موسم الهجرة إلى الشمال
لم تحظ رواية عربية بانتشار واسع مثلما حظيت به رواية موسم الهجرة إلى الشمال؛ ففي سنة 2001 اعتبرت أكاديمية الأدب العربي بدمشق رواية موسم الهجرة إلى الشمال بأنها أهم رواية عربية في القرن العشرين. كما وقع اختيارها في سنة 2002 ضمن أفضل مئة رواية كتبت في التاريخ الإنساني.
صارت موسم الهجرة إلى الشمال وحدها اسما دالا على الطيب صالح وصارت بطاقة هوية ثانية للطيب صالح غطت على أعماله الأخرى السابقة عليها واللاحقة لها.
ظلت منذ ظهورها تكسب صاحبها الطيب صالح شهرة عالمية. بل تحولت إلى إبدال جمالي لأعمال روائية لاحقة.
وهذه المكانة الاعتبارية لها ما يبررها. وقد أمكنها ذلك من خلال عدة سمات مائزة لها وهي:
– قلب ثنائية الأنا والغير: لم تخرج رواية موسم الهجرة إلى الشمال عن الملمح التيمي البارز الذي ميز الرواية العربية منذ ظهورها وهو الثنائية الحضارية أو العلاقة بين الأنا والآخر. لكنها تجاوزتها على مستوى التصور وحققت انقلابا على الصورة التي كانت سائدة وهي تمجيد الذات في علاقتها بالغرب، وذلك بزعزعة ثقة الأنا بنفسها ومركزيتها والانتقال الى نقد الذات لتصير مجرد أكذوبة على حد تعبير الرواية.
– سحر السرد وجاذبيته، يستطيع السرد المشوب بسحرية لافتة شد القارئ والقبض عليه، ويجعله يقلب صفحاتها ويعقب تفاصيلها، وينشد إلى عوالمها. على الرغم من رهان السرد على تكسير الخطية وتداخل الأزمنة.
– إبدال إبداعي: كانت وراء ظهور الكثير من الأعمال الروائية التي حاولت السير على منوالها ومحاكاتها أو معارضتها كما هي الحال في رواية البعيدون لبهاء الطود على مستوى البناء العام للرواية ومسار السرد وانتقالاته عبر الأمكنة والأزمنة وكذلك ثنائية الأنا والغير والنهاية الغامضة للشخصية المركزية. وهناك أعمال روائية حاولت معارضتها بالقلب كموسم العودة إلى الجنوب لحميد لشهب.
– تلق واسع: استطاع نص موسم الهجرة إلى الشمال أن يشد فئات واسعة من القراء، باختلاف مستوياتهم على امتداد الزمن، ويفسر ذلك كثرة الطبعات التي حظيت بها والتي تؤكد الإقبال المنقطع النظير الذي حظيت به بين أوساط كبيرة من القراء بطبقاتهم المختلفة.
فقد حظيت وما تزال بتلق منقطع النظير(نقديا وأكاديميا) بآليات وخلفيات معرفية ومفاهيم إجرائية متنوعة تغطي زمنيا تاريخ النقد العربي المعاصر في كل مراحله من النقد الانطباعي إلى الواقعي فالماركسي فالاجتماعي فالنفسي، إلى النقد البنيوي وما بعد البنيوي وخوصا مدرسة التلقي.. إذا خلّفت وخلقت كمّا هائلا من الأعمال النقدية والدراسات الأكاديمية، ناهيك عن المقالات المتفرقة. ومع ذلك فإن هذه القراءات المتعددة لم تستنفد كل إمكانات النص.
– السبق إلى تجديد الكتابة الروائية، وإعادة النظر في الشكل الروائي قبل التحول الذي حصل بعد الهزيمة الحضارية لسنة 1967 والتي يجمع كثير من مؤرخي الرواية العربية على أن الهزيمة زعزعت الكثير من القيم والمعتقدات بما فيها أسس الكتابة الروائية بتكسير خطية السرد وتداخل الأزمنة وإعادة النظر في الذات في توترها العميق مع ذاتها ومع الآخر الغربي لتصير الذات موضع مساءلة وتشكيك.
– الريادة عربيا: استطاع الطيب صالح بعمله الروائي موسم الهجرة إلى الشمال ان يحتل مكانة متميزة بين الروائيين العرب واستطاع أن يخلخل المركزية الروائية التي تكرست مع نجيب محفوظ عبر نصوصه المتواصلة والذي نال شهرته عبر نصوصه الكثيرة وليس بنص واحد كما هي حال الطيب صالح .
– هوية ثانية للطيب صالح: صارت موسم الهجرة إلى الشمال هي الطيب صالح وهذا الأخير هو موسم الهجرة، فأصبح كلاهما علامة هوية على الآخر. وهو ما جنى نسبيا على أعماله الأخرى بندر شاه وعُرس الزين ودومة ود حاد على متسوى التلقي والاهتمام النقدي والدراسات الأدبية، والتي لا تقل أصالة وإبداعا عن موسم الهجرة إلى الشمال، تلك هي خصوصية النصوص الكبيرة التي تولد كبيرة وتظل كبيرة إلى الأبد.
– الكونية الجمالية: رواية موسم الهجرة إلى الشمال نموذج للكونية الجمالية والإبداعية للنص الأدبي الذي سيظل حيا وخصبا وكامنا بالإمكانات الإبداعية، يستهوي كل الحساسيات والاتجاهات النقدية ويجعلها تعيد النظر في أدواتها أو تعديدلها أو البحث عن براديغمات جديدة لمقاربتها. وهذا يؤكد الإجماع الذي حظيت به وما تزال من كل الاتجاهات والتصورات النظرية التي خضعت لتأثيرها وجاذبيتها.
إذن هناك خلخلة فكرية تمارسها رواية موسم الهجرة إلى الشمال على مستوى تيمتها وقضاياها الفكرية، إذ نقلت الرواية العربية من تمجيد الذات إلى نقدها، وتأكيد انها مجرد أكذوبة، بالإضافة إلى الخلخلة الجمالية على مستوى البناء السردي بتكسير خطية السرد وتداخل الأزمنة مع الابقاء على جاذبية السرد المبني بحرفية عالية. التي جعلت النص مفتوحا أمام عدة قراءات متعددة، كما صارت إبدالا إبداعيا لدى كثير من الروائيين، وأيضا بطاقة هوية لصاحبها وصنعت له المجد الأدبي.