نحن عدنا... أين أنتم
هنا غزة
هنا غزة تحاصركم....هل حاصرتم أنفسكم مرة، هل تذوقتم مرّ الموت مرة...!
هنا غزة فتفضلوا إلى وليمة الموت اليومي البلدي، أهلا وسهلا بكم ويا مرحبا....
جثث مع رائحة البارود، بنكهة الحقد والطاغوت... وأطفال مشوية مع فلفل الصمت والخنوع، ونساء يبكين البحر... لكنّ البحر لم يأت بما يحلمن...
هذه غزة... (غ ز ة)-( ة ز غ)- (ة غ ز) ..... صورة مشرقة لا موت لا حصار، ولا أطفال تبكي جوعا... بيوت آمنة ونور وكهرباء...
هنا غزة... تصدر للعالم كله النفط، وبأسعار زهيدة، الفرصة محدودة فسارعوا بالشراء، لأن العروضات محدودة.
هنا غزة… حياة ترقص وتغني، وأطفال يأتون كل صباح بأغاني العيد، يفترشون الألحان، ويغنون أغنية النصر... صباحهم ورد وريحان، ومساؤهم هناء وريان...
هل فكرتم مرة بعيون تموت في اليوم الف مرة... وهل تذكرتم وأنتم تطفئون القناديل بأن الحياة هناك تحتاج إلى زيت وفتيلا... آلم تفكروا بقناديلهم المكسورة، وبعيونهم التي تبكي ذهولا.
هنا غزة.... مشهد متكرر
أمي تسبقني إلى موتي... أنظر في عينيها... لا أستطيع إسعافها... تصرخ، تبكي... يا الله ساعدنا، نلتف حولها لعلنا نعطيها القوة، ولكنها تذهب وتتركنا وحدنا...
هذا الصباح كان يلعب قربي، يقول لي أمي متى تنتهي الحرب؟ أنا خائف، لماذا الدنيا تلمع ليلا؟ هل جاءت الكهرباء؟ لماذا هي مرعبة... وقبل الظهر يسرقوك مني.. لم تكمل العامين يا عمري!!!
هنا غزة.....
وانتهت الحرب....
ماذا بعد الحرب.....؟
نحن عدنا... أين أنتم؟
نظرت حولي فلم أجده... هنا كان يجلس قربي في المقعد الأمامي، أدرت رأسي للخلف أبحث عن محمد... مقعده أيضا خال... انتظرت من يكلمني، لكن " كلنا" كان يبحث... هنا كانوا... هنا جلسوا... هنا لعبوا... وهنا .... ومن هنا في آن معاً ذهبوا...
محمد، أحمد، عاهد، وعصام... عدنا للمدرسة، ولكن أين أنتم...! بلت الدموع المقاعد الخشبية، كيف تتركوننا وحدنا.. وحدنا...
في ذلك اليوم كان يفوح عطرك أحمد... وعندما سألتك عنه قلت هدية من والدك بمناسبة ذكرى مولدك ... هل أتممت العاشرة يا صديقي أم أن الرصاص لم يمهلك... كي نقل لك: كل عام وأنت بخير..!
صديقي عاهد... يا أيها القبطان... غزة بخير وبحرها الذي كنت تعشق بخير، تحاصره الالاف الجثث المنتشلة من تحت الركام، لن تصدق إن قلت لك... حتى مدرستنا لم تسلم من الموت... والمدرسة الإعدادية التي كنت تحلم أن تنتقل إليها دمروها... لم يبق منها لوح خشبي.
استاذي الفاضل... أن آسف على كل ما فعلته بك... لطالما قلت علمك سلاحك ، وسلاحك خلاصك.. فلم أكن لأصدقك حينها... الآن وأنت تبعد عني الآف الخطوات... أحنو من مقعدك في الصف، أشتم رائحة الطبشور التي تعبق في صدري... كم أنا مشتاق لها! وأقول لك علمي سلاحي وسلاحي خلاصي... ولكنهم حاولوا تدمير هذا السلاح... هل تصدق حتى أقلام الرصاص لم تسلم منهم... نريد أقلام رصاص جديدة ... ورصاصها أقلام...ألم تشجعنا على العلم...! ألم يكون علمنا سلاحنا... وسلاحنا خلاصنا... بل هو رصاصنا...!
هنا في الملعب... كنت أرمي لك الكرة... وكنت هدافا رائعا... كما كان الصاروخ هدافا ماهرا في إصابتك... أحمد كنت دائما تقول سأصبح في يوم من الأيام أشهر لاعب كرة قدم في العالم... وستراني يا صديقي عبر كل الفضائيات... وسيمر عبر شريط الأخبار" أحمد يحطم الرقم القياسي في تسجيل الأهداف... ويحمل لقب هدّاف العالم...." نعم يا أحمد أنت أشهر لاعب للعام 2009 دون أن تعلم، فالفضائيات كلها نقلت صورتك... فقدمك التي كانت تحصد الأهداف حصدتها الصواريخ الفسفورية، وشريط الأخبار أعلن عن موتك... عفوا عن شهرتك ... شهادتك التي فاقت شهرة رونالدو .. وبيكهام....
جهاد هل حركت ريشتك قبل أن تقول الوداع... وهل ودعت جدتك التي اهتمت بك بعد استشهاد والديك ... هل حمّلتك السلام لهما...؟! جهاد هل رسمت جداريتك الأخيرة ووقعتها باسم والديك....آسف يا صديقي أن أخبرك جداريتك قصفتها الآباتشي وألوانك لم يبق منها إلآ اللون الأحمر الذي غطّى سماء غزة...
أصدقائي اليوم... أقف قرب نافذة صفنا وأنظر نحو غزة... بالرغم من الحصار كانت جميلة وفيها حياة وأطفال يلعبون في الشوارع... الآن لم يعد فيها لا شوارع ولا حياة... نسيت أن أخبركم عزة تلك الفتاة الصغيرة الجميلة التي كانت تمر بقربنا ونحن نغادر المدرسة... رأيتها جثة ممددة عبر فضائيات العالم كله... كنت يا حسام تقول عندما أكبر سأخطب عزة، كنا نسخر منك... نمسك بحقيبتك نتركك ونركض خلف أحلامنا... أتعرف.... عزة نالها نفس الصاروخ الذي حطّم قلبك يا صديقي؟!
محمد، أحمد، عاهد، وحسام... عدنا للمدرسة ويا ليتنا ما عدنا... هل هكذا تكون الحروب بدماء أصدقائي الأطفال!!!!!!!
زملائي، وأصدقائي... استبشرت خيرا بانتصارنا على العدوان... ولكني بكيت عندما رأيت الوطن مقسما بين حروف صغيرة مبعثرة... أحاول جمعها، تقترب من بعضها ولكنها تنفر من بعضها البعض... أنتم الآن في دنيا الحق... ادعو الله لأحرفنا الممزقة أن تجتمع لآن فلسطين هي الجذور، وما عداها سيمر عبر التاريخ فقاعات ورذاذ... عدنا يا أجمل الأصدقاء... عدنا ويا ليتنا ما عدنا.. عدنا... فأين أنتم وأين ضمير العالم الأبكم.....؟ّ