الأحد ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم حسين حمدان العساف

نقد كتاب «مقالات في أدب الحمقى والمتحا مقين»

لمؤلفه ( أحمد الحسين)

يبحث الأستاذأحمد الحسين منذ فترة طويلةفي ظاهرة أدبية لم تأ خذ حقها بعد من العنا ية والاهتمام كما تستحق، هي الأدب الشعبي في العصر العباسي، اهتم بها الأستاذ، وأخذت هذه الظاهرة معظم وقته قي وقت من الأوقات، واستطاع بمواظبته على هذا البحث أن يكتب عددا ًمن المقالات ،وينشر الكتب التالية:

  1. أدب الكدية في العصر العباسي: والكتاب موضوع الرسالة التي نال بها د رجة الماجستير بامتياز ، نشر دار الحوار ،العام 1986
  2. أشعار الشحاذين: جمع وتحقيق،نشر دار الجليل، العام 1986
  3. مقالات في أدب الحمقى والمتحامقين، نشر دار الحصاد، العام 1991.
    ونشرت دراسات عن مؤلفاته السابقة في (تشرين) و(الثورة) و(البيان) و(العربي)، وكتب الأستاذ عشرات المقالات في المجلات السورية التالية:(جيش الشعب) و(المرأة العربية) و(الثقافة) و(المعرفة) و(هنا دمشق) وكذلك في الجرائد والمجلات العربية التالية:(العرب) و(البيان) و(النافذة). يقع كتاب (مقالات الحمقى والمتحامقين)في مائة وسبع وستين صفحة من القطع المتوسط والورق المصقول الجيد،

عرض موجز لمقالات الكتاب:

يتضمن ست مقالات: في المقالة الأولى (نظرات في تاريخ الحما قة):يحا ول المؤلف رسم ظاهرة الحماقة من خلال تتّبعه بداياتها التي يعتقد أنها كانت في العصر الجاهلي حتى يصل بها إلى العصر العباسي محاولاً إبراز الد وافع التي أدّت الى نشوئها، وإبراز مواقف الفئات الاجتماعية المختلفة من الحمقى والمتحامقين. وفي المقالة الثانية (مدخل إلى عالم الحمقى والمتحامقين):يحا ول رسم صورة لعالم أولئك، بما تتيحه له المعلومات المتوفرة لد يه، حيث يسلّط الأضواء على عالمهم معتقداً أنَّ اللغة ربما تصح أن تكون مدخلاً إليه. وفي هذه المقالة يشرح معاني الحماقة كما وردت في المعجمات مبينّاً الفارق في المعنى والدلالة بين الحمق والتحامق، ثم يكشف أساليب الحمقى والمتحامقين من خلال أداء مشاهد التحامق التي غالبا ًما تؤدي إلى الإضحاك، كما يكشف العلاقات الاجتماعية التي تربط بين هؤلاء جميعاً، وفي مقالته الثالثة (الحماقة في الأدب والمصادر الأدبية ): يحلل دوافع اهتمام المؤلفين القدامى بتدوين أخبا ر الحمقى والمتحامقـين، ويراها أدبية،نفسية،اجتماعية.

ويبحث في مقالته الرابعة (التحامق:أسبابه ودوافعه) محللاً الاعترافا ت الشخصية للحمقى والمتحامقين، ويرى أن دوافع هؤلاء الى التحامق عديدة، يبرز في مقدمتها :دافع التكسب والعيش، ثم د وافع أخرى منها : النقد وكشف الأخطاء،والتخلص من المآزق والأزمات،والتحرر من رقا بة المجتمع، والاسترخاء والهروب من الواقع. ويبيّن في المقالة الخامسة: (صراع المعقول واللامعقول في أدب المتحامقين) أن العقل خسر مكانته متراجعاً أمام طغيان اللاعقل، وهيمنة الجهل على العلم، والأميّة على المعرفة،والعبث واللهو على الجد والعطاء، هذه المفارقة بين الاتجاهين المتعارضين دفعت فئة إلى الصدارة، وأقصت أخرى، هكذا تجلت رؤية أدباء التحامق لواقعهم، كما بينّها المؤلف،

وفي مقالته الأخيرة:(أبو العبر أمير الحما قة والمتحامقين) يدرس شخصية أبي العبر، ويتخذها نموذجاً لشخصية المتحامق، فيستعرض حيا ته، ويرى أنها مَرّت بطورين متناقضين:طور الجد، لا يعرف عنه شيئاً، وطور التحامق والتجانن، ويعلل انتقاله إلى الطور الثاني بأ نه لا يعدو أحد أمرين: الأول: أنّه لم يبلغ في شعره الجاد ما بلغه أعلام عصره كأ بي تمام والبحتري، والثاني: أن ميل أبي العبر إلى التحامق إنما هو تعبير عن زهد الناس في الجد، وإقبالهم على الهزل، ثم يحلل نماذج من أد به الجاد، ويورد مختارات من نصوص تحامقه شعراً ونثراً، ويدرس طبيعة النادرة عنده، ويجتهد في عقد مقا رنة لافتة بين أبي العبر ومذهب فلسفي معاصر، هو السريالية، ويرى بينهما أوجه شبه متعددة، يسوق عليها أمثلة من سلوكه ونصوصه.

أهم الكتب القديمة التي تناولت الحمقى والمتحامقين:

ويرى أنَّ أكثر الكتب القديمة التي تنا ولت الحمقى والمتحامقين على تباين مقا صدها واختلاف منا هجها ضاعت، ولم يصلنا منها إلاّ كتب قليلة،أهمها اثنان يُعدان الأساس لكل من يريد البحث في هذا الاتجاه: (عقلاء المجانين) للنيسا بوري، و(أخبار الحمقى والمغفلين) لابن الجوزي،مع ما بينهما من فارق شرحه المؤلف،وله ملاحظات على تلك المؤلفات القديمة،رأى فيها أنّ (أكثر الأدباء لم يتجا وز اهتمامه جمع المادة، وعرضها، وتصنيفها، لا يستثني منهم إلاَّ (النيسا بوري) (المتوفى406هـ) الذي رأى أنَّ وعيه وتحليله للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاشت فيها فئات الحمقى مثلّ طوراً متقدماً، ورؤية نا ضجة،وفكراً واسعاً، اهتدى به المؤلف إلى جوانب هامة،لكنه اختلف عنه في جوانب أخرى.

النيسابوري أقدم مؤلف التزم أسس البحث ،ونبّه إلى دوافع التحامق:
 فالنيسا بوري، كما يراه، يُعَدّ أقدم مؤلف التزم بأسس البحث لدى تناوله هذه الفئات، واستوعب ظاهرة الحما قة والتحامق والجنون والتجانن، فدرسها ضمن إطارها الاجتما عي عندما (نبّه الى الدوافع والأسباب الاقتصادية والثقافية التي كانت وراء انتشارها) وعقد فصولاً بحث فيها أهم دوافع الناس إلى التحامق، فرأى أنَّ من الناس من تحامق لينال غنى، وأنّ َمنهم من تحامق ليطيب وقتاً، ويسترخي عيشاً، ومن تحامق لينجو من بلاء وآفة، والأستاذ أحمد أكّد على هذه الدوافع في كتا به، ودرس ظاهرة الحماقة في إطارها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ورأى أنَّ د وافع الناس إلى التحامق هي التكسب والعيش والنقد والتخلص من المآزق، والهروب من الواقع إلى دنيا الوهم والخيال.

المؤلف كالنيسابوري وابن الجوزي يحدّد دلالة الفروقات اللغوية،لكنّه ينقلب عليها:

وسار الأستاذ على منهج النيسا بوري وابن الجوزي في استعراضه لكثير من المفردات اللغوية التي تصب في دائرة الحمق والتحامق، وفرّق كالنيسابوري بين الحمق والتحامق والجنون والتجانن، والتقى معه عند النقطة الفاصلة التي تميز بين الحماقة والتحامق والجنون والتجانن، والغفلة والتغافل، فيرى المؤلف مثلاً أنَّ الجنون والحماقة مرض أو طبع، لا يتكلفه المرء، بينما التجانن والتحامق من مظاهر التكلف والتصنع، وبعد أنَّ يأ خذ على أغلب المؤلفين القدامى عدم تبنيهم الحد الفاصل بين هذه الفرو قات اللغوية الدقيقة، فإ نَّ المؤلف لا يلبث أنَّ ينقلب عليها، ويقع فيما كان يأخذه على المؤلفين القدامى، فلا يرى فيها نسقاً واحدا ًفحسب، ولكنه أضاف إلى الحماقة تسميات جديدة لم تخطر ببال القدماء ولا المحدثين، وهنا بدأ يبتعد عن النيسابوري وعن (الوطواط ) مؤلف كتاب (غرر الخصائص) الذي سار على منهج (النيسابوري) فيما بعد، ويشير الأستاذ أحمد أن (النيسا بوري) كان (يتحرى الحرص والدقة في ذكر مصادر كتابه، فأشار إلى من سبقوه ) [1] وكذلك الأستاذ أحمد يذكر مصادره التي عاد إليها، ويشيرإلى من سبقوه، مع فارق بينهما،لكن المؤلف يختلف عن (النيسابوري) في منهج تأليف الكتاب وخطته.

المؤلف يتصرف بنصوص مراجعه:

فهو لا يتحرّى الحرص والدقة أحياناً في نقل بعض النصوص نقلا دقيقا أميناً كما وردت عن أصحابها، وقد يعمد إلى تطويع بعضها بما يخدم ما يذهب إليه، كأن يضيف إلى النصوص التي يستشهد بها، إضافات ليست هي لأصحاب النصوص ، ففي الصفحة (97) أشار المؤلف في الحاشية رقم (20) الى مجنون اسمه (سعد المجنون) بينما اسمه في مصدره (سعدون المجنون) [2]، وحين تحدث في الصفحة (91)عن شاعر اسمه (علي بن صلوة) يرى أنَّ شعر الحماقة كان أنفع له من الشعر الجاد، فتحامق، واستشهد على ما يقول بنص، أحالتنا حاشيته رقم (10) إلى كتاب (عقلاء المجانين) الصفحة (35) ولدى المقارنة بين النص الأصلي والنص المنقول عنه تبين أن المؤلف تصرف بالنص، فقد أورد عن الشاعر أنه: صائب الرأي، ومن شعره الجاد قوله: بينما لا يذكر (الينسابوري) ذلك، وكان ما قاله هو التالي: (علي بن صلوة القصري كان ممن يجيد الشعر، وكان محروماً، لا يؤبه له ،ومن جيد شعره:)، ثم يتابع المؤلف: (ولكن علياً لم ينتفع بجودة شعره، واتزانه، ولم يقبل الناس عليه، فكان محروماً، لا يؤبه له، فنبذ العقل جا نباً، ومال إلى التحامق، وأخذ في الهزل، والعبث، فحسنت حاله، وراج أمره حتى إنَّ الملوك والأشراف،أو لعوا به) وما ذكره ( النيسابوري) هو ما يلي:( ثم تحامق ،وأخذ في الهزل، فحسنت حاله، وراج أمره حتى إنَّ الملوك والإشراف،أولعوا به )، ولكنه لم يذكر أنَّ الشاعر المذكور قبل أنَّ يتحامق كان:(صائب الرأي ـ من شعره الجاد ـ ولكن علياً لم ينتفع بجودة شعره واتزانــه ـ ولم يقبل عليه الناس ـ فنبذ العقل جانباً)،وهي عبارات مضافة إلى (النيسابوري) أقحمها المؤلف في مصدره إقحاماً. [3]

وفي محاولته التأكيد أنَّ القدماء وصفوا (أشعب) بالحماقة، أورد النص التالي في الصفحة (31) من كتابه، رقم حاشيته (36) منقولاً من كتاب الأغاني، فقد كان عامر بن لؤي والي المدينة يطلب: (أشعب فإذا هرب منه، واختفى، هجم على منزله بالشرط، وإن كان في مجلس قوم بعث إليهم يطلبه منهم، فإذا جيء به، أمره بأن يحدّثه، ويضحكه،ويسليه بنوادره وحماقاته)،وأنا أفهم أنّ النص إذا وضعه الكاتب بين هلالين، ورقم حاشيته، وأحال القارىء إلى مصدره، هو نص منقول تلزم الأما نة العلمية في البحث نقله بدقة دون حذف أو إضافة، أوتصرف،
 هذا إذا لم يُسخّرالنص إلى غير ما يريد، وكان النص الوارد في كتاب الأغاني على لسان أشعب كما يلي: (ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤي، وكان أبخل الناس، وأنكدهم، وأغراه الله بي، يطلبني في ليله ونها ره، فإن هربت منه هجم على منزلي بالشرط؛ وإن كنت في موضع بعث إلى من أكون معه أو عنده ،يطلبني منه؛ فيطالبني بأن أحدثه؛ وأضحكه.) [4] وازن بين النص المنقول والأصلي؛ وانظر كيف تصرف المؤلف فيه؛ وأضاف (الحماقات) إلى أشعب؛ وهي غير موجودة في النص،ولا في سيرة أشعب كلها التي حدثنا عنها أبو الفرج؟

اختلاف خطة كتاب المؤلف عن خطة كتاب النيسابوري:

وخطة تأليف كتاب الأستاذ أحمد الحسين تختلف عن خطة كتاب النيسابوري: فالنيسابوري في كتابه (عقلاء المجانين) كما يحدثنا الأستاذ عنه: (يقف على معنى الجنون والحماقة، ويذكر ما قيل من أسماء الحمقى، وأوصافهم، ويسرد الأمثلة التي ضربت فيهم، ثم يوزع كتا به على سبعة فصول قصيرة، تكشف عن أسباب الجنون، ود وافع التحامق، وهذا دليل تقص، وبحث في محاولة منه فهم أبعاد تلك الظاهرة، ثم يعقد في كتا به ترجمات لأكثر من (100) شخصية من أعلام الحمقى والمجانين).

أمّا كتاب الأستاذ أحمد فواضح من عنوانه: (مقالات في أدب الحمقى والمتحامقين) أنه مجموعة مقالات، تتردد فيها أفكار ومعلومات وإشارات تبدو واضحة للوهلة الأولى، ففي رصده، على سبيل المثال لأسباب التحامق ودوافعه رأى أن (الاسترخاء والهرب من الواقع) دافع من دوافعه، يقابله في كتاب النيسابوري (ما تحامق ليرخي وقتا ًويطيب عيشاً)، ورأى أنه شكل من أشكال الاغتراب [5]، كّرر الحديث عنه في مقالته (صراع المعقول واللامعقول) ص(133)، وفي مقالته (مدخل الى عالم الحمقى والمتحامقين)، ذكر د وافع أبي العبر الى التحامق ص(54)، ثم ذكرها ثانية في مقالته (التحامق:أسبابه ودوافعه) ص(91)، ثم كررها مرة ثالثة في مقالته (الحماقة في كتب الأدب والدراسات ألأدبية)، ثم تحدّث عنها مرة أخرى في نهاية مقالته(صراع المعقول واللامعقول)، وأمر طبيعي أن تتردد مثل هذه الإشارات بين مقالة وأخرى حين تكون متفرقة، وتفصل بين نشرها مسافات زمنية، أمّا حين عزم المؤلف على جمعها في كتاب، فكان عليه أن يتجنب التكرار، وأن يخضع تجميع المقالات لتنسيق دقيق ومنهجية في التأليف محكمة، وفي الصفحة (129) من كتا به يقول المؤلف (فأنشد البحتري قصيدته التي أولها، ولم نر أولها،ومطلعها هو :

عن أي ثغر تبتســم
وبأي طرف تحتــكم
حسن يضيء بحسنه
والحسن أشبه بالكرم

 وفي رد ه على صفات الأحمق وأوصا فه كما ذكرها القدامى من الحكماء والعلماء والأدباء:يقول المؤلف في الصفحة (51) ما يلي: (إنَّ ما يفنّد هذه التقولات التي قد تصدق أحياناً، ولا تصدق في كل الأحايين)، وللقدماء في صفات الأحمق آراء وأقوال، وليس (تقولات)، وإنَّ دلالة التقولات كما لا تخفى على الأستاذ أقرب ما تكون الى الكذب ومجا نبة الصواب، فكيف إذن،تصدق أحياناً؟ وموضوعية البحث العلمي أن يفنّد الأستاذ آراء القدامى وأقوالهم بالحجج لا بالتكذيب! والمؤلف، وهومتزود بثقافة معاصرة، يختلف عن النسا بوري في تنا ول ظاهرة الحماقة والتحامق اعتماداً على مناهج بحث لم تكن معرفة لدى القدماء، فقد أعطى الحما قة مفهوماً مختلفاً عما هو سا ئد بدلالة واسعة، واستخد م منا هج البحث العلمية في د راسة هذه الظا هرة. فهو لم يقتصر على المنهج الوصفي الذي تبين لنا فحسب، ولكنه استخدم أيضاً المنهج التأ ريخي والمنهج المقارن، كما أنه استخدم نصوص بعض الحمقى أنفسهم للتعرف على أحوالهم، واستنبط منها أحكاماً عامة، فإلى أي مدى وفق المؤلف في منا هج بحثه؟ المؤلف تناول ظاهرة الحما قة في الفترة الزمنية الممتدة من العصر الجاهلي إلى فترة لابأس بها من العصر العباسي.

يدايات ظاهرة الحماقة:

فحاول العودة الى بدايات هذه الظا هرة، واعتقد أن (سعد القرقرة) الجاهلي الذي ظهر في بلاط النعمان بن المنذر كان رائد الحمقى وأول من اكتشف دستور الحما قة، ثم انتقل إلى المحطة الثانية، فرآها في صدر الإسلام عند الصحا بي(النعيمان)، وبه يرى( أنَّ حلقات التحامق لم تنقطع)، ثم يمضي في تقصي هذه الظاهرة تأريخياً، فيمّر بالعصر الإسلامي شا رحاً ظروفها، متتبعاً تطورها من مرحلة إلى أخرى حتى يصل الى فترة متقدمة من العصر العباسي، ويتوقف في مقالته الأخيرة عند أبي العبر الذي قتل سنة 250 للهجرة، كما يقول (ابن النديم) في(الفهرست).

ظهورأدب الحمقى والمتحامقين:

وتبين في مقالات المؤلف أن الحمقى لم يكن لهم أدب في الفترة الممتدة من العصر الجاهلي حتى نها ية العصر الإسلامي، ولم يظهر أدبهم إلاَّ في العصر العباسي، وشعرهم في مرحلة من هذه العصركان نتفاً ومقطوعات وأحياناً قصائد، والمؤلف حين بحث في ظا هرة الحما قة منذ بداياتها، إنّما كان يرصد تطورها عبر مراحلها، وكان يقارن بين كل محطة وأخرى، كمقا رنته بين الحماقة عند(سعد القرقرة) و(النعيمان)، ومقا رنته بين كل مرحلة من مراحل تطورها والمرحلة التي سبقتها، محللاً أوضاعها، ومبناً أوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها، ومقارنته كذلك بين الكتب والدراسات الأدبية التي تناولت هذه الظاهرة.

المصادر الأساسية التي تأثر بها بحث المؤلف:

وإذا حاولنا، ونحن نتحدث عن منهج المؤلف، أن نضع البحث في إطاره المناسب، فينبغي أن نشير إلى أهمية مصادره الأساسية التي تكمن خلفه، وتوجّه مساره وهي الثلاثة التالية:

  1. (عقلاء المجانين) للنيسابوري.
  2. (أخبار الحمقى والمغفلين)لابن الجوزي. وقد أشار المؤلف إليها، فقال: (أولهما كتاب (عقلاء المجانين) للنيسا بوري، وثانيهما (أخبار الحمقى والمغفلين)لابن الجوزي، وهما الأساس، والذخيرة الغنية التي لا يمكن الاستغناء عنها لمن يريد البحث في هذا المضمار .) [6]، ويأتي كتاب (عقلاء المجانين) في المقام الأول، ويعد النبع الثّر الذي اغترف منه المؤلف ما اغترف، واقتدى به في جوانب هامة في بحثه، فسار على منهجه في دراسة ظا هرته حيث وضعها في إطارها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وحلّل أسبابها،وعدّد دوافعها .
  3. (تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)ميشيل فوكو: هو كتاب معاصر،ألفه المفكر الفرنسي الكبير (ميشيل فوكو) في العام1961، ويبدو أنه شديد التأ ثير على من قرأه، أو قرأ عنه، ولست أدري ما إذا كان هذا الكتاب الشهير ترجم الى العربية أم لا؟ كما لا أدري ما إذا كان المؤلف قرأ هذا الكتاب مترجماً؟ وأكبر الظن أنه لم يطلّع عليه أصلاً ولا مترجماً،لكن من المؤكد أنّه اطلع عليه من خلال مقالة قيمّة عنه، كتبها الأستاذ (هاشم صالح) في مجلة (الكرمل) ـ ملف فوكوـ بعنوان (فيلسوف القاعة الثامنة)، وفي هذه المقالة يستعرض الكاتب أهم أفكار الكتاب حول ظاهرة الجنون، ومن المفيد أن نمرّ على بعضها، ولو على عجل: فالمفكر الفرنسي ميشيل فوكو(يقلب للمرة الاولى المنظور السا ئد للجنون، فلم يعالجه بمثا بة مرض عقلي فقط، ورفض أن يعتبر العقل أفضل من الجنون، أو العاقل أفضل من المجنون، وكان يتساءل:هل هنالك من حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل، ولهذا رفض كل أحكام القيم المسبقة، وراح يد رس تأريخياً وبالتفصيل كيف نظرت المجتمعات الغربية للجنون طيلة أربعة قرون؟ وكيف حاكمته، واتخذت منه موقفاً؟ واكتشف أشياء مذهلة، اكتشف أنَّّ للجنون تأريخاً) [7]

ويرى الكاتب أنّ تجربة (فوكو)في دراسته تأريخ الجنون، كانت تجربة خرق واختراق، لم يكن يخشى الخروج على القانون، أو على البديهيات العمومية والمسلّمات التي لا تناقش، ولم يكن يفعل ذلك حباً في الاختلاف و التما يز والمعارضة، وإنما لكي يسقط (الحقائق)الكبرى الشائعة، ويستبدل بها الحقائق المطموسة الخفيّة.

(إنَّ تجربة الاختراق كمحور أساسي لفكر ميشيل فوكو، قد فتحت ثغرة كبيرة واسعة في الجد ران العالية للثقافة الغربية والحضارة الغربية، هذه الجد ران التي لا يجوز لأحد أن يتعداها أو ينظر ما وراءها.) [8] ولم يكن (فوكو)يريد أن يدرس في كتا به هوّية الغرب أو تأريخ عقلانيته، وإنما كان يريد أن يدرس وجهه الآخر المرفوض، وجهه السالب .أو المعتبر كذلك، وتظهر ماركسية (ميشيل فوكو) في تحليله وتفسيره ظاهرة الجنون من حيث ارتباطها بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فيرى أنّ الطبقة البرجوازية لم تفرض على المجتمع هيمنتها الاقتصادية والسياسية فحسب، وإنما فرضت عليه هيمنتها الأخلاقية والثقافية أيضاً، وكل فرد يشذ عن هذه الأخلاق، أو يخرج عن تلك القيم، سوف يفصل من المجتمع بتهمة أنه مريض، وكان يرى أن كلَّ مجتمع يرسّـخ أخلاقية محددة خا صة به، تتغير، وتتحول بتعاقب العصور والأزمان، وفي كل عصر وفي كل مجتمع هناك قوانين قسرية، هناك قوانين إكراهية، ولذلك فإنَّ الأفراد الذين يخترقون هذه القوانين سوف ينصبّ عليهم غضب المجتمع لا محالة، ويقصيهم عن ساحته، وربما لجأ الى تصفيتهم جسدياً.

ويتحدث ( ميشيل فوكو) في مقدمته عن بعض أنواع العزل التي أعطت للغرب هويته وعقلانيته، ولعل عامل العزل الأكبر بنظر ه كان الخط الفاصل بين العقل واللاعقل، بين العقل والجنون، وهذا ما جعل الغرب يتخذ موقفاً من المجانين بإصداره قرارات العزل الاجتماعي التي عزل بموجبها المجانين عن المجتمع، وزجهم بالسجون، وتحد ّث (فوكو) عن قراري العزل الاجتماعي:قرار العزل الأول الذي صدر في العصر الكلاسيكي في العام 1656م، وبمقتضاه، قبض على أكثر من 1% من سكان باريس، ووضعوا في المستشفى العام في باريس، واعتبروا جميعاً مجانين، وكان هذا القرار الملكي استند على قرار فلسفي خطير، نفى فيه الفيلسوف (ديكارت)الجنون من ساحة أية معرفة ممكنة، ثم قرار العزل الثاني الذي صدر في باريس في العام 1793م، وتم بموجبه عزل بقية فئات الشعب من عاطلين عن العمل ومتسكعين وشاذين عن المجانين، ولم يتغير وضع المجانين إلاّ بقيام الثورة الفرنسية الكبرى التي أعلنت حقوق الإنسان والمواطن، فلم يعد مسموحاً السجن التعسفي للناس، وأصبح في حكم الممنوع القبض على إنسان وسجنه إلا ضمن الحالات التي ينص عليه القانون وطبقاً للصيغ التي قررها [9] هذا الوضع المأساوي الذي عانى منه المجا نين في فرنسا، ورأى فيه (ميشيل فوكو) أن المجانين كانوا دوماً ضحية الظلم الاجتماعي.

المؤلف يسير على نهج (فوكو):
ومنهج (فوكو) في دراسة ظاهرة الجنون بفرنسا في العصر الكلاسيكي أغرى الأستاذ أحمد الحسين أن يطبّقه على ظاهرة الحمقى والمتحامقين في المجتمع العباسي خلال القرون الوسطى، فقابل ظا هرة الجنون في فرنسا بظا هرة الحماقة في المجتمع العربي مسلطاً عليها أضواء (ميشيل فوكو) التي أنارت له مسالك بحثه، فاعتمد المنهج المقارن، وحاول أن يكتشف هو الأخر أن للحماقة تا ريخاً أيضاً راح يدرسه، وكان من الطبيعي أن يلجأ إلى المنهج التاريخي، ورأى أن الحمقى والمتحامقين في مجتمعنا كانوا أيضاً مثل مجانين فرنسا ضحية الجور الاجتماعي، وحاول أن يؤكد أن الطبقة الارستقراطية التي حكمت المجتمع العربي لم تكتف بفرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية على المجتمع العربي فحسب، وإنما فرضت عليه هيمنتها الأخلاقية، فكانت تقصي عن الساحة الاجتماعية الأفراد الذين يخرجون عن هيمنتها الأخلاقية والثقافية ،أو يشذّون عن القيم الاجتماعية السائدة، فتلجأ إلى نفيهم وتعذيبهم وقتلهم، كما حا ول أن يقلب مفهوم الحماقة السائد، كما سنرى،فتوسع في،دلالته، وحا ول أن تكون له مثل (فوكو) تجربة (خرق واختراق) أيضاً ليسقط الحقائق الكبرى الشائعة، ويستبدلها بالحقائق المطموسة الخفّية، فأعرض عن دراسة هوية المجتمع العربي من خلال تاريخ عقلانيته، وأقبل على دراسة الوجه الأخر المرفوض للمجتمع العربي، ولدى المقارنة حا ول المؤلف أن يلغي المسافات، وأن يقارب بين ظاهرة الجنون وظاهرة الحماقة، وأن يؤكد أنّ ظاهرة الجنون في فرنسا تداخلت فيها الحماقة، وأنَّ ظاهرة الحماقة في المجتمع العربي تداخل فيها الجنون، فكيف قارن بين هاتين الظاهرتين؟ مَهّدَ للمقارنة بإلقاء سؤالين هما: كيف كان الموقف الاجتماعي من الحمقى؟ وما هي أسس ذلك الموقف ومنطلقا ته؟ وللإجابة عنه رأى أنَّ المجتمع العربي والفرنسي رفضا المجا نين والحمقى والمتحامقين استناداًإلى نظريات معاد ية لهم، فـ (ديكارت) أخرج الجنون من ساحة المعرفة، ولم يسمح بتعايش الخطاب العاقل مع الخطاب المجنون.

وكان تنظيره الفلسفي هو الخلفية الايديولوجية التي استند عليها قرار العزل الاجتماعي الأول والثاني، وبمقتضى قرار العزل الأول استشهد المؤلف بنص مأخوذ من مقالة الأستاذ هاشم صالح:(وضع عشرات الآلاف من الحمقى والمجانين والمشعوذين والمتسولين والمنبوذين في أسوار من السجون التي عزلتهم عن المجتمع ) [10]. أمّا في المجتمع العربي فيرى المؤلف أن نظرة المجتمع للحمقى والمتحامقين كانت تستمد مشروعيتها، وتقوي حججها بالاعتماد على أرث ديني وأدبي وسياسي، تمثل فيما يستشهد به خصوم الحمقى، يتمثل غالباً كما يلي:

  1. بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأحمق أبغض الخلق إلى الله،لأنه حرمه أعز الأشياء عليه ،وهو العقل)
  2. قول عمر بن الخطاب: (احذر الأحمق لأنه يريد أن ينفعك، فيضرك)
  3. الخليل بن أحمد الفراهيدي: (الناس أربعة أصناف .. ورجل لا يدري،ولا يدري أنه لا يدري ،فذاك أحمق ،فارفضوه)
  4. وأبيات مشهورة، اختلف الرواة في نسبتها، منهم من نسبها إلى أبي العتاهية:
احذر الأحمق أن تصحبه
إنماّ الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقّعتـــه من جانب
زعزعته الريح يوماً فا نخرق

ويرى أنَّ تلك المنطلقات النظرية في مجتمعنا العربي (شكلت الغطاء المناسب لإجراءات أشد قسوة، تعرّض لها الحمقى والمتحامقون كالتشهير والجلد والنفي والقتل أحياناً)، ويضرب على ذلك الأمثلة التالية (فقد أبعد والي مكة أحد الحمقى المخنثين إلى عرفات،لأنه كان مستهتراً بالقيم الاجتماعية، والأخلاقية (فيجمع بين الرجال والنساء)، وأمر سليمان بن عبد الملك عامله على المدينة أبا بكر بن محمد الأنصاري أن يخصي المخنثين في المدينة لما شاع عنهم من التهتك وإفساد الرجال،فراح ضحية هذا العقاب اللاإنساني طويس والدلاّل وطريف ونومة الضحى وزرجون وهنب وابن نفاش) [11]

وكما زجّت الطبقات البورجوازية في باريس المجانين والطبقات المنبوذة في سجون خاصة، فإنَّ مؤلف الكتاب أخذ يبحث للمجا نين عن دور خاصة بهم، تعزلهم عن المجتمع، ويستشهد بما ذهب إليه (ميشيل فوكور) الذي رأى أنَّ الوضع اللإنساني للحمقى والمجانين لم يتغير في فرنسا إلاَّ بقيام الثورة الفرنسية التي دعت إلى الحرية والمساواة، كما كان للفيلسوف (ديدرو) أثر بالغ في استد رار عطف المجتمع على المجانين . أما وضع الحمقى والمتحامقين في مجتمعنا العربي، فلم يتغير بنظر المؤلف إلاّ بتكوين موقف اجتماعي متعاطف معهم، استند إلى منطلقات نظرية، أو ردها كما يلي:

  1. (القلوب تملّ كما تملّ الأبدان). ولم ينسب المؤلف هذا القول إلى صاحبه،وهو حديث للرسول الكريم، ونصه الكامل: (روّحوا عن قلوبكم، فإنَّ القلوبَ تمل، كما تمل الأبدان).
  2. قول أبي الدرداء: (إني لأستجم نفسي ببعض الباطل ليكون لها أقوى على الحق). فهذان القولان، يرى المؤلف، أنهما مثل الثورة الفرنسية وأفكار الفيلسوف (ديدرو) بالنسبة للمجانين، أسهما في خلق تعاطف اجتماعي واسع للحمقى والمتحامقين. وحلل (فوكو) ظاهرة الجنون، وربطها بأوضاعها الاقتصادية والسياسية والثقافية، فقد غاص فلسفياً في المجتمع الفرنسي أكثر فأكثر حتى كاد يلامس القعرالاجتماعي، ورأى أن قرار ديكارت الفلسفي الخطير الذي نفى فيه الجنون من سا حة المعرفة رافقه نفي الجنون من ميدان الواقع الاجتماعي، إذ رأت المؤسسات الاجتماعية بقيادة الطبقة البرجوازية ضرورة عزل المجانين عن المجتمع لخطورتهم عليه وعلى مفاهيمه وقيمه وثقافته، ولا يخفى ما كان لهذا الحدث الخطير من جانب اقتصادي واضح، بدت فيه، كما يرى الأستاذ هاشم صالح ماركسية (فوكو) جلية تماماً، فقد شهدت باريس في تلك الفترة أزمة اقتصادية حاد ة، اضطرت النظام أن يزجّ المجانين بالسجون، وقد أتاح إنشاء المشا في العامة في وقت الأزمات الاقتصادية سجن العا طلين عن العمل، وبالتالي امتصاص نقمتهم وحما ية المجتمع بل النظام من خطر اندلاع انتفاضات الجوع والخبز، ولهذا السبب لم يسجن فيها الأشخاص المعتبرون مجانين فقط، وإنما سجنت أيضاً طبقات الشعب المنبوذة كافة، وهذا موقف طارئ مرتبط بأزمة اقتصادية، وقد اعتبرتهم الطبقة البورجوازية يداً عاملة احتياطية رخيصة حتى إذا ما تلاشت الأزمة، شرعت البورجوازية من جديد باستغلالهم. أماّ العزل الثاني، فهو عزل بقية الطبقات الاجتماعية المنبوذ ة عن المجانين، ووضعهم في سجن خاص بهم، ومثلما ظهرت ماركسية (ميشيل فوكو) في تفسيره الموقف الاجتماعي الرافض للجنون، فإن المؤلف ربط ظاهرة الحماقة والتحامق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ورأى أنَّ جلد وقتل الطبقات الارستقراطية لفئة الحمقى والمتحامقين سببه خوف الطبقات الارستقراطية من وجود هذه الفئة التي رأى أنها تهدّد مكاسبها وسلطتها [12]، ورأى أنَّ الرؤيتين اللتين كانتا تعبران عن موقف المجتمع من الحمقى والمتحامقين: رؤية الرفض والإدانة، ورؤية التسامح والتساهل (عاشقاً جنباً إلى جنب وفي وقت واحد) [13]، ويؤكد على فكرة يراها هامة جداً، هي أن (المجتمعات الإنسانية في القرون الوسطى عرفت مثل هذه الازد واجية في الموقف إزاء الفئات الشعبية المنبوذة، وهذا ما نصادفه ليس في المجتمع العربي خلال القرون الوسطى فحسب، ولكن في مجتمعات أوروبا الاقطا عية والملكية في الفترة ذاتها،وما بعدها.) [14]

الخطأ التأريخي الذي وقع فيه المؤلف:

وأريد هنا أن أصححّ خطأً تاريخياً وقع فيه المؤلف، فأبّين أنَ مجتمعات أوروبا الإقطاعية والملكية في فترة القرون الوسطى، على عكس ما اعتقد المؤلف،لم تعرف ازد واجية في الموقف إزاء الحمقى والمتحامقين والمجانين ، بل لم يكن لها أي موقف نحوهم، وفي تلك الفترة كان يتعا يش في فرنسا ثم أوربا الخطاب العاقل والخطاب المجنون، ولم يكن يفصل بينهما فاصل، والمؤلف يحسب أن الفترة الواقعة بين تاريخي العزل الاجتماعي 1656- 1793 م هي فترة القرون الوسطى مع أنَّ (ديكارت) أغلق مرحلة العصور الوسطى في العام 1641م [15]، فأوروبا تجاوزت القرون الوسطى، ودخلت العصر الحديث في الفترة الواقعة بين تأريخي العزل المذكورين،ودخلت في أبعد تأريخ، أعني العزل الاجتماعي الأول، العصر الحديث قبل ما ئة وأربع وستين سنة على تقسيم،أو مائتين وثلاث سنوات على تقسيم آخر.

فرنسا لم تعرف الازدواجيةإزاء الحمقى والمجانين:

وليس صحيحاً أنَّ أوروبا،ولعل المؤلف يقصد فرنسا على وجه التحد يد، عرفت الازد واجية في الموقف إزاء الحمقى والمجانين في وقت واحد، فبين فلسفة( ديكارت) التي رفضت تعايش الخطاب العاقل مع الخطاب المجنون العام 1641 م وبين كتاب (ابن أخي رامو) الذي أصدره الفيلسوف (ديدرو) المتسا مح مع المجانين العام 1862 م فترة من الوقت لاتقل عن مائتي وإحدى وعشرين سنة، وبين فلسفة (ديكارت) والثورة الفرنسية التي حررّت أولئك قرابة ثلاثمائة وبضع وأربعين سنة، فأ ين الإزدواجية التي ظهرت في أوروبا في وقت واحد؟ وتبرز مرة أخرى مشكلة تصرف المؤلف بنصوص مصادره وتطويعها لتأييد وجهةنظره، فقد أورد نصاً من مصدر يتحدث عن قانون العزل الاجتماعي الأول في باريس، جاء فيه أنه بمقتضى قانون العزل:( وضع عشرات الآلاف من الحمقى والمجانين والمشعوذين والمتسولين والمنبوذين في أسوار السجون التي عزلتهم عن المجتمع) [16]، وأصل النص في مصدره كما يلي:(في العام 1656،و بناء على فرمان (قرار) ملكي تم في باريس تأسيس المستشفى العام، وخلال شهر واحد قبض على أكثر من 1% من سكان باريس، ووضعوا فيه،واعتبروا جميعاً مجانين.

ولهذا السبب لم يسجن فيها الأشخاص المعتبرون مجانين فقط، وإنما سجن أيضاً الفقراء ذوو العاهات والعجزة البائسون والشحاذون والمتسكعون التائهون والعاطلون عن العمل والمصابون بالأمراض الجنسية والشاذون جنسياً.. إلخ يضاف إلى ذلك العاهرات والفاسدون أخلاقياً) [17] ولم تكن في النص الأصلي، ولا في المقالة كلها إشارة واحدة إلى الحمقى، ولم يذكر النص أنَّ عدد المقبوض عليهم من المجانين وسائر الطبقات الاجتماعية المنبوذة الذين زجت بهم السلطة في السجن بلغ عشرات الآلاف، وهذا رقم غير دقيق،ومبالغ فيه، ويخيل إلى المرء أن هذا الرقم (عشرات الآلاف) يكاد يعادل عدد سكان باريس يومذاك،أو يقترب منه، فا لنص يذكر أنَّ أكثر من 1 % من سكان باريس قبض عليهم خلال شهر واحد، معنى ذلك أنَّ عدد السجناء مهما كان كبيراً، فلا يصل إلى عشرة آلاف، فما بالك بعشرات الآلاف، ويذكر مصدر آخر أنَّ العدد كان ستة آلاف ليس غير [18] وهذا رقم يمكن الاطمئنان إليه، فكم تبدو المسافة بعيدة بين عشرات الآلاف وستة آلاف؟ والمؤلف رأى أنّ الثورة الفرنسية (أعادت الاعتبار للحمقى والمجانين في حدود مصلحتها.) [19]، بينما ذكر مصدر المؤلف أنَّ الثورة أعادت الاعتبار إلى المجانين، ولم يشر إلى الحمقى.

ليس لظاهرة الحمقى والمتحامقين في المجتمع العربي والعباسي أعداء أوأصدقاءاستندوالى منطلقات نظرية:

إنَّ ظاهرة الجنون التي عزلتها السلطة البرجوازية عن المجتمع استناداً إلى فلسفة (ديكارت) والتي لم تتحرر إلاَّ بقيام الثورة الفرنسية.

وأفكار الفيلسوف (ديدرو) المتعاطف مع المجانين،تقودنا إلى إلقاء السؤال التالي: هل كان لظاهرة الحمقى والمتحامقين في مجتمعنا العربي أعداء وأصدقاء استند واحقاً إلى منطلقات نظرية تؤيد مواقفهم كما في ظاهرة الجنون في فرنسا؟ أما أنا فأرى أنَّ أعداء الحمقى والمتحامقين وأصدقاءهم لم يستندوا إلى منطلقات نظرية تقوي حجهم، وتعزز مواقفهم، هذا إذا افترضنا أنَّ تلك المنطلقات النظرية كانت ماثلة في أذهانهم، أو كانوا سمعوا بها، أو قرأو عنها، فقول عمر بن الخطاب، إن كان له: (احذر الأحمق، لأنه يريد أن ينفعك، فيضرك)، يؤكد على صفاء سريرة الأحمق، وعلى نيته في إرادة الخير والنفع للآخرين، ولكن خشية أن يضع هذا المخلوق المسكين الأمور في غير نصابها، فإنَّ عمر بن الخطاب يدعو إلى الحذر منه، بيد أنه لا يدعو إلى أذاه، أو الإساءة إليه، وحديث الرسول: (الأحمق أبغض الخلق إلى الله، لأنه حرمه أعز الأشياء عليه، وهو العقل.) يدعوا إلى البر يه، والإشفاق عليه، لأنه محروم من العقل، ولم يكن هذا الحرمان بإراد ته،أو كان مسؤولاً عنه، لذا فإنَّ جوهر الحديث يحث الناس للوقوف إلى جانبه، ولا يحرضهم على معاداته أو احتقاره ، فضلاً عن ذلك، فإنَّ هذا الحديث الضعيف لا يصح الاحتجاج به حسب قواعد مصطلح الحديث[(المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) تأليف الإمام شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السّخاوي، المتوفى سنة 902 هـ - ص24 .]]، ولا أدري كيف تمسك بهذا الحديث الضعيف أعداء الحمقى رغم أنه يدعوهم إلى الرأفة بهم، وفاتهم الحديث الصحيح:( روّحوا عن قلوبكم .)

الذي يراه المؤلف متعاطفاً معهم؟ ثم ما تأ ثير حديث الرسول الضعيف ثم قول عمر أمام حديث الرسول الصحيح؟ أماّ بقية الأقوال التحذ يرية كقول الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبي العتاهية وسواهما، فلم يرتكز عليها أعداؤهم حين تشكّل موقف اجتماعي رافض لهم لسبب بسيط هو أنَّ أصحاب هذه الأقوال لم يولد وا بعد ،أيام حملات التشهير والجلد والنفي والقتل التي تعرض لها من أسماهم المؤلف بالحمقى والمتحامقين في القرن الأول للهجرة، ومهما كان لهذه الأقوال من شأن، فإنها لم تدعُ إلى عزل الخطاب العاقل عن الخطاب الأحمق، ولم تدع إلى عزل اجتماعي فضلاً عن أنّها ليست مؤثرة في الحياة الاجتماعية، ولايجسدها المجتمع في سلوكه، كما في فلسفة (ديكارت)، ولم يكن لها تأثير سلبي لأنها أضعف من ان تشكّل موقفاً اجتماعياً معادياً لهم، ولو كان لها تأثير سلبي على المجتمع لكانت شكلت موقفاً معادياً لهم حين أقبلت الدنيا منقادة إليهم، فقد صعد هؤلاء إلى السلطة، وجمعوا المال أيام الخليل وأبي العتاهية المحذرين منهم، وشهد الزمن الذي سطع فيه نجمهم أقوالاً كثيرة تحذر الناس منهم، ومع ذلك ظلت تلك الأقوال عديمة الجدوى والتأثير،أمّا المنطلقا ت النظرية التي يرى المؤلف أن المتعاطفين معهم ، استند وا إليها، فهما قولان ليس غير، أشرنا إليهما من قبل، وكان المؤلف أوردهما على النحو التالي :

  1. حديث الرسول: القلوب تملّ ، كما تملّ الأبدان ..) .
  2. قول أبي الدرداء: (إني لأستجمّ نفسي ببعض الباطل ليكون لها أقوى على الحق.) وقد تعتري القارئ الحيرة إذ يظن أنَّ أعداء الحمقى والمتحامقين استندوا إلى حديث الرسول، وأنّ أصدقاء هم استندوا إلى حديث الرسول أيضاً .فيتساءل: هل من المعقول أنَّ الرسول يدعو مرة إلى رفض الحمقى والمتحامقين، و يدعوا مرة أخرى إلى التعاطف معهم؟ أليس ذلك تناقضاً في الموقف والرؤيا؟ أليسا موقفين مزد وجين لم يصدرا عن رجلين مختلفين، وإنما صدرا عن شخص واحد هو الرسول الكريم؟ أو لم يكن المؤلف محقاً حين ذهب إلى أنَّ الفكرتين:فكرة الرفض والقبول عاشتا جنباً إلى جنب وفي وقت واحد؟ والحق أنَّ حديث الرسول وقول أبي الدرداء يتفقان على دلالة إنسانية واسعة جداً هي إعطاء النفس حقها في المرح والهزل والمداعبة والتندر والمؤانسة ذلك أنَّ الحياة لا تستقيم إذا كانت جداً كلها، ولا تستقيم إذا كانت هزلاً كلها، فلا بد أن تكون بين بين، ولا يجوز حصر هذه الدلالة في إطار ضيّق هو تأ ييد الحمقى والمتحامقين، أو الدعوة إلى التحامق، فهذا تحامل على النصين، وإجحاف بهما، فدلالتهما، لاتدعوإلى التعاطف مع فئة بذاتها، ولكنّها تتجه إلى الإنسان في كل زمان ومكان وبالتالي لا يمكن أن تشكل موقفاً اجتماعياً متعاطفاً مع الحمقى والمتحامقين أو رافضاً لهم

لم تكن المنطلقات النظرية سبباً في تأييدهم أو رفضهم ، فلا هؤلاء ولا هؤلاء ينطلقون من إيدولوجية معينة، لأنه لا توجد أصلاً منطلقات نظرية تدعم هذا الفريق أو ذاك، أو ترتقي في عمق تأثيرها إلى مستوى فلسفة (ديكارت) أو مبادئ الثورة الفرنسية،أو أفكار الفيلسوف (ديدرو) إلاّ مبادىءالدين الجديد التي تجاوزتأثيرها في المجتمع العربي الإسلامي على تأ ثيرفلسفةديكارت أومبادىء الثورة الفرنسية في المجتمع الفرنسي
والمجتمعا ت الغربية، ومبادىء هذاالدين الجديد، تدعـوإلى احترام الإنسان الذي كرّمه الله، وتدعـوأن لايسخر الإنسان من أخيه الإنسان، فعسى أن يكون خيراًمنه، ولا توجد في تراثنا، مهما اختلفت آراؤنا حوله، ايدولوحية تنادي بالعزل الاجتماعي كما في فرنسا وأوروبا، وإذن فالزعم القائل أنَّ الفكرتين:فكرة الرفض والقبول عاشتا جنباً إلى جنب، وفي وقت واحد افتراض نظري محض كالزعم الذي يذهب إلى وجود منطلقات نظرية في تراثنا رافضة ومؤيدة، فكلاهما لا أثر له في الواقع الاجتماعي، ثم أسأ ل: هل كان بين الحمقى والمتحامقين وبين الطبقة الارستقراطية صراع، كما يزعم المؤلف كالصراع الذي أبرزه (فوكو) بين الطبقة البورجوازية في فرنسا والمجانين والطبقات الشعبية المنبوذة؟ إن الإجا بة عن هذا السؤال تتوقف على تحديد دلالة المصطلح، فمن هم الحمقى والمتحامقون في مصطلح المؤلف؟ قلب (فوكو) كما تبيّن من قبل المفهوم السا ئد للجنون، غير أنّ مصطلح الجنون كان واضحاً في ذهنه منذ البداية، وكانت دراسته للجنون محصورة ضمن دائرة الجنون نفسها،لم تخرج عنها، والأستاذ أحمد الحسين قلب هو الآخر المفهوم السائد للحما قة،لكنه خرج عن دائرة الحماقة، إلى دوائر اجتماعية أخرى واسعة، فبعد أن أخذ على غالبية القدماء عدم تبينهم الحد ود الفا صلة بين الحما قة والتحامق والغفلة والتغافل والجنون والتجانن إلاَّ قلة منهم، ميّزت بين هؤلاء وهؤلاء،التزم المؤلف منذ البداية بمصطلحها، إذابه يخرج بعدذلك على دلالة المصطلح أوالمفهوم ليلصق بفئة الحمقى والمتحامقين فئات اجتماعية أخرى.

فعنده (الماجن)الذي يرتكب المقا بح، وهوقليل الحياء،متحامق، و(المخنّث) الذي لايخلص لذكرأوأنثى،ويعاني من شذوذ جنسي متحامق، و(الظريف) وهو الحسن الهيئة، والحلو العبارة، متحامق، و(المندر) متحامق، و(المضحك) الذي غايته إشاعة المسرة في قلوب الناس، متحامق، و(الأبله) و(الطفيلي) كل هؤلاء عند المؤلف متحامقون ،يقول: (وهذه التسميات مهما يختلف معناها، وتتضارب دلالتها، فإنها تصب في المحصلة النهائية في قناة التحامق.) [20]، ويبدو أن رابطاً بنظر المؤلف يربط بين هذه الفئات الاجتماعية، ويشّدها إلى قناة التحامق، فالمتحامقون،عنده، هم من يتخذون مما اشتهروا به من مواهب أو غرائز أو طباع وسيلة للارتزاق والكسب، غير أننا نلاحظ بعضهم لم يتخذه مهنة أو كسباً، ومع ذلك عدّه المؤلف متحامقاً، إنَّ تلك النماذج الإنسانية التي أشار إليها المؤلف، وعدّها متحامقة موجودة في كل زمان ومكان،تزخر بها مجتمعاتنا، وتسميها بأسمائها التي كان القدماء يسمونها بها، ولم يحدث تغيير في التسميات رغم تقادم العهد، ولم تصفهم مجتمعاتنا اليوم،كما لم تصفهم في الماضي بـ(المتحامقين)، وأنا أرى أنّ المؤلف لو أنّه لم يلجأ إلى توسعةدائرة دلالة الحمق والتحامق، ويجعلها فضفاضة، أو أنه فهم التحامق على نحو ما ساد القدماء والمحدثين لما استطاع أن يلتقط ما أسماه بـ(ظاهرة التحامق) في القرن الأول للهجرة، ولكان جلَّ ما اهتدى إليه، لايتعدّى طائفة قليلة من الأسماء مبثوثة هنا وهناك، لا تشكلّ بمجموعها ظاهرة، ولا تقترب منها، لكنه وجد نفسه مضطّراً إلى قلب المفهوم السا ئد للحماقة والتوسع في دلالته ليبلغ بهذا التوسّع تشكيل الظا هرة، ثم يستطيع بعدئذ أن يبحث في تأريخها ومقارنتها مع غيرها لدى الأمم الأخرى، ومفهوم المؤلف أنّ المضحك،أو المندر،أو الفكه،أو الظريف،أو الموسوس،أو المخنث،أو الما جن، أو المجنون، أو المتجانن،أو المغفل،أو الممرور،أوالأحمق هو في نها ية المطاف متحامق، بينما يرى (ابن منظور) في معجمه (لسان العرب) أن الحماقة ضد العقل ونقيضه، والتحامق من تكلف الحماقة، وهو صحيح العقل، وإذا لم يجد المرء نفسه يحظى بشيء من تلك المواهب والطباع والغرائز والميول فبوسعه أن يطمئن أنه ليس أحمق أو متحامقاً، ويقع ضحية هذاالفهم المتعسّـف قطاع واسع جداًفي كل مجتمع من المجتمعا ت الإنسانية، وانطلاقاً من هذا المفهوم،فإنّ القدماء والمحدثين كانوا يعيشون دون أن يد روا في وسط اجتماعي يهيمن عليه الحمق والتحامق، وإنَّ طا ئفة واسعة من كتابنا وعلمائنا وفقهائنا وشعرائنا وقادتنا وفنانينا ممن يميلون إلى المرح والدعابة وممن في طبعهم التهكم والسخرية والضحك،كانوا إذن ، حمقى أو متحامقين . فالصحا بي (النعيمان) عند الأستاذ ، متحامق، لأنه مند ر خفيف الروح، يشيع المرح والضحك بين جلسا ئه حيثما حلّ، وقد عدّه المؤلف المحطة الثانية في (حلقات التحامق التي لم تنقطع)، ويميّزه من الحمقى والمتحامقين أنه لم يتخذ من الحما قة وسيلة للكسب والعيش، ولم يسلم من مفهومه عالمنا اللغوي الكبير (الأصمعي)، فقد زجّه في قناة التحامق، وعدّه متحامقاً، لأنه عرف بالملح، وهذا ما يوحي إليه بقوة سياق نصه التالي: فقد كسب المجان والمتحامقون ثروات طائلة بحماقاتهم، وأصبحت الحما قة نوعاً من الامتياز الاجتماعي والاقتصادي، ولا غرابة أن نجد علماً بارزاً كالأصمعي يقول:

(بالعلم وصلنا،وبالملح نلنا ) [21]، وبهذا المفهوم يمكن أن يكون(الجاحظ )و(المازني ) وغيرهما حمقى أو متحامقين،وقا نا الله جميعاً من الوقوع في هذه الدلالة:من كتب عنهم ، ومن درس، أوقرأما كتب عنهم . وهكذا يتبيّن أنَّ للحماقة والتحامق مفهومين مختلفين، مفهوم واضح ومحدد سائد التزم به القدماء والمحد ثون، وآخر ضبا بي فضفاض،متعسّف، اعتمده المؤلف في كتابه.

ليس بين السلطة والحمقى والمتحامقين صراع كما هوالحال في فرنسا:

ويبرز هنا سؤال: أحقاً كان بين الحمقى والمتحامقين وبين السلطة صراع،كما زعم المؤلف، على غرار ما حدث بين السلطة والمجانين في فرنسا؟ لم يذكر لنا القدماء، ولم يحد ثنا التاريخ أن بلاد الشام شهدت في القرن الأول للهجرة أزمة اقتصادية حادة، كما شهدتها باريس أرغمت الطبقة الارستقراطية أن تزج الحمقى والمتحامقين والعا طلين عن العمل بالمشا في التي جعلتها سجوناً كي تمتص نقمتهم، وتحمي النظام من خطر اندلاع انتفاضات الجوع والخبز، ولم يحدثنا هؤلاء أن الطبقة الارستقراطية اعتبرت أولئك جميعاً يداً عاملة احتياطية رخيصة، إذا تلاشت الأزمة بدأت باستغلالهم من جديد، كما حدث في باريس. ووفقاً لمفهوم الحمقى والمتحامقين السائد الذي يتفق مع دلالته اللغوية، فإ نه لم يكن هناك صراع بينهم وبين السلطة، كما أنه، وفقاً لمفهوم المؤلف الضبابي الفضفاض، لم يحدث أيضاً صراع بينهم وبين السلطة عدا نفراً منهم هم المخنثون الذي رأى المؤلف في وجود هم خطراً يقوض أركان ليس القيم والمبادئ والأخلاق العامة للمجتمع فحسب، وإنما سلطة الطبقة الارستقراطية أيضاً، مثلما كان وجود المجانين والطبقات الشعبية في فرنسا يعد خطراً على سيادة الطبقة البورجوازية الحاكمة،

ضرورة التمييزبين المخنثين والمتحامقين:

ولكن هل حقاً كان وجود جما عة المخنثين يشكل خطراً على بني أمية كالأخطار الكبرى المحد قة بهم التي تمثلها الجماعا ت والتيا رات والأحزاب المعا رضة والمعادية لهم؟ إنَّ خطورة هذه الجماعة على سلطة الطبقة الارستقراطية لم تأتِ من كونها حمقى أو متحامقة ، يزعزع وجودها كيان الطبقة الحاكمة، ولم يكن خطرها مقصوراً عليها وحدها،كما ذهب إلى ذلك المؤلف، وإنما كان خطرها تعدّى هذه الطبقة إلى المجتمع بأسره، فهي تمردت على آدابه العامة، واخترقت القيم والمثل والأخلاق التي د عا إليها الدين الجديد، وقد كان المخنثون منحرفين وشاذين جنسياً، يدعون إلى الإباحية، ويجمعون بين الرجال والنساء، وبذلك كان وجودهم خطراً أكيداً على وحدة هذا المجتمع الجديد الناهض وسلامة أمنه، فكان لزاماً على السلطة، وهي المسؤولة عن حما ية الأخلاق والآداب العامة أن تحمي المجتمع من انحراف هذه الجماعة، وأن تتخذ منها موقفاً صا رماً، وليس خا فياً أنَّ القوانين والأنظمة تحمي، في كل زمان ومكان ، الأخلاق والآداب العامة من الانحراف، وتعاقب كل من يخلّ بها، أو يخترقها عقوبات تتفاوت شدة وقسوة، ولا شك أنَّ عقوبة الخصي التي كانت تؤدي غالباً إلى الموت، لم يكن يعرفها المجتمع العربي وحده فحسب، وإنما كانت مألوفة لدى مجتمعات أخرى كثيرة، ولا يستبعد أنّها انتقلت إلى العرب من تلك المجتمعات، غير أنَّ المؤلف يرى في سلوك هذه الجماعة المنحرف تعبيراً عن تمرد شعبي، وتململ مما هو سا ئد، ويثب السؤال: هل المقصود بـ(السائد) الأخلاق والثقا فة والآداب العامة التي كانت تحميها الطبقة الحاكمة؟ وهل كان هناك تمرد شعبي عليها؟ وإذا كان هناك تمرد شعبي عليها حقاً، فهل كان اللواط والشذ وذ والإباحية هو الوجه الحقيقي الآخرللمجتمع؟ وعلى سبيل الافتراض لو أنَّ تململاً شعبياً لم يحدث قط على السلطة، أفكان هؤلاء المخنثون يكفّون عن المنكر، ويرتد عون عن الفحشاء؟ أمَّا المؤلف فيصف العصر الذي عوقب فيه المخنثون بالخصي، وهو القرن الأول للهجرة، بأنه (عصر القيم المنكسة الرأس) [22]، وهنا أسأل: لو أن السلطة تهاونت في حما ية الأخلاق والآداب العامة، فأرخت العنان للمخنثين والعاهرين والمنحرفين، وسمحت لهم بممارسة فرد يتهم وحريتهم بملء إرادتهم، فاستباحوا الأعراض، وجمعوا بين الرجال والنساء، فبماذا يمكن أن يسمي المؤلف ذلك العصر؟ أكان يسميه، مثلاً ، عصر القيم التي ترفع الرأس؟ وقد رأى أنه ذهب ضحية ذلك العقاب الذي يصفه بأ نه غير إنساني، عدد من المخنثين،ذكر أسماءهم ، وهم: (طويس، والدّلال، وطريف، ونومة الضحى، وزرجون، وهنب، واَبن نفّاش) [23]، وهؤلاء الذين أبدى المؤلف تعاطفه معهم لوطيون منحرفون عاهرون، حاربوا بسلوكهم تعاليم الدين الجديد، ونحن لا نعرف لهذه الجماعة أقوالاً أو آراء أو اشعاراً تعبر بها عن ذاتها. وتفصح عن عالمها.

العصر الذي عوقب فيه المنحرفون جنسياً في العصر الإسلامي (عصر القيم المنكسّة الرأس):

وصف المؤلف العصر الذي عوقب فيه المنحرفون جنسياً بأنه (عصر القيم المنكسّة الرأس)، فهو لم ينظر إلى القرن الأول للهجرة من خلال ما شهده من نقلة حضارية رائعة، وإنما نطر إليه على طريقه (فوكو) في الاختراق لإبراز الجانب الآخر لمجتمع هذا القرن، الجانب الذي يراه مظلماً، وأي جانب؟ الجانب الذي مسَّ حياة هذه الشرذمة الشاذة بالمفهوم الدقيق للشذ وذ، والمتعارف عليه عبر العصور، على أنَّ معاقبة هؤلاء لا تعني معاقبة الحمقى والمتحامقين جميعهم، فالمخنثون لا يشكلون إلاَّنسبة قد تكون قليلة من فئات الحمقى والمتحامقين بمفهوم المؤلف،

أغلبية الحمقى والمتحامقين شعرت بالأمان والاطمئنان في قصور الطبقة الارستقراطية:

أَمّا أغلبية الحمقى والمتحامقين فشعرت بالأمان والاطمئنان في قصور الطبقة الارستقراطية حيث احتضنتهم، وأكرمتهم في الوقت الذي عاقبت فيه المخنثين إلى درجة أنَّ بعض الولاة كان يطلب أن يحُمل إليه الحمقى والمتحامقون رغماً عنهم ابتغاء التسلية والترويح عن النفس، و هؤلاء لم يكن مكانهم السجون أو المشا في كما كان عليه حال المجانين في فرنسا، وإنما كان في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء والولاة، وقد أشار المؤلف إلى عدد منهم كـ (بديح) و(أشعب) وغيرهما وفي رحاب هذه البلاطات وتلك القصور جمع هؤلاء ثروات، وبلغوا منازل، لم يبلغها سواهم، فكيف يكون بين السلطة وهؤلاء صراع، وكثير من أفراد الطبقة التي تبحث عن التسلية والنادرة والضحك،بمفهوم المؤلف،حمقى أو متحامقون؟ ولم يحدث لمجتمعنا العربي في القرن السا بع للميلاد ما حدث للمجتمع الفرنسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، رغم ما بينهما من فاصل زمني يمتد إلى أكثر من عشرة قرون، شهدت مجتمعات العالم خلالها تطورات سريعة على مختلف الأصعدة. فلا شيء من الصراع الذي ذكره المؤلف قد حدث،ولا منطلقات نظرية اعتمد عليها هذا الصراع، كما زعم ،ولم يكن هناك عزل اجتماعي شهده مجتمع القرن الأول للهجرة في الحجاز، ولم تكن التقاليد العربية أو الدين الجديد يدعو إلى مثل هذا العزل.

لا أسا س للمقارنة بين ظاهرتي الحماقة والتحامق في المجتمع العربي أو العباسي والجنون في المجتمع الفرنسي:

والمقارنة بين ظاهرتي الحماقة والتحامق في المجتمع العربي أو العباسي والجنون في المجتمع الفرنسي التي اعتمدها المؤلف من حيث الإدانة والقبول أو العزل لا أساس لها من الواقع لانتفاء وجود الحد الأدنى من أوجه الشبه بينهما، هذا إذا افترضنا وجود ملامح واضحة لظاهرة الحماقة والتحامق في القرن الأول للهجرة استناداً إلى مفهومها الدقيق والسائد قديماً وحديثاً. إنَّ العرب نهضوا في القرن الأول للهجرة لنشرالرسالة، فجابوا الآفاق، وفتحوا الأمصار، واختلطوا بغيرهم من الأمم والشعوب، فأثرّوا فيها، و تأ ثروا بها، وبسبب هذا الاختلاط أدّى تمازج الثقافات والحضا رات إلى تطور المجتمع العربي وتحضّره، فارتقى العقل العربي، ونشطت عند العرب حركة التأليف في اللغة والآداب والدين ومختلف العلوم الأخرى، وكانت الحجاز في القرن الأول للهجرة مركزاً لنشر الدين الجديد الذي تدعوا تعاليمه إلى العلم والحق والعدل والمس واة، ثم انتقل هذا المركز في القرن الثاني، وما تلاه من قرون إلى بغداد، فكانت بغداد مركز إشعاع حضارياً إلى العالم كله، وكان هذا العصر، أعني القرون الثلاثة الأولى للهجرة تقريباً، يمثل أرقى عصور العرب حضارة وازدهارا. وكان للمجتمع العربي الإسلامي سمات متناقضة تعكس طبيعة ذلك العصر، فهو من جهة مجتمع العلم والتحضر والتدين والزهد والجد،وهو من جهة أخرى مجتمع المجون والخلاعة واللهو والجهل والفساد، هذه السمات باتت حقا ئق كبرى شائعة .

إخفاق بحث المؤلف في بلوغ النتيجة التي توصل إليها فوكو:

لكنّ هذه الحقائق الكبرى لا يريدها المؤلف، ولا يلتفت إليها، وإنما يريد اختراقها وإسقاطها واستبدالها بالحقائق المطموسة التي لم يعرفها أحد، يريد أن يدرس الوجه الآخر للمجتمع العباسي، الوجه المرفوض، وجهه السالب، أو المعتبر كذلك جرياً على منهج (ميشيل فوكو) الذي رأى أنَّ الجنون يوصل إلى الحقيقة،إلى الوجه الآخر للمجتمع، إذ قال: (لقد علمتنا التجارب أنه غالباً ما نستطيع التوصل إلى الحقيقة عن طريق اغتصاب العقل) أي الجنون [24]، فرأى مؤلف الكتاب أنَّ دراسة ظاهرة التحامق توصلنا إلى الحقيقة الغائبة، إلى الوجه الآخر للمجتمع العباسي، الوجه السلبي له من خلال د راسته نصوصاً من أدب الحمقى والمتحامقين، ذلك أنَّ فئات الحمقى والمتحامقيين، وهي طبقة اجتماعية يراها المؤلف عريضة واسعة، عبّرت عن أوضاعها المادية والاجتماعية البائسة المعدمة من خلال أدبها الذي يرى أنها تزيح النقا ب به عن الوجه الآخر للمجتمع العباسي، فما هو الوجه الآخر لهذا المجتمع، كما بدا للمؤلف في تلك الفترة؟ وبعبارة أخرى: ما هي هذه الحقيقة المطموسة أوالغا ئبةالتي أبرزتها نصوصهم للمؤلف؟ في مقالته الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) المثيرة للجدل والخلاف معاً، يسرع المؤلف في بداية المقالة، وقبل دراسة نصوصهم إلى تقرير النتيجة التالية مقدماً: (إنَّ أدب الحمقى قد انطلق من خلال استيعاب أدبا ئه لاشكالية الواقع والفكر، والعقل والجنون، واكتشاف آلية التحولات الاجتماعية بصورتها الشاذة، وغير الطبيعية التي شكلّت صدمة قاسية للذين لم يألفـواسوى ذلك الوجه اللّماح الذي رسمته نصوص الأدب الرسمي بطريقة تجافي الواقع، وتخالف الحقيقة على نحو كبير.

وهذا الأمر الذي لا يمكن أن ينكره باحث، أو يتعالى عليه دارس هو أنَّ العقل الذي هو من الناحية النظرية مصدر الفعل، والإرادة والوعي، ومن ثم مصدر القيادة والتوجيه، قد فقد د وره، وأقصي جا نباً أمام سيطرة قوة اللاعقل الآمر الناهي الذي يتصرف على هواه دون تفكير أو تحليل، وما ينجم عن هذه الإشكالية التي كانت قا ئمة في زمن المتحامقين العباسيين، لايقتصر على الصراع الفكري، ولكنه ينسحب على الواقع، و تترتب عليه نتا ئج غا ية في الخطورة، فإذا كان العقل قد خسر مكانته متراجعاً أمام طغيان اللاعقل، فإنَّ ذلك يعني هيمنة الجهل على العلم والأمية على المعرفة،واللهو والعبث على الجد والعطاء، و هذه المفارقة بين قوتين هي التي دفعت بفئة اجتماعية إلى الصدارة والوجاهة، وأقصت أخرى حيث يتحكم الجاهل بالعاقل، ويسود الأمي على المثقف، ويقرب الهازل، ويبعد الجاد ، وباختصار يكون عندئذ زمن الحماقة والجنون [25]، ثم يختار المؤلف بعد ئذ نماذج معينة من نصوص الحمقى والمتحامقين لد راستها، ويختار حوادث معينة لهم ضمن هذا السياق، سأورد بعضها، فالمؤلف يرى أنَّ الزمن الذي عاشت فيه هذه الفئات إنما هو زمن الحما قة والجنون، أو عصر الحمقى وازدهار دولتهم،وطغيان سلطتهم، لأن الشا عر يقول:

إذا كان الزمانُ زما نَ حُمــقٍ
فإنَّ العقلَ حرمانٌ وشوم
فكن حَمِقاً مع الحمقى فإ ني
أرى الدنيا بدولتهم تدوم

ويرى أنه زمن البهلوانيات، إنه الزمن الذي يخالف منطق الوجود والحياة بطريقة عجيبة، ما أشبه الزمن فيها بالإنسان الذي يسير على يديه، مكبوب الرأس، ورجلاه إلى الأعلى، ونظره إلى الوراء، وهو يمشي القهقرى! هذه صورة زمن الحمقى والمتحامقين، كما يصفها أحدهم، إذ يقول:

أرى زمناً نَوْكا ه أســعد أهلـــــــه
على أنه يشــقى به كلّ عاقل
سعى فوقه رجلاه ، والرأس تحته
فكبَّ الأعالي بارتفاع الأسافلِ

ثم يضيف المؤلف قائلاً: (وفي وسط كهذا لايفقد العقل مكانته فحسب، ولكن المرء يجد نفسه أمام خيارين عسيرين، فإماّ أن يتشبث الإنسان بعقله، أو يرتاد مسرح الجنون، وفي الحالة الأولى، فإن التمسك بالعقل في وسط غير عاقل هو الجنون بعينه، وهو الفقر والحرمان والكساد، في حين أنَّ الولوج في دنيا التجا نن والتجاهل يفضي بالأديب إلى المشاركة في اغتنام ذلك الزمن المقلوب) [26] .. إن الجنون كما قال (فوكو) قد يكون الطريق لفهم الواقع، وهذا ما رآه المتحامقون مكتشفين من خلاله مفارقة الجهل والعلم، الفقر والغنى، لذلك اندفعواإلى سلك التحامق ما دام ذلك النهج هو السبيل إلى حياة يجد الانسان فيها ما يطيب له، كما يخبرنا القمي:

تحامقْ تطب عيشاً ، ولا تك عاقلاً
فعقلُ الفتى في ذا الزمان عدوّه
فكم قد رأينا ذا نهىً صار خـــاملاً
وذا حُمُقٍ في الحمًق منه سـموّه

ويرى أنَّ أدب المتحامقين في رصده لصراع المعقول واللامعقول، كان يتجاوز هذه الاشا رات العا برة ليقف عند مظاهر ذلك الصراع ومنعكساته، وبالتالي فهو يفجر أزمة المعاناة التي كان الناس يعيشونها عامة، والأدباء خاصة، ثم يستعرض صراع المعقول واللامعقول من خلال مظاهر متعددة،منها مأساة الجهل المسيطر، والقوة الطاغية التي تجسدت على الصعيد السياسي بهؤلاء القوّاد والطبقة الحاكمة، فيورد على ذلك مثالاً،هو سؤال المعتصم وزيره أحمد بن عمار البصري عن الكلأ،ما هو؟ فقال:لا أدري،فقال المعتصم:خليفة أمي ووزير عامي، وعن صورة الجهل المستبد المتغطرس الذي كان يستهين بالعقل، ذكرالمؤلف الرواية التي تقول:إنَّ المنتصر استوزر أحمد ابن الخطيب،وكان ركب ذات يوم، فتظلّم إليه متظلم بقصة،فقتله، فتحدث الناس بذلك، وقال فيه أبو العيناء،الشاعر المتحامق:
قل للخليفة يا بن عم محمد
اشـكل وزيــرك إنّه ركّال

ويمر المؤلف على ابن العباس ذي التصرفات العجيبة الغريبة، ويرى أنه واحد من عشرات الأسماء التي لا تقل عنه تهوراً وطيشاً في الوقت الذي أصبحت أمور الناس ترجع إليه وإلى أمثاله، مما دفع الشاعر ابن بسام إلى نعي الدولة والخلافة ما دام هؤلاء الجهلة هم أصحاب الرأي والتوجيه،كما يقول :

أيرجـــو الموفق نصر الإله
وأمر العبــاد إلى دانيـه
ومن قبلها كان أمر العباد
لعمر أبيـــك إلى زانيه

إلى آخر هذه القصيدة، ويرى أنَّ أبيات ابن بسام، وقد عدّه المؤلف في هذا السياق شاعراً متحامقاً، ترسم صورة دقيقة عن صراع العقل واللاعقل، ويقول إنها: (صورة لا نلمحها كثيراً في الشعر الرسمي لابتعاد شعرائه عن الهم الاجتماعي.) [27] كما بدا في شعر الحمقى والمتحامقين الذين امتلكوا رؤية نافذة للواقع بكل أبعاده. ويرى أنَّ شخصية الجاهل الغني في هذا العصر أصبحت نموذجاً للاحترام والتقدير، وتحظى بالقبول والإعجاب مشيراً إلى الحاد ثة التالية: دخل أحد الشعراء، على (ابن شوذب) وهو الذي يضرب به المثل في كثرة الأموال، فأتي برعيل من الخيل، فتأملها، وقال: اخرجوا منها ذلك المرعزي، ثم أتي بقطيع من الغنم، فقال:لا تذ بحوا ذلك الأدهم، وكان الشاعر مدحه بقصيدة، فلما رأى ذلك خرج من عنده،لم ينشده،وأنشأ يقول:

لا يعـــرف الضـأن من المعزى
ويحسب الأد هم مرعز
صفت له الدنيا ، وصاقت لنا
تلك لعمري قسمة ضئزى

وعلى هذا النحو تمضي في هذه المقالة بقية الحوادث والنصوص الأخرى، فإذن الحقيقة المطموسة التي أبرزها المؤلف هي طغيان اللامعقول على المعقول، وهيمنة الجهل على العلم، والأمية على المعرفة، واللهو والعبث على الجد والعطاء، وتحكم الجاهل بالعاقل، وسيادة الأمي على المثقف، هذا كله يمثل الوجه الآخر للمجتمع العباسي في العصر الذي يعتقد الناس أنه العصر الذهبي رغم كلّ ما فيه، لكنَّ هذا الاختراق لما هو سائد، يثير أسئلة عديدة: هل حقاً كانت نصوص المتحامقين تبرز هذه الحقيقة المطموسة عن المجتمع العباسي،وتشير بوضوح إلى هذا الوجه؟ وهل كان هذا الوجه يعكس حقيقة واقع المجتمع العباسي في ذلك العصر؟

غرض المتحامقين من رسم الوجه القاتم للمجتع العباسي:

هل من غرض آخر وراء رسم هذا الوجه القاتم الكالح لهذا المجتمع؟ ومن المستفيد منه ؟.... لقد تبين أنَّ بعض المتحامقين كانوا يدعون إلى نبذ العقل، كما تشير إلى ذلك نصوصهم الواردة في كتاب المؤلف، إذْ يرون أنه لا جدوى من التمسك به في زمن لا مكان فيه للعقل، ذلك أنَّ العقل بنظر هؤلاء فقر وحرمان وشؤم، أما نبذه فيجلب الرزق، وطيب العيش وارتقاء إلى المنزلة المرموقة، واستناداً إلى رأي هؤلاء، وهم بضعةأشخاص، راح المؤلف يطلق حكماً، عمّمه على هذا الزمن، بأ نّه الزمن المقلوب الذي يسيطر فيه اللاعقل على العقل والجهل على العلم، فالعقل فيه منبوذ، ونبذ العقل في هذا الزمن يؤدي إلى اكتشاف الواقع على نحو مخالف لما هو سائد مثلما رأى (ميشيل فوكو) في الجنون طريقاً إلى فهم الواقع. وهنا ألفت النظر إلى أمر هام هو أنَّ هؤلاء الداعين إلى نبذ العقل،لم تكن عقولهم مغتصبة، وإنما كانوا عقلاء واعين، يعون ما يفعلون، فتصرفاتهم وأعمالهم وحوادثهم ونصوصهم ما كانت تصدر إلاّ عن إدراك عميق للواقع، وهذا ما أكده المؤلف، فإذن المتحامق رجل سوي ليس مصا باً بخلل عقلي، أو مايشبه الخلل العقلي، وهو ليس مجنوناً مثل مجانين (فوكو) وهذا المتحامق أو المتجا نن يفهم الواقع عن طريق العقل مثل العقلاء الآخرين،لايختلف عنهم بشيء، ثم إنَّ آراء هؤلاء لا تعكس آراء بقية فئات المتحامقين والمتجانين، ولاآراء الحمقى والمجانين، وبالتالي لا تعكس حقيقة ذلك العصر الغا ئبة على نحو دقيق.

بعض نصوص المتحامقين لاتؤيد مايذهب إليه المؤلف:

فهناك عدة نصوص أخرى للمتحامقين وردت في كتاب المؤلف تدعو إلى نبذ الجهل، وتؤكد على أهمية العلم والتمسك بالعقل، وقد خالف متحامقون آخرون أولئك في الرأي، وعلى سبيل المثال، فأ بو نواس الخليع الماجن، وهو ممن عدّ ّهم المؤلف متحامقين، كان ينادي بالحكمة،ويدعوا إلى العقل، كما يقول في البيتين التاليين اللذين أوردهما المؤلف:

إِني أنا الرجل الحكيم بطبعه
ويزيدُ في علمي حكاية من حكى
أتتبـع الظرفاء أكتبُ عنـــهمُ
كيما أحدّث من أحبّ فيضحكا

إنَّ أبا نواس يعرّفنا،هنا بنفسه أنه الرجل العاقل المثقف الذي يبحث عن حلقات العلم، ويتابع مجالس الظرفاء وقول الأصمعي الذي
عد ّه المؤلف متحامقاً بسبب مُلحَه:( بالعلم وصلنا .. وبالملح نلنا) دليل أنَّ العقل،وليس نبذه، يوصل المرء إلى المكانة العالية في المجتمع، وهناك نصوص في الكتاب تؤكد أنَّ عصر المتحامقين هو عصر العلم والعقل لا عصر الجهل ونبذ العقل، كما سنرى ذلك، وهنا أود أن أقف مرة أخرى عند تعامل المؤلف مع النص، فأقول: إنَّ تصرفه بنصوصه لم يقتصر على الإضا فة والحذف بما يعزز وجهة نظره فحسب، كما رأينا ذلك من قبل، ولكنه يستنطق حوادث نصوصه، كما سنرى بعد قليل، دلالات تؤيد ما يذهب إليه، ليست هي في الحقيقة مستمدة من روح بعض هذه النصوص، ولا من مضامينها، وسأكتفي بالإشا رة إلى بعض الحوادث التي سلفت الاشارة إليها لنرى كيف أنَّ المؤلف حمّلها دلالات ليست لها، وفوق طاقتها، ففي معرض حديثه عن تحكم الجاهل بالعاقل،أورد الحاد ثة التالية ليبرهن فيها أنَّ شخصية الجاهل كانت (نموذجاً للاحترام والتقدير،وتحظى بالقبول والإعجاب مما يدفع العاقل والعالم والأديب على مخاطبة ود هذا الجاهل، ومحا با ته، والإشادة بمناقبه)[المقالة الخامسة ـ ص125 .]]، دخل أحد الشعراء على (ابن شوذب)، وهو الذي يضرب به المثل في كثرة الأموال، فأتى برعيل من الخيل، فتأملها، وقال:اخرجوا منها ذلك المرعزي، ثم أتي بقطيع من الغنم، فقال: لا تذبحوا ذلك الأدهم، وكان الشاعر مدحه بقصيدة، فلما رأى ذلك خرج من عنده، ولم ينشده،وأنشأ يقول :

لا يعرف الضــــأن من المعزى
ويحسب الأدهـــــم مرعزى
صفت له الدنيا ،وصاقت لنا
تلك لعمري قســــمة ضئزى

إنَّ هذه الحادثة تنقض ما ذهب إليه المؤلف، فهي تدين الجهل و الجهلاء إدانة صريحة، وتشير إلى أنَّ غنى الرجل وحده ليس كافياً ما لم يكن مقترناً بالمعرفة،كما تشير من جهة ثانية أنَّ العالم أو الأديب أو الشاعر يربؤن بأنفسهم عن مدح غني جاهل مهما ضاقت بهم الدنيا، وساءت أحوالهم . إنَّ الشاعر أعدَّ لـ(ابن شوذب) الغني قصيدة يمدحه فيها، فلما تبين له جهله، فلا يعرف الضأن من المعزى، عزّ عليه مدحه، فعاد من حيث أتى على شدة عوزه، ولم يكتف الشاعر بذلك، بل هجا جهله، وهذا دليل على نفـور العاقل والعالم والأديب من الجاهل والجهلاء، كما أنه، على عكس ما ذهب إليه المؤلف، انتصار للعقل والعلم والمعرفة، أماّ الحادثة الأخرى التي يراها المؤلف (وثيقة دامغة عن دولة الجهل وتحكم اللامعقول بالمعقول)، فهي استيزار المعتصم ابن الزيات، فالمعتصم كما تقول الرواية، سأل وزيره السابق أحمد بن عمار البصري عن الكلأ، ما هو؟ فقال: لا أدري. فقال المعتصم:خليفة أمي، ووزير عامي، انظروا من بالبا ب، فوجدوا ابن الزيات، فسأل عن الكلأ، فقال العشب على الإطلاق،وشرع في تقسيم النبات، فاستوزره. [28] الرواية تذكر أن المعتصم أمي، أماّ الطبري فيذكر في تاريخه أنه يقرأ الكتب. [29] وينشىء الكتب إلى عمّال [30] والمسعودي ذكر ذلك أيضاً [31]

ومع ذلك فلو سلّمنا بصحة الرواية على أميّة المعتصم، فهل من المعقول أنَّ المعتصم، وقد نشأ في بيت العلم والأدب، وفي بلاط يؤمه الفلاسفة والأدباء والمفكرون، واللغة الفصيحة كانت لها السيادة في ذلك العصر،لا يعرف هو، ولا وزيره معنى الكلأ وعلى فرض صحة الرواية أنه سأل عن معنى الكلأ، فهل هذا السؤال دليل على الجهل أم دليل على البحث وحب المعرفة؟ ثم كيف يكون إقصاء المعتصم وزيره الأمي دليلاً على تحكم اللامعقول؟ وهل في استيزار المعتصم ابن الزيات، وهو الأديب والكاتب واللغوي المعروف دليل على سيطرة الجهل على المعرفة كما يرى المؤلف ذلك؟ والمؤلف يرى ابن الزيات( رمزاً للجهل مقروناً بالاستبداد)لأنه يعذب المغضوب عليهم بتنور من الحديد،رؤوس مساميره في داخله، نعم!في الجهل استبداد،ولكن ليس الاستبداد دليلاً على الجهل في كل الأحوال،وليس كل من يعذ ّب خصمه جاهلاً، وإلاَّ لكانت النظم المعاصرة التي تنتهك حقوق الإنسان اليوم جاهلة،مع أنها، وما أكثرها ! تنشد التحضر، وتسعى إلى العلم والتطور، وبعضها متقدّم اقتصادياً وصناعياً، ثم يعقب على تلك الحاد ثة قائلاً:(وهي بالتأكيد واحدة من عشرات الحوادث في الموضوع ذاته)، فإذا كانت عشرات الحوادث الأخرى تمضي على نحو سيا ق الحاد ثة السابقة في دلالتها، كما يقول المؤلف، فأين الدليل فيها على تحكم الجهل بالعلم؟ إنَّ بحث المؤلف في واقع المجتمع العباسي من خلال ظاهرة التحامق ينطلق من نظرة جزئية لاشاملة، فالمؤلف ينتقي من النصوص ما يؤيد مذهبه، ويهمل منها ما يعارضه، كما أشرت إلى ذلك من قبل، وأضيف إلى ما تقدم ذكره الرواية التالية التي ذكرها في كتابه: استوزر المنتصر أحمد بن الخطيب، وكان ركب ذات يوم، فتظلم إليه متظلم بقصة، فأ خرج رجله من الركاب، فزجّ بها في صدر المتظلم، فقتله، فهجاه أبو العيناءالشاعر المتحامق، ثم علّق المؤلف على الحادثة، فقال: (هذه صورة الجهل المستبد المتغطرس الذي يستهين بالعقل، ويسخر من المنطق، ويهزأ بالأصول والأعراف، إنه مشهد للإرهاب).

المؤلف ذكر تلك الحادثة، لكنه أهمل في الوقت عينه الروايات التي تتحدث عن الخليفة المنتصر،أساس الدولة، ورغم أنَّ دولة بني العبا س كانت تعا ني في عهده من فرقة وضعف وجهل إلاَّ أنَّ الروايات كانت تتحدث عن هذا الخليفة، فترى أنّه كان (واسع الاحتمال، راسخ العقل، كثير المعروف،راغباً في الخير،سخياً،أديباً،وكان يأخذ نفسه بمكارم الأخلاق وكثرة الإنصاف وحسن المعاشرة بما لم يسبقه خليفة إلى مثله.) [32]

فلماذا ذكر المؤلف الرواية التي تتحدث عن جهل الوزير وظلمه الذي يستهين بالعقل، وأهمل الرواية التي تتحدث عن عقل الخليفةالراسخ،وعن أدبه وجوده وأخلاقه الرفيعة؟ وكما يتضح في كتاب المؤلف فإن عالم المتحامقين واسع وكبير يعج بالتناقضات، تمور في داخله تيا رات فكرية مختلفة ومتنا قضة في بعض الأحيان، فإذا ما وجدنا بعض المتحامقين يدعو إلى نبذ العقل، وهم عقلاء، فإنَّ آخرين منهم يسعون إلى العلم، ويدعون إلى التمسك بالعقل، وإذا ما أشارت بعض نصوصهم وحوداثهم أو سير حيا ة بعضهم إلى هيمنة الجهل واللامعقول والفساد على زمنهم، فإنَّ نصوصاً وحوادث أخرى في سير حياة بعضهم الآخر كانت تشير إلى أنَّ زمنهم كان زمن العلم والعقل والمعرفة، وأمام هذا الواقع فإنه ليس من أصول المنهج العلمي في شيء أنَّ نعتمد رأياً،ونهمل أو نتجاهل بقية الآراء،أو نعتمد نصاً،ونهمل نصاً أخر يد حضه، فليس من المعقول أن نأخذ رأي نفرقليل ممّن يدعون إلى نبذ العقل، أو نصاً تشير دلالته إلى الجهل والفساد لنعممه على العصر كله،فنحكم عليه أنه عصر تحكم اللامعقول بالمعقول والجاهل بالمثقف والأمي بالعالم وأمامنا نصوص أخرى كثيرة تدحض هذا الزعم، فنصوص بعض من عدّهم المؤلف متحامقين لم تخترق ما هوسا ئد، ولم توفّـق إلى قلب الحقائق،أو تبرز الوجه الآخر للمجتمع،كماكان يهدف إليه بحثه، فما ذكره المؤلف عن هذاالعصر، إنماّ يدخل في إطار النظرة السائدة والحقا ئق المعروفة عن هذا العصر، وهي أنّ الجتمع العباسي في هذا العصر،كان يعيش حياتين متناقضتين: حيا ة العلم والزهد والتدين والعدل، وحياة الجهل والمجون والقصف والفقر.

