الخميس ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
محمد بوعزيزي..
بقلم بسام الهلسة

وكان ثمة حطب كثير يتحفز في الانتظار

هو اختار مصيره وسعى إليه، في لحظة شعور طاغٍ بالغضب والعجز والقهر والكرامة الطعينة اليتيمة مثله. سخروا منه حينما قال أنه سيشعل النار في جسده، ولم يواسِه ويطيِّب خاطره أحد.

فما حدث له معتاد، يجري ككل شيء آخر في الطبيعة والحياة. والدولة، ومؤسساتها، وموظفوها، لم يفعلوا سوى ما يفعلونه عادة، وما هو مألوف وطبيعي بالنسبة لهم، فعلَ الغرائز: اللامبالاة بالفقراء والمستضعفين، واهمالهم إذا ما تقدموا بالشكوى، واهانتهم وقمعهم إذا ما تجرأوا على الاحتجاج.

تحدث كل يوم هذه الوقائع. بل كل ساعة ودقيقة، ملايين ملايين المرات في الدول المفترسة الفاسدة، وبشكل تلقائي عفوي دون أن ينتبه لها أحد أو يكترث بها أحد.
إنها "الحقرة"، كما يطلق عليها في ديار المغرب العربي. والقاعدة المرعية المعمول بها في البلاد المُطوبة للقلة من الأقوياء والأغنياء، وموظفيهم الذين يهتمون بتطبيق"القانون" المكرس، بما يرضي مسؤوليهم، وبما يدخل جيوبهم من مرتبات ورشاً وابتزاز للمواطنين.

 فلماذا تستثنى ولاية" سيدي بوزيد" التونسية الفلاحية، من جريان هذه القاعدة؟ ومن ذا الذي سيأبه، لمظلمة بائع خضار متجول بسيط فيها، اسمه: محمد بوعزيزي؟

كل ما في الأمر أنه لم يستطع أن يتحمل، كغيره من" المُذلين المهانين"، الإهانة والاذلال المعتادين، ولم يتقبل منطق الدولة!

 الدولة!؟ وما أدراك ما الدولة!

اشتق اسمها- في العربية- من التداول، فجاء من احتكروها لأنفسهم ولعائلاتهم كغنيمة خالصة. وفي الكتب، قرأنا أنها جهاز لتنظيم المجتمع تقوم به الفئة الغالبة السائدة. وعرفنا أن ثمة- في العالم- دول مختلفة، لكن مقياس التمييز الأهم هو: هل الدولة مستلبة، أم حرة مختارة مقبولة من الشعب، معبرة عن إرادته؟ وهل هي: موظفة لخدمة الشعب، أم الشعب مُسخَّر لخدمتها؟

أجاب "محمد بوعزيزي" على السؤالين إجابة مفجعة حارقة.

فما هو موجود لدينا ليس دولة بالمعنى الحديث، بل ما أطلق عليه العرب قديماً اسم:"المُلْك"، الذي يعني التملك بالقوة والقهر والإرغام. وما كان وصفهم له"بالمُلك العضوض" مجرد كلام.

حدث هذا لدى جميع الأمم المعروفة في أزمنة مختلفة، لكن الأزمنة الحديثة تجاوزته لتبني دول قوانين الإنسان والمواطن. ورغم الكثير من الحقوق: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أقرتها-على تباين معروف بين الأنماط الاشتراكية والرأسمالية والمختلطة- إلا أنها جميعاً، لم تر في الموت حقاً لأحد. فالحياة هي الأساس الذي تقوم عليه كل الحقوق الأُخرى. لكن الحياة ليست مفهوماً ذهنياً، ولا قيمة مجردة عن شروطها ومتطلباتها التي تقع في نطاق الضرورات: الأمن والحماية، والمأكل والمشرب، والمسكن، والدواء، والكرامة، وحفظ النسل. وحينما لا تلبي الدولة- أو الجماعة- لمنتسبيها، هذه الحاجات- مباشرة، أو من خلال ما توفره لهم من عملٍ ذي دخل كافٍ- لا تستحق أن تعامل، سوى بالطريقة التي عامل بها شعب تونس حاكميه عندما ثار صائحاً:"الشعب يريد اسقاط النظام".

مثله مثل غيره من البشر الأسوياء، أراد الشاب ذو السادسة والعشرين من العمر: "محمد بوعزيزي" الحياة. لكنهم دفعوه إلى الموت، في ذلك اليوم الشتائي البارد من أواخر العام 2010: السابع عشر من كانون الأول- ديسمبر.

لم يرض المذلة التي هي أمَرُّ من الموت، فإختار أن يضرم ناراً.

وكان ثمة حطب كثير كثير.. يتحفز في الانتظار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى