السبت ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

مكانُ التفسُّخ

... واليومْ؛

ها أنا أمسِكُ بمُراهقتي العامرةِ بالثورات، وأودِعُها (بدون اكتراث) مَطْمورةَ المُضيّ.

ها أنا أُلملِم شتاتَ احتجاجاتٍ "مَرْمَدَها" الزمن، وألقي بها (بدون امتعاض) في غياهب الفَوات.

لم أعدْ بعدُ قادراً على الامتعاض.

ها أنا تمكّن الخريفُ منّي ودحرني إلى مكان الذّبول. قد غادرني الرفضُ وعمّني القُبول.

ـ سعيدة! يا ابنة عمِّ لي بعيدة؛ تنحّتْ عنّي ال(لا) فصرتُ قفّةً من ال(نعم). صرتُ ثقباً في ذا الوجود... صرتُ لا أحسُّ حتّى بالألم.

ـ سعيدة! بدا لي الدهرُ "يشيِّبُ" الشباب، ويرُْدي النجومَ إلى أفول...

كنتُ أعتقدُ أنّ الحبَّ الذي نثرتُ في حقول الصِّبى أقوى من المادِّيات...

كنتُ أومنُ بأنَّ الحبَّ إرادةٌ مُطلقة، وبُغيةٌ مُثلى في بناءِ العالم على (كيفما نشاء). لكنْ، ما إن سُكِبَ الزُّعافُ الأسودُ على بياض العِقدِ، حتّى انبثقتْ من تفسُّخ الحبّ: الطّلباتُ، الدّارُ، الأثاثُ، الآلاتُ المطبخيةُ، السيّارةُ،البذخُ، المُجاملاتُ، الجيرانُ، الميراثُ... وأشياء أخرى (كلُّها) لا علاقةَ لها بالحبّ؛ بيدَ أنّها صارتْ أشكالا وسِخة على وجهِك؛ فلم يعُدْ ذلك المُحيّا الذي منحني الحياة ذات حُلُمٍ ؛ صار شيئاً كالضّيق... كزنزانة ضئيلة تُطِلُّ نافذتُها على زنزانة سَجين.

ـ سعيدة! يا ابنة عمٍّ عنيدة؛ أنا فقيرٌ من هذه الأشياء... اطلُبي صُوَرَ النجوم آتيكِ بها في الحين... اطلُبي روحَ الشِّعْر أنثُرهُ لكِ باليديْن. اطلبي قِصصَ اللآلِئِ وأسْرارَ المرجان أحكيها لكِ قبل أن تطرَف العَيْن. اطْلُبي ما تشائين من المستحيلات؛ عدا (الطُّموبيل)، و(المْضَمّة)، و(الفْريزر)، و(التَّكْشيطَةَ مولاة المليون)، وثوبَ الكشمير...اطلُبي ما تشائين عدا هذه المُتلاشيات...

أجلْ!... صارتْ طلباتُكِ الأرضيةُ تضيِّقُ المكان؛ وبدأ الحبُّ الذي كان بيننا يتفسَّخُ شِلواً شِلْوا، وما انتبهتِ لهذا الحال؛ وما فكّرتِ (هُنيْهةً) في التّفاهات التي نطق بها فمُك (فمُ الجهل)... كانتِ التفاهاتُ تأكُل وجْهَك من حيث لا تدْرين... كنتِ تتآكلين في غفلة الانبهار بالزّائِلات؛ بالإشْهار ووهْم الامتلاك... وتقولين:

ـ ... يا زاهدُ؛ هاتِ فلوسَ الكِراء، هاتِ فلوسَ الخُضار واللحم، هاتِ الماءَ والكهرباءَ وال(النّيتْ) والتلفون، هاتِ كلَّ ما رأيتْ عيني على شاشة التلفزيون، هاتِ الدراهم، الجُنيهات، والريالات... هاتِ الدولارات يا رجلا ظلَّ يحتمي من الفقر في مغارة الحنين!

هذا ما كنْتِ تقولين. ولقد كان كلاماً باطلاً بحقِّ... فلا هو عارفٌ بما هو آت... ولا هو عارفٌ بأنَّ مثل هذه الطلباتُ الخرقاوات لن تستطيعَ جعْلَ القلْبَ يسْتكين...

ـ سعيدة! يا ابنة عمٍّ صارتْ بعيدة؛ لقد اعْتلاكِ التآكُلُ وأنتِ لا تعين. لقدْ ابتدأكِ من كُمِّ القفطان الذي مسحَ على وجهي آلامَ الدُّنيا؛ قفطانِك الرّمادي الذي راقصني ليلة الأمل؛ ثم بلغ عُقْبَ حِذائك العالي الضاربِ في الجذل؛ فبياضَ أسنانك التي ما عادتْ لآلِئْ... صار (ويا حسرة!) فمُكِ خراب؛ فشفتيْك اللتيْن كانتا مثل حبّتيْ كرز طازجتين... زرقةٌ، بنفسجٌ ذابلٌ، سَوادٌ... فساقَك التي قلتُ عنها في دوْخة مّا (هي البياضُ الشمْعِيُّ المنحوتُ في الرّوْعة)... آهٍ تلك الساقُ... تلك (الخطبةُ البتراء!) ... صارتْ تمُجُّ عفَنا.

هو التفسُّخُ يا سعيدتي الشقيّة.

هو مصيرُ من يفرضُ على الحبِّ مؤسَّسةَ الزّواج.

كلُّ ما تملكين صار يتلاشى:أين جلبابُكِ الأخضر الذي أدْخلْتِني من فتحتيه الجانبيتين إلى نهاية الاشتهاء؟... صار المسكينُ أصفرَ شاحِباً بُنِّياً يتجزَّعُ من دون ما يُلْمس... أين التكشيطة التي فاخرتِ بها في كذا عُرْس؟... آلتْ إلى خُيوطِ عنكبوتات... أين السِّلْسِلةُ الذهبية التي ابتززتِ منّي ثمنها؟... صدِئتْ؟... صَدئت والله... أما قلتُ لكِ إنّ الذهبَ ليس هو الذهب؟...أما حذّرتُك من هذا القيْدِ اللعين؟... وأين الأشعارُ التي رصّعتُ بها أذنيكِ الجميلتيْن؟... نفضْتِها من زمان؟...لهذا صارتْ أذناك مرتخيتان يندى لحالِهما الجبين... وأين تلك القُبلاتُ التي ختمتُ بها على ثغْر من شمع أحمر؟... تلِفتْ عندما تلفّظتِ بتلك الطلبات المُشينة؛ فها فمُك صار مثل الكرتون... والخاتم المُفرغُ؟... ذاك الذي اعتقدْتِهِ امتلاءً... أين هو؟ لقد سقط من بنصرك المسمور على الدّوام.

أ تضيِّعين الخاتَمَ الذي أدخلتِني من ثقبه إلى مكان التفسُّخ؟... وصورةُ زواجنا التي قلتِ عنها ذات انتصار:"ستحفظُها لنا السنون" (تجيئني رغبة مُرّة في الضحك)...

انظُريها الآن! فقط بسْمتانا الغبِيّتان بقيتا... كلُّ ما في الصورة راح... فقطْ بقتْ سُخريةُ الزمن...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى