نحو حوار أديان متحضر
علاقة الانسان بالله سبحانه وتعالى علاقة موغلة في القدم مذ وجد الانسان على هذه الأرض، وهي العلاقة الأكثر قرباً والتباساً في آن، فالعالم الإلهي السماوي مغاير تماماً للعالم البشري الأرضي (ليس كمثله شيء)، ومع ذلك يصر الانسان على فهم هذا العالم الإلهي المتعالي، محاولاً تصوره ليفهمه وبالتالي ليتعامل معه، ولهذا اختلفت المفاهيم البشرية للعالم الالهي باختلاف ثقافات البشر. وكلما اعتقد البشر أنهم اقتربوا من سبر كنه هذا العالم المتعالي كلما "انزلق" هذا العالم بعيداً عن قدرات البشر، وكأنه يأبى إلا أن يكون متعالياً في عليائه عصياً على الادراك البشري.
لا شك أن العقل البشري يعمل بنظام الرموز والصور ليقبض على العالم المحيط به، وهو بهذا إنما يرسم أنظمة من المحاكاة ليفهم الأشياء والظواهر على اختلافها. إلا أن نظام المحاكاة لا يعكس بالضرورة الحقيقة المطلقة المتأصلة في الأشياء والظواهر وإنما يعكس تصورنا (او مفهومنا) نحن البشر عن الأشياء والظواهر. فنموذج الذرّة مثلاً الذي ندرسه في كتب العلوم لا يعكس الحقيقة المطلقة للذرة كما هي في ذاتها، وإنما انطباعنا عنها ومفهومنا لها. وبناءً على هذه الانطباعات والمفاهيم نتعامل مع الاشياء والظواهر. وعالم الألوهة ليس استثناءً، فقد اعتمد العقل البشري على أنظمة الرموز والصور والمحاكاة لتحديد انطباع بشري ما (او مفهوم ما) لعالم الألوهة. وبما أن طبيعة الرموز والصور ومعانيها تختلف من ثقافة الى أخرى فإن نظام المحاكاة يختلف بالضرورة، الأمر الذي ينعكس على مفهوم هذه الثقافة أو تلك للألوهة.
في البدء كان الله مُفارقاً ومتعالياً في عليائه ولا يتدخل في حياة البشر. هذه الصفة الملازمة لمفهوم الألوهة في الشرق الاوسط القديم انعكست على اللغة بما هي منظومة من الرموز، فأعطى الكنعانيون الله اسم "ايل" (= عالي). إلا أن هذا التعالي وهذه المفارقة أفقدت الانسان الكنعاني الشعور بالأمان، فوجد في تجليات ايل وتخلله في الكون بديلاً للتواصل معه والتقرب منه، فكان "بعل" (= المطر) ابن الإله ايل رمزياً صورياً، وكأن بعل هو ايل حين يخرج عن ذاته ويلتقت الى الكون. هذا النظام من المحاكاة كان يليق بالحضارة الكنعانية الزراعية المعنية بالخصب بالدرجة الأولى، فظهر نظام الثالوث الكنعاني الزراعي المتمثل بإيل (إله السماء العالي) وبعل (تجلي ايل في الطبيعة) وعشيرة (الارض المعطاء). لاحقاً، ظهر الإله ايل الكنعاني لإبراهيم عليه السلام، فنزل ايل من عليائه ليصبح صديقاً للبشر المؤمنين به (حسب سفر التكوين)، الأمر الذي نفى الحاجة الى بعل الذي غاب نهائياً. إلا أن هذا الاله ايل "المتواضع" سرعان ما غيّر اسمه ليصبح "يهوة" حين ظهر للنبي موسى عليه السلام في برية سيناء (كما في سفر الخروج)، وتحول الى إله رعوي لا علاقة له بالخصب الزراعي بقدر ما له علاقة بالعصبية القبلية الرعوية، فأصبح إله قبيلة بني اسرائيل، فاختاروه إلهاً واختارهم شعباً كعادة القبائل البدوية. وقادهم في حروبهم الدامية مع القبائل الأخرى، وأصبح إلهاً عسكرياً دموياً (رب الجنود). أما علاقته الحميمة مع بني اسرائيل فقد انعكست في اللغة على شكل مفردات مثل "ابن الله" و"ابناء الله" بالمعنى المجازي. ولم يدم الأمر طويلاً، فمع السبي البابلي قام أنبياء من بني اسرائيل مثل اشعيا بإعادة الله الى عليائه كما كان في السابق، وانتظروه أن يبعث "المسيح المخلص" الذي قال عنه اشعيا أنه سيولد من "عذراء" (حسب الترجمة اليونانية) او "امرأة شابة" (حسب اللغة العبرية). وتطورت الفكرة لاحقاً عند فقهاء اليهود معتبرين أن المسيح المخلص موجود مع الله منذ الأزل.
وهكذا كان، ففي بداية القرن الأول الميلادي حملت السيدة العذراء عليها السلام من روح الله، ووضعت ولداً أسمته "يسوع" (ربما يهوشع بالعبرية ومعناه: الله يخلص، أما عيسى العربية فربما اقلاب لغوي ليسوع). وبينما كان يسوع يتعمد في نهر الاردن جاء صوت من السماء يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"، وأخذ يسوع بتعليم اتباعه أن أقواله وأعماله ليست من عنده وإنما من عند "أبيه الذي في السماء". وبالطبع لم تكن هذه التصريحات تُعدّ تجديفاً في المجتمع اليهودي آنذاك، فالعهد القديم من الكتاب المقدس فيه الكثير من هذه التركيبات اللغوية المجازية الرمزية الصورية.
صحيح أن أتباع المسيح الأوائل كانوا يهوداً، وكانوا يفهمونه كما يفهمون النبي موسى، إلا أن قضايا الخلاص والصلب وولادته من امرأة عذراء بالروح القدس كانت تجبرهم على وضع المسيح في مرتبة أعلى من النبي موسى. وهذه النقطة بالذات فتحت الآفاق للديانة المسيحية للتميز عن اليهودية وشق طريق مستقل عنها، فأصبح الايمان بالسيد المسيح هو البديل عن الإلتزام بالشريعة اليهودية، وكأن المسيح هو ذلك "البرزخ" الذي يصل العالم البشري بعالم الألوهة. وهكذا أخذ القديس بولس بالتبشير بالمسيح "ابن الله" بنفس المفهوم الرمزي اليهودي مع اختلاف بسيط يكمن في أن "الفعالية الإلهية" قد ظهرت للبشر بشخص المسيح الذي حلت فيه "الروح القدس"، وبالطبع لم يكن بولس يفهم القضية على أنها نوع من تقمص الله في شخص المسيح، وإنما علاقة من الرموز التي تشكل نظاماً من المحاكاة لتقريب مفهوم عالم الألوهة المنضوي على ذاته من ناحية (الأب) والفاعل في الكون من ناحية أخرى (الابن).
الحقيقة أن مسألة الثالوث المقدس المسيحي أخذت من آباء الكنائس الكثير من الجهد لفهمها وشرحها للرعية. فكما قلنا أن الثالوث المقدس ليس العالم الإلهي عينه، وإنما نظام محاكاة له للقبض عليه وتصوره بشرياً، وهذه النقطة كانت في بؤرة اهتمام آباء الكنائس، فهم كانوا واعين لحقيقة أن العالم الإلهي عصي على الفهم البشري، وما نظام الثالوث المقدس سوى انطباع لا أكثر. وبالطبع كان للخلفية الثقافية لآباء الكنائس المبكرة دور كبير في فهم هذه الثالوث وشرحه، لهذا اختلفت آراؤهم في هذا المجال. وكذلك الحال في الفكر الاسلامي، فقد أخذت قضية فهم العالم الالهي والوحي والقرآن جهداً كبيراً من الفقهاء المسلمين في دراسات العقيدة وعلم الكلام. وكما سنرى أدناه فإن نفس مفاهيم التوحيد والتنزيه عند الطرفين، المسيحي والاسلامي، كانت متقاربة جداً مع اختلاف بسيط في الرمزيات والصور بسبب اختلاف المرجعيات الثقافية.
في بداية القرن الرابع الميلادي انتشرت المسيحية في الشرق القديم، وكثرت الاجتهادات واختلفت بين الكنائس، وفي الاسكندرية وقف كل من "آريوس" و"أثاناسيوس" على طرفي نقيض في فهم الثالوث المقدس، فقد حاول آريوس اخضاع الثالوث لعلم المنطق اليوناني (أرسطو)، في حين حاول أثاناسيوس تحرير الثالوث من أي محاولة بشرية للبرهنة عليه، وكأنه أراد بذلك دفع عالم الألوهة الى موقعه المتعالي العصي عن فهم البشر (متبعاً الأفلاطونية الجديدة الصوفية). الخلاف بين آريوس وأثاناسيوس دفع بالامبراطور قسطنطين لعقد اجتماع مسكوني في مدينة "نيقية" عام 325م لمناقشة المسألة: في أي عالم من العالمين نضع الإبن: في عالم الألوهة أم عالم البشر؟ أي ما هي طبيعة الإبن؟ ولكن قبل المضي في البحث عن الإجابة نود أن نذكر القاريء أن كل هذه المفردات اللغوية لا تعني الأشياء على حقيقتها وإنما هي رموز وصور لا أكثر، فالإبن ليس ابن بمعنى ولد، والأب ليس أب بمعنى والد.. الخ.
بالنسبة لآريوس كان الإبن مخلوقاً ولذلك فهو ينتمي الى عالم المخلوقات معارضاً بذلك افتتاحية القديس يوحنا في انجيله التي يقول فيها أنه "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.. والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا"، فالمسيح حسب يوحنا هو الكلمة الخلّاقة (لوغوس) او الفعالية الإلهية التي كانت مع الله منذ الأزل، ومنها خلق الله كل شيء، فالمسيح بهذا الفهم كأنه "الوسيط" الذي خُلق منه كل شيء (إنه قريب جداً من الفهم الإسلامي للخلق بفعل الأمر "كُن"). إلا أن آريوس اعتبر أن الإبن وإن كان رباً إلا أنه لا يصل الى قدسية الله، فالله كائن بذاته بينما الإبن كائن بذات الله. أما أثاناسيوس فقد رفض مسألة خلق الله للإبن لأنه كان يفهم الإبن على أنه مظهر او صورة الله حين يلتفت للكون. فـ"الثلاثة في واحد" بالنسبة لأثاناسيوس ليست نظام أقانيم منفصلة، وإنما نظام متصل يحاول من خلاله التمييز بين "الله في ذاته" (الأب) و"الله حين يخرج عن ذاته ويلتفت للكون ويرعاه" (الإبن) وكأنها محاولة لتنزيه الله عن الصفات والأفعال البشرية. يقول قانون الايمان الاثانسي: "هذا الإيمان الجامع هو أن تعبد إلهاً واحداً في ثالوث، وثالوثاً في توحيد، لا نمزج الأقانيم ولا نفصل الجوهر، إن للآب أقنوماً وللابن أقنوماً وللروح القدس أقنوماً، ولكن الآب والابن والروح القدس لاهوت واحد ومجد متساوٍ وجلال أبدي معاً، وهكذا الآب إله والابن إله والروح القدس إله، ولكن ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد". وانتصر نظام أثاناسيوس في مجمع نيقية وأصبح قانون الايمان المتبع في الأرثوذكسية (= الطريق القويم)، أما من خرج عنه، مثل آريوس، فعدته الكنيسة خارجاً عن الارثوذكسية. ونصحت الكنيسة أتباعها بعدم التفكير في مسألة الثالوث المقدس معتبرة أنه سر من أسرار الكنيسة، وما يعنيه ذلك من الاعتراف بأن فهم الألوهة يبقى عصياً على البشر، وأن محاولة الفهم الحرفي للثالوث ستضر بالمؤمنين.
مفهوم الوحي في المسيحية مختلف عنه في الاسلام، فهو وحي حلولي في المسيحية حيث حلت الروح القدس في شخص السيد المسيح عليه السلام، فكل ما ينطق به ويعمله هو من الله (الأب) بفعل هذه الروح القدس التي حلت في المسيح، فالمسيح وفق هذا النظام ليس نبياً فقط يتلقى وحياً من الله. أما في الاسلام فالوحي انفصالي ارسالي متمثل بالملاك جبريل عليه السلام. هذا الفرق الجوهري لمفهوم الوحي أدى الى اختلاف في رسم نظام المحاكاة في كلا الديانتين. فهو في الاسلام نظام منفصل: (الله، جبريل، القرآن الكريم) وما يعنيه ذلك من أن النبي محمد (ص) ليس إلا نبياً يتلقى القرآن من الله عن طريق جبريل. أما في المسيحية فالنظام اتصالي حلولي متماهي (الأب، الروح القدس، الابن). هذه الثلاثية في كلا النظامين ألقت بظلالها على فهم كلا الطرفين للآخر. فالمسلمون فهموا الثالوث المسيحي المقدس حسب النظام الاسلامي وليس المسيحي، أي على أنه نظام منفصل، فكانت الصورة عند المسلمين قريبة من النظام الرياضي (1 + 1 +1 = 3) وأن المسيح (عيسى) هو نبي مثل باقي الانبياء. في حين أن الفهم المسيحي للثالوث المسيحي كان منسجماً مع النظام الاتصالي الحلولي للوحي (1 ضرب 1 ضرب 1 = 1) وأن المسيح ليس نبياً فقط وإنما كتصور رمزي عن الله حين يخرج عن ذاته ويلتفت الى العالم البشري ويتصف بصفاته ويفعل أفعاله.
من هنا جاء الفهم التكفيري عند المسلمين للمسيحية بأنها أشركت مع الله ألهة أخرى هي الابن والروح القدس، رغم أن فهم الثالوث بطريقة النظام المنفصل يعتبر كفراً في الفكر المسيحي نفسه، كما رأينا أعلاه في مجمع نيقية، قبل بضعة قرون على نزول الآية الكريمة في سورة المائدة التي تقول "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، فلو فهمنا الوحي في الاسلام على أنه وحي تفاعلي سياقي فإن الآية الكريمة تبدو لنا وكأنها رد على أقوال بعض الفرق المسيحية العربية في زمن نزول الآية والتي كانت قد خرجت عن المسيحية الأرثوذكسية آنذاك، التي بدورها، أي الارثوذكسية، كفّرت مَن فهم الثالوث المقدس على أنه ثالوث منفصل. فالآية الكريمة لا تكفر النصارى بل الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وكأنها تؤيد موقف الارثوذكسية، حيث أن آية أخرى من نفس السورة تقول عن النصارى: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا". نعم فليس كل المسيحيين قالوا بأن الله ثالث ثلاثة بالمعنى الحرفي الانفصالي.
لم يختلف الأمر كثيراً في الاسلام، فالفقهاء المسلمون أعادوا طرح نفس الأسئلة التي طرحها آباء الكنيسة، وهمّهم كان بلا شك التوحيد والتنزيه: هل صفات الله هي عين ذاته أم زائدة عليها؟ وهل هي مخلوقة أم موجودة معه منذ الأزل؟ وهل القرآن مخلوق أم موجود مع الله منذ الأزل؟ وكما في المسيحية انقسم المسلمون في تصوراتهم عن العالم الإلهي. وتعامل فقهاء علم الكلام مع القرآن كما تعامل القديس يوحنا مع "الكلمة" (لوغوس)، فقال المعتزلة أن القرآن مخلوق، أما الحنابلة فاعتبروه غير مخلوق وأنه مع الله منذ الأزل (هل يذكرنا هذا بالخلاف بين آريوس وأثاناسيوس بخصوص المسيح الكلمة؟ فالقرآن هو كلام الله، او الأصح أنه عبارة عن كلام الله). أما بخصوص صفات الله فقد نفى الشيعة الإمامية الصفات عن الله، فالله كريم وعظيم ولكنه لا يتصف بالكرم والعظمة لأنها صفات بشرية، أما المعتزلة فقالوا إن صفات الله المعنوية، وهي القدرة والعلم والحياه والارادة والسمع والبصر والكلام، هي عين ذاته (لكي يؤكدوا على التوحيد ويتجنبوا الشرك بالله) مع ضرورة التأويل (لكي لا يقعوا بالتشبيه والتجسيم). أما الأشاعرة فقد ثبتوا الصفات المعنوية ولكنهم قالوا إنها ليست عين ذات الله ولكنها ليست غير الذات فهي قائمة بالذات زائدة عليها!! (هذا تقريباً هو مفهوم الابن في المسيحية مع اختلاف الترميز، وكأن هذه الصفات عند الأشاعرة تساوي الابن في المسيحية، فهو ليس ذات الأب وليس غير ذات الأب فهو قائم في ذات الأب وزائد عليه). أما السلفية فقد ثبتوا صفات الله كلها بما فيها الخبرية مثل الاستواء والنزول والصعود والوجه واليد كما جاءت في القرآن من غير تأويل وأخذوها على المعنى الظاهر لا المجاز، فوقعوا في التجسيم والتشبيه (وهذا بالذات ما حاول كل من الكنيسة والمعتزلة والاشاعرة والشيعة تجنبه). أما المتصوفة أصحاب "وحدة الوجود" مثل الشيخ ابن عربي فكان نظامهم قريباً بعض الشيء من نظام الثالوث المقدس، فقالوا أن العالم موجود بنفس وجود الله، لا بإيجاده، بمعنى أن العالم إنما هو صورة ومظهر للوجود الإلهي، ولم يحدث وجود العالم بعد عدمه (وكأنهم يتحدثون عن الإبن الكلمة اللوغوس الموجود مع الأب منذ الازل مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن كل هذه المفردات هي رموز وصور).
لقد حاول المسلمون من معتزلة وأشاعرة وشيعة ومتصوفة، كما حاول المسيحيون قبلهم، تنزيه الله سبحانه عن الاتصاف بصفات البشر وأفعالهم، فرفعوا صفات البشر عن الله سواءً بالتأويل (المعتزلة) او بالقول أنها قائمة بذات الله زائدة عليه (الأشاعرة). اما المسيحيون فكان نظامهم أقل تعقيداً فقد رفعوا صفات البشر وأفعالهم عن الله (الأب) ووضعوها في المسيح (الابن)، وكأن الابن هو مظهر الله حين نرفض نحن المؤمنين أن الله يتكلم مثلنا ويسمع مثلنا ويُبصر مثلنا ويصعد وينزل ويستوي على عرش.. الخ، فكان الابن صورياً هو الحل. لقد حاول الفريقان رسم تصور ما عن عالم الألوهة الذي ليس كمثله شيء، إلا أن بعض الفقهاء رأوا في ذلك تعدياً على عالم الألوهة المتعالي في عليائه، فالإمام مالك مثلاً كان يقول "من طلبَ الدين بالكلام تزندق" (يعني علم الكلام)، وكأنه بذلك أراد أن يدفع بعالم الألوهة بعيداً عن العقل البشري القاصر. هل يذكرنا موقف الإمام مالك بموقف الكنيسة التي اعتبرت مسألة الثالوث المقدس سراً من الاسرار؟ فعندما يخبرنا الله سبحانه عن عالمه في القرآن (او أي كتاب سماوي آخر) فليس شرطاً أن يكون ذلك هو فعلاً عين عالم الله، وانما هو نظام محاكاة لعالم الله الذي تعجز اللغة العربية عن وصفه، لهذا كان نظام المحاكاة هو الحل الأمثل. وما أكثر المحاكاة في القرآن: "ومَثل كذا عند الله كمَثل كذا".
قال الرسول الكريم (ص): "اطلب لأخيك عذراً"، وما أجملها من دعوة لتفهّم الآخر. ونحن نقول في هذا المقام: "تفهّم معتقدات أخيك ومنظومة رموزه"، فلا يستطيع أي منا الادعاء أنه قبض على حقيقة العالم الإلهي وأنه الوحيد على حق والباقي على باطل. فالعالم الإلهي سيبقى عصياً علينا نحن البشر، ولهذا فهو يُؤخذ بالايمان وليس باخضاعه لمنطق البشر وتصوراتهم، وبالتالي تكفيرهم لبعضهم البعض. والتكفير لا يعكس سوى الجهل، فالجاهل بمعتقداته ومعتقدات الآخرين هو من يكفر الآخرين، أما العارف بمعتقداته ومعتقدات الآخرين فإنه يتفهم هذا المعتقدات ويحترم أصحابها.