الأحد ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

مكان المرأة الورقية

ضحكتْ تلك الضحكةً الرقيقة، العذبة، الشمعية؛ خلف تموُّج مروحتها السوداء، المنمنمة، الذهبية... وأفلتتْ كلاماً كالعِتاب... مطربٌ صوتُها العاذلُ كصوتِ الرِّباب:

ـ لم التّنائِي؟ وهتفتُ:

ـ أ لِمَ الغِياب؟

فارتسمتْ على صفحة وجهها دهشة؛ واعتقدتُ أنّها لا تفهمُني؛ لا تُدركُ غرابةَ الحب وعُجْبَ الاستغراب.

مال بؤبؤها؛ وانحرفت المروحة، فحجبت رسوم الاندهاش.

خُيِّلَ لي أنّ مشروعَ بسمة ارتسم خلف الحِجاب؛ ففكرتُ أن أستفِزَّ الأذنَ المُستتِرةَ بهذا السؤال:

ـ هل تفهمين الحبَّ المستحيل؛ الأحمق؛ البديل؟

انظري عشقي لك في ما بين السطور، واتِّحادي بك في واقع الخيال، وصيْرَنا ذاتاً واحدة، قلباً واحدا، صلاةً متوحِّدَةً، واعتقاداً أوْحَدَ في جميع الدِّيانات...

أ ُسْدِلَ الجَفْنُ على الرؤية، وهرولتْ عبر الباب الجرّار، إلى صالونٍ نُصِبتْ فيه مائدةٌ عليْها لذَّ وطاب؛ كتُبٌ وشراب.

وتناهتْ إلى سمعي ترنيماتُ كلامٍ مُغْر ٍ تساقطَ – على الأرجح – من "كيمونوِّها" الأحمر...تساقط مثل أزهار "بلَّعْمانْ"...

وعبَّتْ من إكْسير ِ كِتاب، ونظرتْ إلى جمالِها الأخّاذ في ضباب الشراب، ورقصتْ وغنّتْ؛ فجاءني غِناؤها – كالوحْيِ – محمولاً على الأثير. متموِّجاً. مُبْهَماً. حائرا... كأنّه "الصوفيةُ" عَبْرَ بوّابةِ الوُجود.

فقلتُ لها (والله أعلم):

ـ أنتِ يا "إيكوكو"... يا قادمةً من جزيرة "هوكايْدو" الحالمة، على مَتْنِ قطار الكلمة... ما عِشقي لك مُجرّدُ اشتهاء.

أنا لا أراكِ سُرَّةً صلبةً تتوقُ إلى الدّق، ولا رأيتُكِ كتِفينِ مُدوّريْن في الشمع الملتهِب، ولا عينيْن رانِيتيْن ِ إلى عُرْيي...

لقد رأيْتُكِ (كما أراني) امرأةً حيْرى، عاشقة، تائهةً في دهاليز ِ السُّكْر... امرأةً ورقية، حبلى بالأسئلة، بحّاثةً عن التحرُّر...

ـ أ لَمْ يسجنوكِ قروناً في قمقم ٍ من فِكْر ٍ وحرير؟

هبًّ نسيمُ كلام ٍ تسامى كالعاصِفة. فتقلّبتِ الصفحاتُ وتعكّر السّرْد، وطفحتْ على جسد المسرود معاني لا معنى لها؛ معاني مُهلْوسة...

الطوفان.

من بعيدٍ تراءتْ لي "إيكوكو" على ضفّة آمِنة. عندها شمسٌ في مثل صُفرة الذهب، وسماء زرقاء جدّا، وغابة.

ورأيتُها تغلْغلتْ فيها، وصادفتْ كوْماً من روايات مرقونة بشتّى اللغات؛ وانكبّتْ عليها تقرأها دفعة واحدة؛ فصِحتُ في هدير الموج الذي يفصِلني عنها:

ـ لا ! لن تجديني في تلك الروايات... كلُّها مخادعة. كلُّها ملأى بالفراغ... أنا هنا... ما أنا فيه هو الرواية.

كانتْ "إيكوكو" منهمكة في قراءة رواياتها. فجأةً تحوّلت الأوراقُ إلى صفحات إلكترونية، والكلماتُ إلى "تْرانْزيسْتُورات"، والمعاني إلى "دارات مُدمجة"، والاستِعاراتُ إلى "دْيُودات" لا تؤدّي المعنى إلا في اتِّجاه واحد.

وارتسمتْ على شاشة وجْهِها صُورٌ شتيتة، متسارعة، افتراضية، وهمية ، خُرافية، تكنلوجية... خاوية؛ بيْد أنّها تطربُ لها وترقص وترقص...

مرَق قِطارُ ال(تي. جي.ﭬـي).

كاد القطارُ أن يتخطَّفَ عقيدتي. أنا؟... أنا – حقّاً – أومن بالعِشق.

وتخطَّفكِ أنتِ إلى قِمَم الحضارة؛ إلى حِمَم النّدم.

ضِعْتِ يا "إيكوكو" في غيري، ولن يسْعِفْكِ أنبياؤُك الآسْيَوِيُون. لنْ يسمعَ أنينَكِ الثمِلَ "كونفوشيوس"، "بوذا"، "لاوْ تْسُو"، "الدّلايْ لاما"، ولا حتّى الإلهةُ "شِيـﭬـا" إنْ كنتِ من الغاضبات.

لن يُسْعفكِ البُكاء. ثمَّ إنَّ لا دموعَ لديْكِ؛ أ لستِ امرأة من ورق؟

وأمّا أنا، فلي دنّي، ديدني، وإيماني بالعشق والحياة. ولي أميرةٌ، وردةٌ أمتنعُ عن قطفِها لكيْ لا تذْبُلَ الأزهار. ولي "أفروديتة" أنامُ على صدرها عندما أسكر. ولي مدينة فيها زيتون لا يُؤْسَر؛ ودواوينُ شعر حرّ، ورواياتٌ (كلّها تشكيك) تُعْليك – إذا ما ركبتِها – إلى "نيرْﭬـانا" التحيُّر... ولي ألحانُ "هجهوجاتٍ، كَمَنْجاتٍ، بانْجُوات، ربابات، طعاريج، دفوفٍ، أوْطاراتٍ" كلّها صادرة من رحم الجنّة.

وأمّا مروحتي، فسعفة نخيل ظفرتْها لي في زمن العِشق الأوّل زهرةٌ من أزهار البلد... مروحتي ضفيرةُ عِشق ٍ إنْ حرّكتُها لجلْبِ النسيم، جلبتْ لي أعذب الشعر؛ وإنْ لم أحركها، أرتْني أجملَ الصُّور، وإنْ ألقي بها، تدبُّ على الأرض لتمسحَ عنها مظاهرَ الحرب والفقر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى