الثلاثاء ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد هيبي

مفلح الطبعوني بين الشحوبات المتجدّدة و"عطايا العناق"

لا تنتظروا مني أن أكتب نقدا لهذه القصيدة أو لشاعرها. فأنا لا أعرف، أصلا، إذا كنت أفهمه. ولكن، هل القضية هنا هي أن تفهم أو لا تفهم؟ لا أدري! أو في رأيي لا! لأن عدم الفهم بمفاهيم معينة هو فهم ما. القضية هنا هي هل تحسّ ما تقرأ أو لا. والإحساس بالكلمة/ اللفظة هو أكثر بكثير من تذوقها. أن تتذوق الكلمة هو أن تفهم، بشكل ما، ما جاءت تقول وتستمتع به. ولكن، أن تحسّها يعني أن تعيشها قبل ولادتها، يعني أن تحسّ أن الشاعر قد سبقك إليها. إختطفها من ذاتك ووعيك أو لاوعيك ونحتها من ذاته واستلها من وعيه أو لا وعيه. إجترحها لا ليقول فقط ما أراد أن يقول وإنما ليقول ما أردتَ، أنت كذلك، أن تقول. لذلك، مرة أخرى أشعر أن مفلح الطبعوني قد بـذّني وأمسك بناصية اللغة، عمقها وسطحها. مرة أخرى أشعر أنني وإياه كنا نغوص في قعر محيطها فاستجلى لؤلؤه قبلي فتسابقنا إلى السطح فسبقني. هكذا أُحسّ هذا الشاعر، يقول ما أردت أنا أن أقول. ينحت من ذاته ليعبر، أيضا، عما في ذاتي. وإلا فكيف يفلح مفلح أن يتنقّل بهذه السهولة بين الذاتي الخاص والجمعي العام؟

إذا اعتمدت على الفهم، عند قراءته عامة وقراءة "عطايا العناق" خاصة، أشعر أنني أتأرجح على خيط رفيع بين منزلتين لا أدري فوق أيهما سينقطع بي ذلك الخيط الرفيع وأسقط. أفهم أو لا أفهم. إذ، في قراءة، أشعر أنني قلعة أقفلت بحنكة ودهاء وألقي بمفاتيحها في أعماق بحر لا قرار له. وببساطة، يستعصي علىّ الفهم. وفي قراءة أخرى، أشعر أنني، وإياه، كنا في سباق إلى كل كلمة تحتبس في خلجاتنا، ولكنه كان المكرّ المفرّ، ولكن كشيطان شعر وليس كجلمود صخر، حطه السيل من علٍ،. لقد سبقني وكتبني. غاص في البحر وانتشل المفاتيح وحرر الكلمات الحبيسة في قلعتي كما في قلعته. في "عطايا العناق" أصبح مفلح سيد القلعة. وهي ليست قلعة تضجّ فيها الموائد ولا يحتفل فيها الجوع. هي قلعة أيقونات الشعر. كل كلمة أيقونة. وكل أيقونة لها عطرها وبخورها الذي يفوح من معابد بابل وأساطيرها. قلعة يحلق في فضائها جلجامش يحمل عشبة الحياة من أرض دلمون إلى أرض فلسطين.

أنظر إليه كيف ينكر ذاته، في الفقرة الأولى:

صمت يتسربلُ
بالهمساتِ
وظلال الأنفاسِ،
يستلقي فوق عراء الأرقِ
ليساهرنا

ينطق الصمت ليساهرنا جميعا، ويرضى بشحوباته المتجددة،في الفقرة الثانية:

يعانقُ
حبقَ العشقِ الذائبِ،
وشحوباتٍ متجددةً
كبزوغِ الطيفِ المتهالكِ
مع ذاك المتلوّعِ بالصبرِ

خلاصا لنا، لأنه، كما سيعلن لاحقا، يريد لنا جميعا أن نخرج معافين من مشافي شحوباتنا،

أحبُّ
كما تحبين
خروجَ الناس
من المشافي
معافين

ولذلك فهو يريد، حتى للصمت، أن يكون بداية وانطلاقا وليس نهاية وموتا لنا. إنه يأبى أن يقضي علينا الصمت. إنه يذوب عشقا، يتهالك، يتلوع ويصبر، لا من أجله فقط بل من أجلنا أيضا. أنظر كيف بدأ بالجمعي العام، ينحت لنا التفاؤل من تناقضات الحياة، ينحته من عشقه ولوعته وصبره، ويعود، في الفقرة الثالثة:

نتقاسمُ
مع ترانيم الحيرة
شفقَ الأنغام،
ورباباتِ الأصداءِ،
تتخمّرُ أساطيرنا البنفسجيّة
كخلايا العنبِ

ليقاسمنا همومنا - الحيرة والشفق والأصداء - فيما يتحمل عبء تحويلها إلى ترانيم وأنغام وربابات تعزف سيمفونية الحياة وتروي لنا أساطيرها المليئة بالعشق والحكمة التي تؤكد لنا أن من يفهم الحياة يعشقها ويسكر بخمرها فيصبح قادرا على انتزاع البسمة من مخالب همومها وبراثن تناقضاتها. كل ذلك واللغة تسيل معه. تصبح لعابا لقلمه. تنقاد له طيّعة باستعاراتها وكناياتها، برموزها وتضاريسها التي لا تلين قناتها إلا لمن يعرف كيف يتهجّى جسد المحبوبة قاطبة.

ثم يتابع الشاعر:

وهجُ التوالج
يحاصر خاصرة رؤانا،
مع شهقات المرايا
وعطايا المصابيحِ

يحذرنا من التوالج غير الطبيعي، وإن توهج، سيخنق أحلامنا فتنكشف، إذا ما توهج هذا التوالج، عوراتنا، عورات ما نحن عليه الآن أمام مرايا أنفسنا. ولأنه لا يريدنا أن نختنق، ولأنه يريد أن يخلصنا من الاختناق والحصار الذي نحن فيه، لا ينسى أن يضيء لنا مصابيح لن تبخل علينا بعطاياها. ثم يعود بعد ذلك إلى معاناته وتجربته الشخصية الغنية، التي تنير لنا طريقنا. يقول لنا اننا نقف على مفترق بين طريقين: شهوة المدى وشهوة الموت، فدعوة أيهما سنلبي؟ شهوة المدى أم شهوة الموت؟ لكأني بكم تتألمون صادقين لأولئك، بيننا، الذين يبنون للموت ويتجاهلون، بوعي أو بلاوعي، جبن الموت وشجاعة الحياة التي تستحق، أحيانا من أجلها، أن نموت.

لا شك أنه يريد أن يقول لنا ان المدى مفتوح أمامنا. أبوابه مشرعة وكثيرة وإن رأيناها في لحظة ما ضيقة. فهل "انبجاس النائمات، وندى الأمنيات"، يستهان به كخطوة أولى في رحلة المدى؟ حتى الموت و"مراسيم جنازات"، يجب ألا نرى فيها إلا براعم ستصبح يوما ما غصونا وقطوفا تتدلى منها الثمار اليانعة.

إن شاعرا كمفلح الطبعوني لا يرى نفسه، بدون التواصل، إلا مهزوما. إنه يتواصل مع الحياة عبر محبوبته التي، إذا فقدها، يستنسجها من رحيق شذا الحياة، حتى لو ادلهمّت غياهب الجراح في اشتداد المآسي، لأن له جذورا يعود إليها تنبذ الهزيمة ولا تستسلم لها. وإذا كان الحب هو الشعور العميق بجمال الحياة، فإن هذا الحب الصادق وهذا الشعور العميق، لدى شاعرنا، بجمال الحياة، هما طريقه للتواصل مع نفسه، معنا، مع قضيته العادلة التي هي قضيتنا، مع وطنه الذي ينتفض وينتفض حتى الخلاص، ولكن مع إنسانيته، كذلك، التي هي طريقه إلى الإنسانية جمعاء.

الفقرة التالية مزيج عجيب غريب، لا ينقاد إلا لشاعر تتوفر فيه كل الصفات التي تحيل إليها رموز هذه الفقرة. مفلح الطبعوني شاعر منتم ٍ، أولا إلى الحياة، فهو يعشقها ويعرف كيف ينتصر لها. متفائل "لا نحب كوابيس الذكريات وتحبين كما أحب بسمات النوار". وهو ينتمي لنا، نحن الناس البسطاء، يحب ما نحب ويكره ما نكره. وأكثر من ذلك فهو يحب الناس، إذا اجتاحتهم الشحوبات، يحب "خروج الناس من المشافي معافين". هكذا علمته الحياة وشحوباته المتجددة فيها. وهو ينتمي لطبقته، طبقة الفقراء، لا يحب ضجيج موائد أولئك المتخمين الذين لا يشبعون . ويقاتل الجوع لكي لا يقتلنا، نحن الفقراء، الجوعُ. وهو شاعر وطني ينتمي إلى هذا الوطن، يعشق جباله ورماله وأكثر ما يعشق أطفاله الذين يحملون دماءهم على راحاتهم ويَقُضّون مضجع المحتل، في غزة وأزقة جنين، حتى وإن كانوا لا يقتاتون إلا من رغيف الخبز الناشف الذي، يستنشق ماء الحياة ويتمرد فيعلمنا كيف نتمرد ونسطر ملحمة البقاء.

وربما أكثر ما يلفت النظر في هذه الفقرة هو إقفالها بشطحة عشق صوفية تتّحد فيها ذات الشاعر بتأتآت الأطفال ورغيف الخبز وقصائد البقاء، كما تتحد ذات الصوفي بالذات الإلهية. فالصوفي، ومن أجل اتحاده بالذات الإلهية، من بين الطرق التي يسلك، طريق العشق واللغة. ومفلح الطبعوني يسلك الطريق ذاته، فطريقه إلى التآلف والإتحاد معنا هو طريق الحب واللغة. يجعل من ذاته ومن الطفل ومن رغيف الخبز ومن قصائد البقاء، يجعل منها جميعا ذاتا واحدة. فقد أعلن عن حبه على امتداد القصيدة "وتحبين كما أحب" وجعلنا بلغته لا نميز: هل قصائد البقاء هي معطوف على مفعول "أحب" أم معطوف على مفعول "يستنشق". ومهما يكن فإن هذا التقاطع بينهما يقودنا إلى أن الشاعر والطفل والرغيف وقصائد البقاء ذات واحدة أو ذوات مؤتلفة متحدة في ذات واحدة. وعما يبحث الشاعر إذا لم يكن عن هذا التآلف والتناغم الذي يفضي إلى البقاء؟ وبحثه يُستشَف من انتظاره، وانتظاره لا بد سيفضي إلى العناق الذي من عطاياه الإستمرارية والبقاء والمستقبل الواعد الجميل، كما أحس ذلك من فقرته الأخيرة.

حبيبتي
أحب
كما تحبين
وتحبين
كما أحبُّ
بقايا الانتظار
وعطايا العناق

وعود على بدء. أرجو أنني أفهم هذا الشاعر، ولكن، حتى ان لم يتأتَ لي ذلك، فأنا أعي ما يعتمل في ذاتي التي أراها انعكاسا لذاته، أو ذاته انعكاسا لذاتي، لأني أنا كذلك أكره ضجيج الموائد ورماد الجوع وأسكن أعالي الجليل المطل على رمل حيفا المتواصل مع أطفال غزة الذين تشرئب أعناقهم هذه الأيام إلى عناق أطفال يجرّح رغيف الخبز الناشف حلوقهم الناشفة في أزقة جنين، ومع ذلك، فهم يسطرون ملحمة البقاء.

وأخيرا، مفلح الطبعوني شاعر، رغم الشحوبات المتجددة فيه، يعشق الحياة ويركب المركب الصعب. جمع بين صبر المتنبي وحكمة أبي تمام وخمرة أبي نواس ورومانسية عنترة، رغم أن سود هذا الزمن السيئ تقطر من دمه. فلا عجب أن تفيض أساطيره البنفسجية حكمة ثاقبة تُنطِق الصمت وعشقا رقيقا ناعما يذيب الصخر. ولا عجب أن يشتهيه المدى كما يشتهيه الموت، ولكنه يعرف كيف يستنشق ماء التمرد ويسطر ملحمة البقاء. يعرف من أين تُؤجَّج شهوة المدى وكيف يجعل الموت يموت بشهوته.

مفلح الطبعوني شاعر يحب كما نحب. ويعاني كما نعاني. لا بل يعاني ما نعاني. ورغم الشحوبات المتجددة فيه، إنه شاعر يعيش روعة انتظار عطايا العناق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى