تشارلز ديكنز هجاء الرأسمالية.. وإصلاحها!
هجاء الرأسمالية، ونقد شرورها الإجتماعية وقيمها وأخلاقها. هذه هي مدارات ومضامين معظم أعمال الأديب الإنجليزي: "تشارلز ديكنز"= (1812-1870) الذي تحتفي الأوساط البريطانية الرسمية والثقافية بمرور مئتي سنة على ميلاده.
ذكرى الميلاد، هي مجرد ذريعة مناسبة فقط، للإحتفال بالكاتب الذي لم تكن لميلاده أية أهمية، سوى لعائلته المتواضعة، التي اضطرته ظروفها المادية الصعبة إلى التخلي عن الدراسة المنتظمة والإنخراط المبكر في سوق العمل. لكن هذه التجربة القاسية، لم توهن همَّة الفتى "تشارلز"، بل كانت بمثابة الخزان الذي زوده بالخبرات والمعارف العيانية المباشرة بأحوال مجتمع قاع المدينة في العصر الفيكتوري، التي تردد صداها فيما بعد في أعماله الأدبية. فوراء صور ومظاهر الفخامة الباذخة المزركشة، والثراء الاسطوري الشَّرِه، والإمتداد الإستعماري الهائل للإمبراطورية، وضباب المعامل الكثيرة التي أطلقتها الثورة الصناعية، اكتشف "ديكنز"، الذي واظب على تثقيف نفسه فأتيح له العمل كمراسل صحفي، واقع البؤس والعوز والحرمان والإنحطاط المزري الذي كانت الطبقة العاملة البريطانية- برجالها ونسائها وأطفالها- مجبرة على العيش فيه. وقد شقَّ هذا الواقع العاصمة البريطانية، لندن- وغيرها من المدن- إلى نصفين: ثري مترف وفقير معدم، كانا على درجة من الوضوح والتمايز إلى الحد الذي قيل فيه بأن "لندن تقطن فيها أُمَّتان" لا أُمة واحدة.
مع هذا، لم يكن "ديكنز" ثورياً يطالب بتغيير النظام الإقتصادي والسياسي للدولة، على طريقة الكتاب الفرنسيين والروس، بل داعية إصلاح إجتماعي أفزعه مرأى القروح والتشوهات التي تسببت بها الرأسمالية المنفلتة- بإسم الحرية- بجشعها ولامبالاتها وحقارة تطلعاتها ومواضعاتها وأزماتها الدورية. وكان ممن يرون أنه يمكن حل هذه المشكلات بعزم ذوي النوايا الطيبة ومحبي الأعمال الخيرية!
في البداية، في أوان شبابه، شرع "ديكنز" بالسخرية والإستهزاء من عصره، في روايته الأولى التي نشرها في حلقات مسلسلة في إحدى المجلات الدورية بين عامي 1836 و1837، وعرفت بإسم: "مذكرات بيكويك". ورغم أن نقاداً رأوا فيها تشابهاً مع الرواية الشهيرة:"دون كيخوته دي لامانشا" للأديب الإسباني:"ميغيل سرفانتيس"، إلا أن هذا لا يقلل كثيراً من قيمتها كإضافة جديدة لقصص المغامرات والهجاء السياسي والأخلاقي والإجتماعي، ذات التقاليد الراسخة في الأدب البريطاني السابق على زمن "ديكنز". وربما يذكر الكثيرون من محبي الأدب، القصص الخالدة من القرن الثامن عشر:"روبنسون كروزو" و"رحلات جيلفر" و"توم جونز" على سبيل المثال.
توارت السخرية في أعماله التالية، وأخلت مكانها لمشاهد المعاناة الإنسانية المؤلمة مع الظلم والإستغلال والإضطهاد. أتذكر شخصياً الإنطباع المؤثر الذي أحدثته في نفسي قراءتي القديمة لرواياته:"مغامرات أوليفر تويست" و"ديفيد كوبرفيلد" و"حكاية مدينتين"، أو مشاهدتها مقدمة في أفلام سينمائية- كما غيرها من أعماله-:"أوقات عصيبة" و"توقعات كبرى". وللآن، بقدر ما يسعني القول، لم تفارق خيالي أطيافٌ باقية للعديد من شخصياتها ووقائعها، رغم نفور ذائقتي اليوم مما تتسم به من مبالغة في العواطف، ونقاط ضعف في بناء الحبكة وتماسك الأحداث. لكن هذه الملاحظات، لا تجيز أبداً القول بنهاية "ديكنز"، والتعامل معه كأثر تاريخي سابق فقط. فهي تعود في الحقيقة إلى أساليب السرد النثري المتبعة في عصره التي نجدها شائعة في معظم النتاج الروائي للقرن التاسع عشر في البلدان واللغات المختلفة- التي عرفت الكتابة الروائية- وليس في الأدب البريطاني وحده. وربما يفيد هنا التذكير بأنه خلال سنوات نشأة وتكوين "ديكنز"، كانت الرومانسية هي التيار السائد المهيمن على الحياة الأدبية والفنية. وبذا، فقد كان دور "ديكنز" ريادياً في إرساء وتوطيد طريق الكتابة الواقعية الإنتقادية الإجتماعية، التي قدِّر له أن يَسِمها بآثار ابداعية كرَّست اسمه ضمن قائمة الكبار من الأدباء الإنجليز، وما زالت تتداولها لغاتُ العالم بإهتمام.
بيد أن هذا الإهتمام بذكرى "ديكنز" وميراثه الأدبي، لا ينبغي له أن يحجب الذكرى المظلمة، بأنه كان من بين الكتاب المسايرين لإستعمار بلادهم- بريطانية- لبلدان العالم، اللامبالين بقهرها واستثمارها للشعوب وسطوها على مواردها.
إن هذا هو ما يسمى: التواطؤ. وهو ليس مجرد كلمة تنزوي ببرود في صفحات القواميس اللغوية، بل عهد تاريخي حارق أليم، مرت خطاه ووقائعه الدامية على أجساد أبناء وبنات الأُمم المستعمَرة، وتعرف معناه الطبقة العاملة البريطانية التي ألقت رايتها النضالية لتحلَّ مكانها روحٌ مساوِمة، حيث وجد قادتها المتبرجزون حلاً لأزمة "الأُمَّتين"، في التواطؤ مع حكام دولتهم الإستعمارية وشركات أُمتهم الرأسمالية، على إستباحة العالم الذي شملته إلإمبراطورية بشمس نهبِها التي لم تكن تغيب، حينما كان السيد "ديكنز" يكتب رسائله وتحقيقاته وقصصه ورواياته، أو يتجول هنا وهناك محاضراً عن الشقاء والإصلاح!