أسفار موغلة في الخيال
ضمن منشورات نادي القلم المغربي بالدار البيضاء (2012) وبإخراج فني جميل، صدر كتاب سردي جديد للكاتب الروائي المغربي شعيب حليفي، وقد اختار له كعنوان: كتاب الأيام، أسفار لا تخشى الخيال، والذي يقع في 209 صفحة، وهو كتاب ينضاف إلى منجزه السردي الذي بلغ ست روايات حتى الآن، وهي (مساء الشوق [1992]، زمن الشاوية [1994]، ورائحة الجنة [1996]، مجازفات البيزنطي [2006]، أنا أيضاً [2010] ولا أحد يستطيع القفز فوق ظله [2011].) ويحتوي هذا الكتاب على ثمانية نصوص رحلية كانت ثمرة أسفار قام بها الكاتب شعيب حليفي، في إطار التزاماته الأكاديمية والعلمية، إلى عدة مدن عربية وهي: طرابلس والقاهرة والرقة والرياض والدوحة وقرطاج، تمت على فترات متقاربة نسبياً، ما بين سنتي 2009 و20011.
يأخذنا شعيب حليفي في كتابه الرحلي الجديد إلى أسفار يتلون فيها فعل السفر بصبغة الخيال والتخييل إذ يتم فيها تذويب الحدود بينهما، وتبين لنا قراءته كيف يستطيع شعيب حليفي الكاتب المتمرس تحويل سفره إلى فعل تخييلي يتداخل فيه السفر والكتابة، حين يجعل من سفره فرصة للكتابة وموحياً بها ومحفزاً عليها وداعياً إليها، ليمنحنا كتابة تتداخل وتتمازج فيها حالات المسافر مع حالات الكاتب في الآن ذاته، كتابة مشدودة إلى وجدان الكاتب الفردي والجمعي، كتابة متحررة من أي التزام فني أو جمالي، كتابة يسمح سياقها الإبداعي بالحرية فتتسرب إليها نصوص كانت نائمة في ذاكرة الكاتب، إذ تجد الفرصة لتتسرب بين سرد لا ينشغل البتة بتفاصيل ومحطات السفر بقدر ما يجعل من السفر وأماكنه وأحداثه فرصة لانطلاق الذات في تعدد حالاتها في رحابة التخييل، يقول: "وفي كل ذلك، أجنحُ إلى حكي حكايات وفضاءات بأبعاد رمزية موازية ، أُرَوِّضُ بها الفراغ الممكن والصمت اللاممكن، حتى أستطيع قول ما لم أقله، والكلام في ما لم أتكلم فيه. أجمعه لأخلطه كما أشاء ثم أذروه في نفسي منتظرا طلوعه كلمات حية تمشي أمامي." (ص7) .
ينطلق الكاتب من تصور جمالي يعتبر السفر بمثابة انفجار فكري وعاطفي، على حد قول الكاتب والرحالة الكولومبي لويس كاردوزا. يقول شعيب حليفي في مقدمه كتابه التي تعتبر كبيان لهذا الشكل الجديد من كتابة السفر الذي يحاول تدشينه كتاب الأيام: "كثيراً ما تساءلتُ عمن أكون خلف هذا النص .. وقبله من أكون في تلك الرحلات؟ المسافر الملتقطُ لكل مدهش يملأُ به جِرابه أم الكاتب الذي يُجرِّبُ الوقوف على حافَّة العين المفتوحة؟ يُطرِّزُ، على مآقيها، حريته بمداد التخييل .. بحثا عن شكل جديد في قول السرد، فأكتبُ رواية رحلية أو رحلات روائية.. تمنحني لحظات أكون فيها فارسا في سياق البحث عن مخازن بعيدة أُخبئُ فيها شوقي للكتابة والتخييل والتأويل، وللحافاَّت الخطرة للنصوص النائمة التي تستفيق بداخلي، وأنا هناك في حالات السفر، فتجيءُ روايات قصيرة، لم أفهم في البداية علاقتها بالمكان والزمان. وكلما بدت غارقة في الخيال أحسستُ أنها الأقرب إلى حقيقة الرحلة." (ص.8.)
ومما يؤكد أن الكتابة تتمرد على السفر هو أن ما كتبه شعيب حليفي هو إمكانات الكتابة، وفرصة لتسريب نصوص والسكوت عن نصوص أخرى تبقى عالقة بوجدانه، يقول: "لو قيض لي إعادة كتابة كل رحلة رحلة لدونتُ نصوصاً أخرى ضاعت ثم عادت، أحس بها راقدة في مخابئ من روح وتراب، مثل بذرة في وجداني."(ص.8.) وذلك انسجاماً مع كون الكتابة السردية لدى شعيب حليفي تروم، دوماً، معانقة الوجدان الإنساني في عمقه التاريخي والثقافي.
كما يتخذ شعيب حليفي الكتابة فرصة للسخرية من العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية التي يثيرها المجتمع المغربي، لكن بطريقة مضمرة يسمح بها التخييل الذي يجنح بالذات في تحليق حر ويحاول الانفلات بها من قيود الواقع ويسمح بالسفر في أعماق الذات واستكناه أغوارها هروباً من منطق الراهن السخيف الموسوم بكثير من الخيبات والإحباطات المتواصلة.
عموماً، إن النصوص التي يحتويها هذا العمل السردي تسمح لنا بإطلالة على كيف تتحول تجربة السفر بمتعتها ومحنتها إلى كتابة تخييلية، تعطي مساحة أكبر للتخييل، عبر الغوص في الذات وأحلامها وهواجسها وما تختزنه ذاكرتها وتوقظ العديد من الحكايات النائمة بشخوصها الطريفة والمنسية أحيانا وتفسح لها المجال لتفصح عن ذاتها وعن مكانتها وأماكنها المهملة التي سقطت سهوا من كتابات المؤرخين لتعيد لها الاعتبار وتعترف بجميلها ولترسخها في الذاكرة ولتفتح آفاقاً جديدة للسرد الرحلي والروائي معاً كل ذلك في إطار وعي بالكتابة السردية يستوعب طموحات المعاني وسط تقلبات الخيال وتحولات الواقع المتسارعة.