مكان المنطقة المُحرّمة من جسدِك...
مُهدى إلى الكاتبة المغربية لطيفة باقة
سحَبَتِ السّتائرَ على النّوافذ؛ وقالتْ:
ـ سوف أكونُ لكَ وِطاءً وغِطاءً يا مُهْجةَ قلبي... وليشهد هذا المِصباحُ الساطِعُ نورُه على انفرادِنا الملائكي أنَّ ما أعِدُكَ به الآن؛ حقّ... وهذه الفراشاتُ الحالِمةُ، الراشفةُ - ليْلاً - رحيقَ أزهارِ حديقتي؛ تعلمُ بألوانها الزاهية أنّني لا أكذب... وذاك صدى وعدي لك، يرتدُّ إليكَ تأكيداٌ لِوعْدي... وتلكَ الأمورُ الخفيّةُ في جسدي، ترقصُ لرقصِ جسدي الشوكولاطي إليْك...
وقالتْ:
ـ يا ناسكي! يا ماسِكي !يا خُفيْقَةً في قلبي؛ أشهدُ أنْ لا أحدَ إلاّكَ أهْوى، وأشهدُ أنّني أبَحْتُ لك جسدي الكوني، عدا هذه الدائرة الصّغيرة المرسومة على مِعْصمي بالمدادِ الأحمر؛ وهي مُحرّمةٌ عليْك إلى يومٍ غير معْلوم.
قالتْ ذلك الكلامَ الرّهيب، وتعالتْ في سَماءِ ليلِنا ضحكتُها الزاهية؛ فرأيتُني على صفحاتِ أسناِنها اللؤلُئية مُتصاغِراً في عددٍ لا يُحْصى من البِلّوْرات، كما رأيتُني في واحدة، طِفلاً ضائعاً مُسْتفْهِما:
ـ أ يا الله... ما معْنى هذا المَنْع؟
ولمْ يجئْني جواب؛ فتقدّمتْ هي إلى دهْشتي، وجرّتني إليْها لِتخْمُرَ فَمي بقُبلةٍ غارقةٍ في الخمْر؛ ثمَّ جرّتني ثانيةً وعانقتْني بقوَّة، كما يُعانِقُ الممنوعُ من القهوة، زقَّ النبيذ... فأحسسْتُ بجسدي المشتعلِ يذوب في جسدِها المحموم؛ فتركتُني أفعلُ فيها فراسِخَ لمْسٍ، وعدداً لا مُتناهياً من القُبُلات... فجْأةً انتفضتْ منّي، وصرَخَتْ:
ـ قِفْ!.. ها قدْ بلغْتَ المِنْطَقةَ المُحرّمضةَ من جسدي؛ الدائرةَ الصغيرةَ المُطوّقَةَ بالأحمر.
في البدْء اعتقدْتُ أنّها تمزح، لذا مددْتُ إصْبَعي إليها، لكنَّ ألماً حادّاً تملّكني... إحْساسٌ بالعَدَم... بالحِرْمان... شيءٌ كالمَغَص... ليس في الأحْشاء؛ بَلْ في ما بينَ الحلق والقلب. بغثةً انفتَحَ أمامي "مكانُ المنْع"؛ وانتصبَتْ -كزبانية غلاظٍ شِدادٍ - سائرُ النصوص المانعة؛ طاغِياتٍ لاغِيات... ثمَّ سائرُ "الممنوعات"، تتقدّمُها السِّياجاتُ المُسوِّرة للملكيات الخاصّة، الحيطانُ السالِبةُ للكرامة، الأشواكُ الحافّةُ بالورود البرِّية، الأغلالُ المُقيِّدةُ للأيادي الكاتِبة، القنابلُ المُطفِئةُ لنور العيون، العِصِيُّ الكهربائيةُ، المَوْجاتُ المُشوّشةُ لموْجات القلب، والهراواتُ بيْضاوات بيْدَ أنْ عليْها سوادُ دمٍ فات... وخلفها، كافّةُ "القِوى المانعة"؛ الجلابيبُ المُفرغةُ في البلادة، القلنسُواتُ العتيقة، البذلاتُ المُغرضة في الفقر، البزّاتُ البوليسية، الكُتبُ "الصفراءُ" الشديدةُ الرّواج؛ يتقدّمُها كبيرُ الإرهابيين:"أهْوالُ القُبور" وفي يدِه، ذلك الإرهابي الآخر "الكبائر"...
كلُّ هذه الأشياء المُرعبةُ زحفتْ نحْوي مثنى وثُلاث ورُباع، منظَّمةً في صُفوف، وصارخةً في وجهي:
ـ الحبُّ ممنوعٌ على الشعراء... الحبُّ ممنوعٌ على الأُدباء.
"شِعارٌ بليدٌ" قلتُ في نفسي؛ فقال لي كتابٌ مُنْدَسٌّ بين جمهرة الكتُب المانعة:
ـ حُبُّكَ الشُّمولي سؤالٌ يُرْهِبُ "الفُقهاء".
ولمْ أستفقْ إلاَّ و"هي" تضمُّني من جديد، وتقول لي في فمي:
ـ ياهٍ يا "أدَمينْ"؛ ما كنتُ أعرف أنَّ حِرمانَك من قُطْرٍ صغير من جسدي، يجعلُك تغيبُ عن الوجود، وتغرَقُ في لُجِّ "الحرمان"... لعمْري هو لك... لعمْري هو لك إلى يومِ الدين...