الجمعة ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم محمد الإحسايني

من قصائد سأم باريس

ش. بودلير

إلى جوزيف ستيفنز

لم أخجل أبداً؛ ولو أمام ُكتاب عصري الشباب ‘ من تحمسي لـ " كونت بوفون "؛ بيد أن روح هذا الرسام للطبيعة ، ليست هي التي سأدعوها اليوم لتساعدني ،
كلا . أود أن أتوجه بكل طواعية الى "ستيرن" ، فأقول له : "انزل من السماء او إصعَدْ إليّ في " مقامات الأبرار " ، لتُلهمني إكراماً للكلاب الطيبة، والكلاب البئيسة ، أنشودةً جديرة ًبك ، يامضحكاً رقيق العاطفة ، ويامضحكاً لامثيل له !
عدْ إلى هذا الحمار الذائع الصيت الذي يرافقك دائما عبر ذاكرة الأجيال القادمة ، عد إليه منفرج الساقين راكباً؛ و خصوصاً أن ذلك الحمار ، لاينسى ان يحمل قرص حلواه الخالدة المعلقة بين شدقيه بمهارة .
ياربة الإبداع الأكاديمية المتخلفة ! ليس لديّ ما أصنع بهذه العجوز المتزمتة.
أتضرع إلى ربة الشعر الأليفة ، المدينية القوية ، كي تساعدني على مدح الكلاب الطيبة ، والكلاب البئيسة ، والكلاب الملوثة ، تلك الكلاب التي يُفردها كل واحد من بني البشر ، إفر اد الكائن الموبوء والمقمل، باستثناء الإنسان الفقير ؛ فهي من شركائه، والشاعر ؛ فهو
ينظر إليها بعين أخوية .
أٍف من الكلب المتجامل ، من ذلك المغرور الذي يمشي على أربع، ومن ذلك الكلب الدانماركي ، ومن الكلب كينغ تشارلز، والكلب كارلان ، أو غرودان المفتون هو الآخر بنفسه ، فيثوثب بلا احتياط ، على ساقي ركبتي الزائر ، كأنه على يقين ، من إعجاب ذلك الزائر به ، ،صاخبٌ كأنه طفل، غبيّ كأنه غادة مُسْتـهتَرة، شكِسٌ أحياناًووقِح كأنه خادم ! أُفٍّ من هذه الثعابين الخبيثة ، خصوصاًما يمشي منها على أربع ، والمرتعدة العاطلة ، وما يسمى بكلبات سلوقية ، التي لايوجد في فنطاسها المستدق ، حتى مايكفي من الشم لمتابعة أثر صديق ، ولا في رأسها المسطح ، مايكفي من الفطنة لممارسة لعبة "دومينو"
فإلى مأوى الكلاب المفجوعة ، بكل هذه الكلاب المتعبة الطفيلية! ولترجع الكلاب إلى دارها الحريريةالمفروشة بالسجاد ! أنا أمدح الكلب الملوث ، والكلب الذي غريزته مثل غريزة الإنسان البئيس ، والبوهيمي والبهلوان ، فهو تحرضه الضرورة على نحو رائع ، تلك الأم الطيبة بهذا القدر، مولاة الفِطَن الحقيقية!
أثني على الكلاب المفجوعة ، سواء تلك الكلاب التي تتيه بمفردها ، في مجاري سيول التربة المنعرجة بالمدن الهائلة ، أوتلك الكلاب التي قالت للإنسان المنبوذ ، بعيون غامزة وخبيثة : "خذني معك ، فلربما من بؤسينا الاثنين ، نخلق نوعاً من السعادة !"
وقديماً كان " ناسطورروكبلان "يقول في رواية خالدة ، نسيَها بلا ريب ، فأنا وحدي ، و" سانت بوف"ربما مازلنا نتذكرها اليوم :" إلى أين تذهب الكلاب ؟ " .
قولوا لي أيها البشر القليلو الحذر ،إلى أين تذهب الكلاب ؟

إلى موعد شؤونها ، وموعد ممارسة حبها .تذهب وتجيئ ، عبر الضباب ، وعبر الجليد ، وعبر البراز، وعبر القيظ اللا سع ، وتحت المطرالوابل ‘تنطط ، وتمر تحت العربات، ُتهيّجها البراغيث ،مثلَنا ، وتبحث عن عيشها أو تجري إلى شهواتها .ومنها مايرقد في إحدى .
الخِرَب، بأرباض المدينة ، فيأتي كل يوم ، في الساعة المحددة ، ليطلب الهبة على أعتاب باب مطبخ القصــر
الملكي ؛ وتهرع كلاب أخرى جماعاتٍ، أكثرَمن خمسة فراسخ ،من أجل اقتسام الأكل الذي تهيئه لها تصدّ قاً، بعض النساء الستينيات اللائي لم يمسسهن بشر، واللائي قلبُهن خال من أغراض الدنيا ، ومكرس للحيوان ، ذلك أن البشرالأغبياء لايرغبون في تلك الحيوانات ... وكلاب .
أخرى ، كأنها عبيد آبقون ، ُجنتْ حباً ، تهاجرلبضعة أيام ، مفاطعتها الإقليمية للقدوم إلى المدينة ، والقفز خلال ساعة ، على كلبة جميلة ، مهملة إهمالأً قليلاً في زينتها ، لكنها مزهوة وشاكرة للجميل .
وتلك الكلاب ، جميعها طبق الأصل تماماً ، بدون بطاقة ، ولا ملاحظات على الهوية ، ولا حافظات أوراق .
.
أتعرفون " بلجيكا "المتكاسلة ،أوَ تُعجَبون مثلي بجميع هذه الكلاب القوية المشد ودة إلى عربة الجزار ، وعربة اللّبانة اوعربة الفرّان ،
والشاهدة من خلال نباحاتها الظافرة ، على متعة الا شتهاء المتغطرس ، الذي تجرب أن تنافس به الجياد ؟

فهاهما اثنان منها ينتميان إلى طبقة لاتزال متمدنة ! اسمحوا لي أن أُدخلكم إلى غرفة المهرج الغائب . هناك سريرمن خشب مطليّ بلا ستارة، وبطانيات منسحبة على الأرض ، وملطخة بدم البق، وكرسيان من التبن ، ومقلاة من حديد منصهر ، وأداة أو أداتان موسيقيتان معطلتان . فيا له من أثاث كئيب! لكن انظروا ، أرجوكم ، إلى ذينك الشخصين الذكيين اللابسَيْن ثياباً مفتقة وفاخرة في آ ن ، معتمرين رأسيهما بالقبعات كشعراء "تروبادور "، أو كجنود ، يحرسون بانتباه السحرةِ ، " العملَ الإبداعي الغُفل من الاسم " ، الذي يُطبَخ على مِقلاة موقدة ، والذي تنتصب في وسطه ملعقة طويلة مغروسة كإحدى هذه السواري الهوائية التي تؤذن بأن البناء قد انتهى .
أوَليس صحيحاً أن هؤلا ءالممثلين المتحمسين لاينطلقون دون كونهم قد أثقلوا معد تهم بطعام فعال وقوي؟ أوَلا تسمحون بشيئ من الشبقية لهؤلاء الرجال المساكين الذين إنّ عليهم أن يجابهوا كل يوم ، عدم مبالاة الجمهور وجور مدير يتعود على الحصة الكبرى فيتناول لوحده من الطعام ، حصةَ ما يتناوله أربعة ممثلين ؟

كم من مرة تأملتُ مبتسماً وملاطفاً، هؤلاء الفلاسفة جميعَهمَْ ذوي أربع قوائم ، الأرقاءالمجاملين المطيعين والأوفياء ،الذين قد يستطيع المعجم الجمهوري أيضاً أن يصفهم ب "شبه رسميين "، لكانت الجمهورية، مشغولة جداً بـ "سعادة البشر" ، وكان لها الوقت الكافي لتدبّر "شرف الكلاب ".
وكم من مرة اعتقدتُ أنه ربما يوجد هناك ، مكان ما ،[ من يدري ، بعد كل ماجرى ] ، لمكافأة هذا القدر من
الشجاعة ، وهذا القدر من الصبر والكد ، بفردوس خاص بالكلاب الطيبة ، والكلاب البئيسة ، والكلاب الملوثةوالمهجورة . ويؤكد " سويدنبورغ " يقيناً أنه يوجد من ذلك ، فردوس واحد للأ تراك وواحد للهولنديين !

كانت القصائد الرعوية للشاعر اللا تيني "فيرجيل " ،ورعويات " تيوكريت " اليوناني ، تنتظر مكانة مرموقة ، وناياً من أمهر الصناع ،أوماعزةً حلوباً ذات ضرع منتفخ ، ثمناً لأنا شيدهما المتعاقبة.فالشاعر الذي مدح الكلاب البئيسة ، قد تلقى كمكافأة له ، صدرية رائعة ذات لون فاخر وباهت في أن ، تذكرنا بشموس الخريف ، وبجمال النساء الناضجات ومواسم " صيف سان مارتان ".
لا أحد من أولئك الذين كانوا حاضرين في نزل شارع " فيللا هيرموزا "سينسى ، مهما كان نزِقاً ، الرسام وقد انسلخ من صدريته لصالح الشاعر ، مادام قد فهم جيداً أنه كان طيباً ومستقيماً في مدحه الكلاب البئيسة .
وكطاغية إيطالي عجيب ، فإن اللحظة المستحبة كانت توفر للشاعر الرباني " أرتيان " ، إما خنجراً مرصعاً بالأحجار الكريمة ، وإما معطف المحكمة ، وذلك مبادلةً بقصيدة نفيسة أوبقصيدة تهكمية .
وكلما ارتدى الشاعر صدرية الرسام ، إلا وُيجَبر أن يفكر في الكلاب الفلاسفة ، وفي مواسم صيف "سان مارتان " وجمال النساء الناضجات جداً.

ش. بودلير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى