من خلال المجموعة الشعرية «فرح يختفي في المرآة»
«فرح يختفي في المرآة» للشاعر رضوان العجرودي
الطفولة بأحلامها وتعثر الخطى وصور تنظر للحاضر باعتباره زمن واقع بين نقطتي ماض ومستقبل داخل دائرة الدّيمومة والكينونة الإنسانية، فيستلهم من أعماق الماضي أنفاسه ليستنشقها، فيغدو استردادا واسترجاعا للطفولة والحياة التي غمست مخالبها في قلب الشاعر رضوان العجرودي ليختفي الفرح في المرآة ويجلس محاطا بمكعبات الإسمنت وهو يلّم ماء الرحلة من روحه العارية، ليولد من أغصان الماضي اليابسة عود أخضر يانع اختار له من الأسماء"فرح يختفي في المرآة"الذي سكب فيه صاحبه من روحه ليضعنا في مفترق الحلم والصّحوة، وبرؤية وجودية مغايرة للعالم من خلال نصوص تعتمد القسوة في تصوير المشاعر والأحداث، لتكون عنوان أوّل مجموعة شعرية له صادرة عن دار الفردوس للنشر والتوزيع سنة 2020 والتي ضمت بين جوانحها 63 قصيدة نثرية في 103 صفحة من الحجم المتوسط.
ننطلق من عتبة الإهداء بما فيه من وعي بكلّ ما يختزل الانسان في بعده الوجودي والقيمي والأخلاقي والفكري والميتافيزيقي والسياسي ليرحل بنا الشاعر من عالم الواقع إلى الماضي، ومن عالم الخيال إلى الماضي السّحيق، إلى الواقع المعاصر الآن، فلسنا نعلم تماماً ماذا كان يعني بيلاطس بهذه الكلمات ولكن بيلاطس تكلم هنا عن الحقيقة الناصعة وإن كان يجهلها. نعم إن يسوع المسيح هو إنسان كامل. أنه إنسان فريد. إنه إنسان النبوة، إنه رجل الأوجاع والحق والنعمة ونحن نرى فرح الشاعر يختفي في المرآة.
هذه المجموعة التي وردت نصوصها متوهجة أخذت هندستها من روح رضوان العجرودي الذي يكشف من خلالها رحلته إلى المعنى، بتناسق وغايات ساهمت بدورها في تشكل الصورة من منطلق ذاتي منفتح على رؤيا كاشفت بين الواقع والخيال لتعبر عن تجربة ذاتية خاصة تنبثق من شقوق الألم والوجع، حكايات كثيرة عن الحياة وتقلباتها، عن الضياع، عن الموت والحياة، عن الركض المستمر وراء هذه الحياة التي يرغب الشاعر أن يتزوجها في نص"فرح يختفي في المرآة"(ص57).
"تزوجيني أيتها الحياة
ولو ليلة واحدة
حتى أشعر بالحب مرة قبل النهاية"
وقد عبر الشاعر عن ذلك بكثير من الإيجاز معتمدا على قوة اللغة من حيث ما تقدمه من معانٍ ورسائل في شكل لحظات مأزومة موغلة في العمق الانساني، تثير الدهشة وتطرح الأسئلة الحارقة بدت كـ"قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور...خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية"، كما عبرت عن ذلك لناقدة الفرنسية سوزان برنار في وصفها ل قصيدة النثر عموما بكل ما فيها من قلق:
"أخاطبكم الآن من الجحيم
وصلت متأخرا كعادتي لكني لم أجد أحدا
وحدي هناك، وحدي هنا
أعيش رتابة الجحيم
بطرقاته وسياراته البطيئة
بنفس السأم الذي تركته عندكم
الجحيم لا أحد يعرفني فيه"(ص53).
كما ذهب انسي الحاج إلى:"أن قصيدة النثر عمل شاعر ملعون". الملعون في جسده ووجدانه. ذلك الملعون الذي يضيق بعالم نقي. كما يمكن القول أن قصيدة النثر بالتجائها إلى أدوات النثر من سرد واستطراد ووصف، استدرجت اللغة اليومية إلى قلب الشعر، مع تركيزها على عناصر معينة، لتتحدّث عن اليومي وعن تجربة الشاعر الذاتية، وكذلك الشاعر رضوان العجرودي الذي اتخذ من الشعر مطية للتعبير عن موقف كياني من الحياة في المرحلة التي تجتازها مثل مرحلة الطفولة، فكل هذه الأحداث والجزئيات التي اهتم بها الشاعر في شعره ليست أشكالا يقتبسها الإنسان من الواقع ولكن الملفت للنظر أن هذه الأحداث هي تعبير واضح عن معاناة الشاعر في مرحلتي الطفولة والشباب وهو ما جعله يستلهم من واقعه اليومي المرير تيمات لكتابة نصوصه، يقول (ص 7):
"وضعتني أمي في"قاجو"اصفر
تحت شجرة لوز
كان الحصاد
قطعت حبل سرتي بأسنانها
كنت أقصر من سنبلة، أما الآن فأنا أطول من شجرة اللوز تلك"
معتمدا على الاشتغال المكثف على الذاكرة عبر الاستذكار باعتماد على الأفعال التي تدل على أحداث وقعت في الماضي، وتحويل المعيش المنقضي إلى مروي يكشف ملابسات الكثير من أحاسيس وذكريات ووقائع الذات الشاعرة، والتعبير عن ذلك بوعي فكري ورؤية جمالية من خلال أشكال ممارستها الإبداعية والفنية، تلقائيا ليثير بذلك خيال القارئ:
"يحمض أفلامه القديمة في رأسه مثل
من يحاصر أركان جريمة سياسية في بلد ثالث
تنويه: لمسجون بلا تهمة مثلي
وقع حذاء الذكرى مبتعدة عني أهون من صوت
صرير الأبواب تغلق وراءها"(ص61)
ومن خلال هذه الصور وهذا المشهد الذي لسنا بحاجة لتحميضه على رأي الشاعر، فالنص الشعري عموما هو نص مفتوح على دلالات متعددة، وهو ما يجعله حيويا وثريا، فليس الشعر جملا تحمل دلالات ثابتة بل دلالات متغيرة.
كما نلاحظ التأثير السحري والبصري، وهو ما يفضح افتعال الانفصام بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة التي يصفها، فالكتابة عنده رحلة تطواف بالمعاني، والكتابة عنده أشبه بسرقة بنك عليك أن تدخلها متخفيا كما عبر عن ذلك، والتي تحيل إلى المعاناة والتجربة الحقيقية في الحياة وفي الكتابة، ويظهر ذلك من خلال الوصف الشعري لما يعيشه من وقائع ولما يحيط به من مشاهد فهو لا يحاكي واقعا عايشه، بل يعيد صياغته بطريقة غير مباشرة، فالشاعر يأخذ من الواقع المادة لكنه يعالجها ويصوغها بطريقة توائم فكره ورؤيته، ويظهر ذلك في قوله: (ص 78):
"صاروا يبيعون لنا الأحلام
كانت مجانية
ثم وجبة سريعة ملفوفة في ورق الجرائد
الآن صارت في السوق السوداء
بنفس السعر تشتري حلما أو رشاش كلاشنكوف.
إذا لم تمت في الحلم
ستكون هدفا سهلا منتجا للشفقة"
وكذلك في قوله: (ص84):
"خذ قلبك إلى البحر
شقه
أطعمه الملح
اربطه في صنارة وألق به بعيدا
دعه يرتعش لمرة ولو بقضمة سمكة لا تعرفك
لو مرة تصادف غريبة وترتعش من أجلها
من سبقك إلى البحر كانوا"حراقة"
لم يرتعش أحد من أجلهم
سوى جهاز القلب لأمهاتهم في المستشفيات"
هو نقد للواقع ورفض لسلطته فتتحول الكتابة عن الخارجي السائد إلى الكتابة عن الهامش سعيا لتغيير ملامح الواقع، أو التعبير عن المسكوت عنه متجاوزا اللغة إلى الكلام، وعابرا من الكلام العادي إلى الكلام غير المألوف، فنراه تارة يهتم بالكلي انطلاقا من الجزئي وطورا من الكلي إلى الجزئي وقد ركز على حالات وجودية يومية مسكوت عنها"سأصير رشوة سهلة لتخريب هذا الوطن من الداخل"(ص50)، كما يستمر في تعرية الزيف ونقد الأنظمة وذلك في قوله: (ص 78):
"صاروا يبيعون لنا الأحلام
كانت مجانية
ثم وجبة سريعة ملفوفة في ورق الجرائد
الآن صارت في السوق السوداء"
وفي خضم كل هذا ومن خلال قراءتنا للمجموعة لاحظنا وجود ظاهرة التكرار لعدد من الحروف والتي تعد بارزة وجلية في النصوص، والتي يمكن أن نربطها بصاحب النص، الذي يحاول تأكيد فكرة أو التعبير عن شعور يسيطر على خياله، فقد تكررت حروف بعينها في الكلام مما أعطت ألفاظ وردت فيها حروف مثل (حرفي السين والشين) والتي تكشف عن حالة الشاعر النفسية، واستناداً الى ما سبق نجد ان الحصة الاكبر تعود لصوت السين الذي تكرر (435 مرة) في كامل المجموعة، وهو حرف مموسق بجرس إيقاعي ترتاح له الأذن. وما يحدثه من دلالة ضمن السياق في النص الواحد، ليتجلى تأثير الحرف الموسيقي ويحقق أثرا واضحا في ذهن المتلقي، يجعله متهيئا للدخول إلى عمق النص الشعري، كما يمتاز هذا الصوت بصفير عال يوحي بنفس قلقة، ويدل على الحرقة والانحدار والعلو وينسجم هذا مع ما يحيط بالشاعر من قلق وظلم واستبداد.
ويليه حرف الشين حيث تكرر (224 مرة) وهو من الحروف المهموسة أيضا، وهو حرف لين في مخرجه ويجري مع النفس، ومع هذا فهو دون المهجور في رفع الصوت.
ليطفو كقبس في ظلمات المعاني والألفاظ التي غطت ستار الأحلام التي زرعت في هذه المجموعة فتحولت إلى قلق نفسي وتمرد على قيود الكتابة الشعرية، حيث التشكي وعدم التناغم مع الواقعي الملموس، والإحساس بالألم والخيبة ليولد من رحم المعاناة"فرح يختفي في المرآة"وهو يرسم أجنحة تخليدا للفرحة التي يبحث عنها في هذا الوطن. فالحلم صار ملاذا للعيش والماضي صار مطاردا من الشاعر لاختيار الحلم، حلم الوصول إلى المعنى بدحض هذا العالم المزيف بفضح تفاصيله المخفية.
وفي الختام يمكن القول إن رؤى الشاعر رضوان العجرودي وأنفاسه تترجم فلسفته الشعرية التي يسعى من خلها لتحرير المعنى وتعميم أضواء الحقيقة المخفية ويفضح خصوصية الكتابة، فالمبدع لا يكف عن مواجهة الصراعات، وما تثيره في نفسه من تساؤلات شتى، فالبيئة لا يمكن مهما فعلنا أن نفصلها أبدا عن المجتمع لأنها مرتبطة به ارتباطا وثيقا بتفاصيل حياة الشاعر وما يحيط به.