفسه بشكل مدوٍ صاخب حينما يستيقظ ذات وقت، ليجد أنه غير قادر على مواصلة سيره الرتيب البطيء المعتاد، فيقرر تسريع خطواته وتحويلها إلى قفزات.
وكان العام (1789م) على موعد مع إحدى هذه النزوات الجامحة في فرنسا التي بلغت التناقضات فيها درجة الاستعصاء: بين قوى الشعب المنهك والجائع والمُستَلب من جهة، وقوى السلطة الملكية المطلقة وحليفيها: النبلاء والاكليروس اللامبالين من جهة أخرى. فانفجر الغضب عارماً في الرابع عشر من تموز- يوليو، مقتحماً المكان الذي يتجسد فيه بكثافة القهر والاستعباد: "سجن الباستيل" ويحرر من فيه.
وكما يحدث عندما تندفع القوى الكامنة الحبيسة بما تحمله من طاقات وآمال وتطلعات، اندفعت قوى الشعب الفرنسي (أو: الطبقة الثالثة كما كانوا يسمونها) لتتقدم إلى الأمام في دروب الحرية التي شقتها، مستلهمة أفكار مُنظري عصر الأنوار: فولتير، مونتسكيو، روسو... وخلال بضع سنين كانت فرنسا ذات النظام التراتبي القديم القائم على الامتيازات الخاصة قد زالت، لتحل محلها فرنسا الجديدة بنظامها الجمهوري ودستورها المعلن لحقوق الإنسان والمواطن، والمكرس لسيادة الأمة.
لكن الفضاء الجديد الذي تم إحرازه، سرعان ما سيواجه استحقاقاته واختبار مقولاته في أرض الواقع الحي.
فبعد الانتهاء من تصفية مؤامرات وتمردات عناصر النظام القديم في الداخل، وصد تدخلات الملكيات الأوروبية التي هالها المشهد المروع للإطاحة بإحداها، وأثار فزعها انتشار أفكار الثورة التحررية في أوساط شعوبها، تواجهت القوى العديدة التي اشتركت في الثورة لتخوض فيما بينها صراعاً ضارياً على القيادة والتوجهات والمصالح، تكفلت فيه المقصلة (او:الشفرة القومية كما سماها الفرنسيون) بدور القاتلة والقابلة معا، حتى إنجلا دويّه بعد عشر سنين عاصفة دامية (1789م-1799م) عن صعود ضابط مدفعية شاب اسمه "نابليون بونابرت" قادته ملابسات الظروف ودسائس الفئات المتناحرة، لتولي القيادة.
ومثلما وضعت البرجوازية حداً لتطلعات عامة الشعب الفرنسي: (العمال، الفلاحين، أصحاب المهن الصغيرة، المثقفين) وبددت آمالهم في الثورة التي خاضوها ببسالة وقدموا فيها التضحيات الجسيمة، فاستولت عليها وقمعتهم واقصتهم عن مواقع القرار ومنافع الثورة، لم يلبث "نابليون" أن وضع حداً للجمهورية، مقيماً مكانها إمبراطورية عائلية توظف شعارات الثورة كأداة ايديولوجية في حروب الفتح والاستيلاء على البلدان، حتى كتب تحالف الدول الأوروبية خاتمته في "واترلو" (1815م).
وقد كان علينا نحن العرب أن نجرب واحدة من هذه الغزوات النابليونية –أعني غزوته لمصر وفلسطين (1798م-1801م)- التي طرح خلالها فكرة توطين اليهود في فلسطين. وهي الغزوة التي فتحت أعين القوى الاستعمارية –وخصوصاً بريطانيا- على بلادنا وزجتها في أتون السياسة الدولية، بقدر ما استنهضت همم المصريين وأيقظتهم على ذاتهم وعلى العالم من حولهم.
إنطوت صفحات ووقائع الثورة الفرنسية منذ عقود طويلة، استحالت خلالها فرنسا أمة رأسمالية امبريالية تستعمر الأمم أو تهيمن عليها. لكن الآفاق التي دشنتها الثورة، والوعود التي اقترحتها، ظلت قائمة تتردد أصواتها وأصداؤها بين حين وآخر, مع ما تطلبته من مراجعة ونقد وتقييم على مستوى الفكر والممارسة العملية معاً، وعلى مستوى المرحلة التاريخية المحددة التي انتجتها وتطلبتها. لجهة تبيُّن ومعرفة ما هو خاص فرنسي من جهة، وما هو مشترك إنساني من جهة ثانية، ومعرفة حدود وطاقات الأفكار والشعارات التي أعلنتها، وحدود وطاقات القوى الاجتماعية التي حملتها وفسرتها ووظفتها طبقاً لوعيها ومصالحها.
غير أن ما لم يطوِه التاريخ بعد هو النداء الإنساني: نداء الحرية، والاخاء، والمساواة، وحقوق الإنسان والمواطن، وسيادة الأمم على نفسها، الذي لم يزل متقداً حاراً حاضراً في عقول وأفئدة العناصر الحية في الأمم والطبقات المقهورة التي لا زال يتعيَّن عليها أن تنجز مهماتها القومية.. مهمات صياغة وبناء: هوية حضارية أصيلة ومتجددة معاً، وأمة ودولة حديثة سيدة، ووطن ومواطنين. وان تنهي أوضاع التجزؤ الذي تكرسه الحدود المصطنعة، وأوضاع الانقسام في صفوف الشعب الذي تكرسه الامتيازات الفئوية والطبقية، كما هي حال الأمة العربية التي تواجه –إضافة إلى ما سبق- مهمات إنهاء التبعية وتصفية الاحتلال الجاثم على أرضها وفي مياهها وأجوائها.
فلا معنى للحديث عن الحرية والسيادة بوجود الاحتلال والاستباحة والهيمنة الأجنبية. ولا معنى للحديث عن الإخاء والمساواة بوجود الاستبداد والامتيازات والاستثناءات الخاصة بهذه الفئة أو تلك (العائلة، القبيلة، الطائفة، الجماعة الجهوية...الخ). ولا معنى للحديث عن أمة موحدة في ظل كيانات التجزئة المسماة دولاً كما في العهود الاقطاعية البائدة. ثم لا معنى للحديث عن نهوض وتقدم مع واقع التخلف والفوات الحضاري المشين.
وإلى أن تنجز هذه المهمات سيظل النداء قائماً على جدول الأعمال.. إلى اليوم الذي يكون بوسعنا أن نهتف -كما فعل الفرنسيون المدافعون عن وطنهم المهدد بالخطر، وحريتهم المكتسبة، وجمهوريتهم الوليدة- عند تصديهم لجيوش أوروبا الرجعية (النمسا وبروسيا) الزاحفة في معركة "فالمي" عام 1792م: عـاشـت الأمــة.