لقد أفضت دراسة (ميشيل فوكو) لظاهرة الجنون في فرنسا إلى منهج لا يصح استخدامه والاستفادة منه إلاَّ على ظاهرة الجنون نفسها،وفي ظروف اجتماعية مماثلة إنْ كانت في المجتمع الفرنسي أو في المجتمعات الأخرى المشابهة له، ولا يصح استخدام هذا المنهج إن صح التعبير، وبعبارة أخرى، لا يصح تعميم دراسة (فوكو) على ظاهرة الحمقى والمتحامقين في المجتمع العباسي، لاختلاف أوضاع المجتمعين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والد ينية، واختلاف طبيعتهما وهويتهما، فظاهرة الجنون شيء وظا هرة التحامق شيء أخر، ينبغي عدم الخلط بينهما، ويثب إلى الذهن السؤال التالي: هل من دوافع حقيقية أخرى غير ماذكره المؤلف للحمقى والمتحامقين وفق دلالتهما الدقيقة السائدة،المتعارف عليهما، جعلت نصوصهما الأدبية تبرز الوجه المظلم للعصرالعباسي؟ هل دوافعهما حقاً ًقلب الحقائق وإبرازالحقيقةالغائبة، كمايظن المؤلف جرياً على منهج(ميشيل فوكو )أم لهما دوافع أخرى؟ أعتقد أنَّ أدب الحمقى والمتحامقين الذين رسمواصورة مظلمة لمجتمعهم وعصرهم يعكس أحوالهم، ويخدم أغراضهم، فهم، كما قال عنهم المؤلف، كسبوا: (ثروات طائلة بحماقاتهم، وأصبحت الحماقة نوعاً من الامتياز الاجتماعي والاقتصادي.) [33]

فإذن، هؤلاء انسلخوا من واقع الطبقات الفقيرة، وارتقوا بحكم تحامقهم إلى بلاط الحاكم وقصورالقادة والأمراء. وفي هذه الحال، فإنَّ أدبهم، إن كان يحمل همومهم الذاتية، فإ نّ معاناةالطبقا ت الشعبية المحرومة لا نجدها فيه إلاَّ ناد راً، لأنه ابتعد عنها، ولم يعد ينتمي إليها، والتجأ،مثل الأدب الرسمي، إلى البلاط والقصور. لا شك أنَّ في العصر العباسي لا سيما فترة قوته ظلماً وعدلاً، وعلماً وجهلاً، وغنى وفقراً، وإيماناً وفجوراً، وقوة وضعفاً، وهذا أمر متفق عليه، ومن المؤكد في هذا العصر أن العربي ليس ملاكاً أو معصوماً من الخطأ أو مأموناً من العثرات، فهو بشر يخطىء، ويصيب إلاَّ أنه في أغلب الأحوال، يتمتع بعفة نفس تأبى عليه أن يسلك سبيل الابتذال، مهما أدبرت عنه الدنيا، وضاقت به سبل العيش أن يتحامق أو يدع عقله جانباً، وإذاهانت عليه هذه السبيل، فإنَّ عشيرته تردعه، وقد تقتله، وهذا ما حدث لأبي العبر، ولايستبعد أن التحق معه في الانتماء إلى هذه الظاهرة قلة من العرب ممّن غرّربهم، دون أن يد ركوا أبعاد ماأقدموا عليه،وخطورته،فهؤلاء يكادون أن يكونوا استثناء،وقد لقي أبو العبر مقاومة شديدة من أهله وقبيلته، لأنه فضحها بتحامقه بين القبائل،وكانوا يرون في تحامقه عاراً ليس على قبيلته فحسب، وإنما على بني آدم جميعاً، فحبسوه [34]، ويرى المؤلف (أنَّ موته قد يكون جاء على أيدي أحد أقربائه من العباسيين تخلصاً من حماقا ته، وما تسببه لهم من مضايقات بين الناس.) [35] وهذا دليل على رفض العرب الانتماء إلى ظاهرة التحامق رغم تسامحهم مع الحمقى والمتحامقين،وتندرهم بهم.

أصول رموزظاهرة الحمقى والمتحامقين:

لواستعرضنا أصول رموز هذه الظاهرة مثل: (بد يح وأشعب والغاضري وطويس،والدلال وطريف ونومة الضحى وزرجون وهنب وابن نفاش وأبي دلامة وأبي العجل والصيمري والكتنجي) وآخرين غيرهم كثيرين لرأيناهم ينتمون إلى أصول غير عربية، أغلبها من الفرس، منهم من ولد سفاحاً، ومنهم من هو مولىً أو لقيط، ومنهم اللوطي والمخنث والشاذ . ولايخفى على أحد أنَّ العرب حين نشرت الإسلام أطاحت أمجاد فارس ، وقوضت سلطان الفرس السياسي ومرتكزاتهم العقيد ية، ولماّ اعتنق الفرس وغيرهم الإسلام دخلوه بتقاليدهم وعقائدهم الموروثة، وحضارتهم العريقة،لكن قلوب الكثيرين منهم لم تصف للعرب، إذْ كا نوايتحينون الفرص من خلال هذا الدين الجديد للإيقاع بهم أو القضاء على سلطانهم ثأراًلهزائمهم واستعادة لأمجادهم المند ثرة، ولأجل تحقيق هذا الهدف،فإن تيا راً واسعاً من الفرس لجأ إلى كل الوسائل المتاحة والسبل الممكنة لتشويه صورة العرب وإسقاط دولتهم، فتعالوا عليهم، وازد روا حياتهم، وغضوا من مكا نتهم، ووصموهم بالجهل مرة وبالبداوة والتخلف مرة أخرى، وشككوا في قد رتهم على التطور والتحضر، وهذا ما تجلى واضحاً في تيار الشعوبية المعادي للعرب، وهو في حقيقة الأمر غزو ثقافي منظم، والمؤلف يرى أنَّ المتحامقين كانوا يدركون وحدة انتمائهم، وأنَّ العلاقات فيما بينهم كانت مترابطة قوية رغم ما كان بينهم من خلاف أو تناقض، وكانوا قد أقاموا لأنفسهم مراتب ينتظمون فيها، وإذا كنت أتفق مع صديقي الأستاذ أحمد الحسين الذي رأى أنَّ (بعض هذه المواقف الانتقادية قد يكون من ورائها توجيه يصدر عن فئة أو جماعة تتخذ من المتحامقين أداة لها في النيل من الخصوم والتشهير بهم والتنديد بمواقفهم وتصرفاتهم.) [36]

فإني لا أستبعد أن تكون ظاهرة الحمقى والمتحامقين حلقة في سلسلة حلقات الشعوبية، أومظهراًمن مظاهرها ولجته كوسيلة لبلوغ أهدافها التي تسعى إليها، كما لا أستبعد أن يكون هؤلاء المتحامقون تظاهروا بالجنون أو الهلوسة أو السذاجة ليسقطوا عن أنفسهم عقاب المجتمع،وهذا ما جعلهم قادرين،كما قال المؤلف: (على النقد والتشهير،واكتشاف العيوب والأخطاء) في محاولاتهم المستمرة للإساءة إلى العرب، وتشويه عصرهم المشرق. إذن المؤلف يدرس ظاهرة لا تمت بصلة إلى تقاليد وأصالة المجتمع العربي، يدرس ظاهرة مصدرها غير العرب، هيمنتْ عليها المؤثرات الشعوبية الفارسية، يأخذ من أشكال العقوبات التي تعرض لها الشاذون والخا رجون عن آداب المجتمع وأعرافه،كما يأخذ فيما بعد آراء جزئية من أدبهم الانتقائي ليحكم بهذه وتلك على المجتمع العباسي والعرب في أوج رقيهم وعطائهم.

القيمة الفنية لأدب المتحامقين:

أما أدب المتحامقين من الناحية الفنية، فلا سبيل إلى مقا رنته بالأدب الرسمي، فهو بلا شك دونه جودة وجمالاً وإبداعاً بل لاحظ له من الجودة والجمال والإبداع، وأشعار المتحامقين فيما وصل منها إلينا متناثرة،وقليلة جداً تتراوح بين النتف والمقطوعات والقصا ئد، وأد بهم عادي بل هابط فيما تبين لنا من بحث المؤلف، يدعوا إلى القيم الهابطة، وإلاَّ فبماذا نفسر دعوته إلى النفاق، والعواطف المنحطة والكلمات السوقية المتبذلة، ونبذ العقل،أما من ناحية الألفاظ والتراكيب ففيه ركاكة لا تخفى على من يقرؤه، وقد زاحم على علاته الأدب الرسمي في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء، وربما نال فيها من الهيات والرعا ية والحظوة، ما لم ينله الأدب الرسمي نفسه، والشواهد على ذلك كثيرة،أكتفي بذكر الحاد ثة التالية التي وردت في كتاب المؤلف:(كان بين يدي الخليفة المتوكل الشاعر البحتري،فا بتدأ ينشده قصيدة،يمدح بها المتوكل، وكان في المجلس ابو العنبس الصيمري المتحامق، فأنشد البحتري قصيدته التي أولها:( ولم يرد مطلعها في كتاب المؤلف).

عن أي ثغر تبتســـم
وبأي طرف تحتــكم
حسن يضيء يحسنه
والحسن أشبه بالكرم

فلما انتهى مشى القهقري للإنصراف، فوثب الشاعر الصيمري المتحامق، وكان المتوكل قد عمل فيه الشراب، فقال:يا أمير المؤمنين! أتأمر بردّ ه،فقد،والله،عارضته في قصيدته هذه، فأمر بردّه، فأخذ أبوالعنبس ينشد شيئاً،أراني متردداً في ذكره لولا أني مضطر إليه للتدليل على ما في هذا الأدب من السقوط والابتذال :

من أي ســـــــلح تلتقم
وبأي كفِّ تلتـــطم
أدخلت رأس البحتري
أبي عبادة في الرحم

فضحك المتوكل حتى استلقى على قفاه،وأمر له بمكافأة.) [37] وأريد أن أقف عند مسألة هامة، فالمؤلف استشهد بقصيدة للشاعر ابن بسام نعى فيها الدولة والخلافة حيث يقول:

أيرجوا الموفق نصر الإله
وأمر العبــاد إلى دانيه
ومن قبلها كان أمر العباد
لعمر أبيك إلى زانيـــه

إلى أن يقول

فهذه الخلافة قد وَدَّعَتْ
وظلّت على عرشها خاويه
فخلِّ الزمـــــــان لأوغاده
إلى لعنــة الله والهاويـــــه
فيا ربِّ قد ركب الأرذلون
ورجلي من رجلهم عاليــه

فيرى أنَّ هذه الأبيات ( ترسم صورة دقيقة عن صراع العقل والجهل ، وهي صورة لا نلمحها كثيراً في الشعر الرسمي لابتعاد شعرائه عن الهمّ الاجتماعي،كما بدا في شعر الحمقى والمتحامقين الذين امتَلكوا رؤية نافذة للواقع بكل أبعاده.) [38] الأدب الرسمي عند المؤلف ابتعد عن الهم الاجتماعي، أماّ أدب المتحامقين عكس هذا الهم،ودليله على ذلك قصيدة ابن بسام، والمتحامقون عنده امتلكوا رؤية نا فذة للواقع بكل أبعاده،وكأن المؤلف ينفي أن تكون مثل هذه الرؤيةموجودة في الأدب الرسمي،وأنا أخالفه الرأي،

لم يبتعد بعض الأدباء الرسميين عن الهم الاجتماعي:

وأرى أنَّ بعض الأدباء الرسميين،وإن كانت قبلتهم البلاط والقصور،كما هو شأن الأدباء المتحامقين إلاَّ أنهم لم يبتعد وا عن الهم الاجتماعي، وبعض أدبهم عكس هذا الهم، ثم كيف نطمئن إلى أنَّ الأدب المتحامق عكس الهم الاجتماعي، والمتحامقون ينعمون في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء، ويصعدون سلم الامتياز الاجتماعي؟ نعم! الأدب الرسمي عكس بعضه الهم الاجتماعي، وشاهدنا على ذلك ليس أباالعتاهية في قصيدته الشهيرة إلى الخليفة،يصورفيها سوء أحوال رعيته،وتكاليف معيشتهم الباهظة فحسب، وإنّماالشاهد قريب، فهل من دليل على تحامق ابن بسام عند المؤلف غير نقد الدولة والخلافة ؟ أفَيُعَدُ هجاء الدولة والخلافة أو نقدهما دليلاً على التحامق؟ ومتى كان النقد أو الهجاء دليلاَ عليه؟ ولوكان الأمر كما يرى المؤلف،لكان شعراء الهجاء والنقاد والمعارضون متحامقين !! والمؤلف ظلم ابن بسام، كما ظلم غيره حين أدخله في ظاهرة المتحامقين لأنه هجا أو نقد، فالهجاء،كما نعلم، غرض من أغراض الشعر العربي،وابن بسام شاعر لسن مطبوع في الهجاء،(ولم يسلم منه وزير ولا أمير ولا صغير ولا كبير.) [39]، وهوليس متحامقاً، وقصيدته أولى بها أن تُعَدّ من الأدب الرسمي، وليس من الأدب المتحامق، فالميزان لا بد أن يختلف، والنظرة ينبغي أن تصحح، إذن قصيدة ابن بسام في هجاء الخلافة وأركان الدولة تعدّ دليلاً أيضاً على اهتمام بعض الأدباء الرسميين بواقع الناس، ومعاناة الرّعية، كما تعدّ من جهة أخرى دليلاً على أنّ بعض الأدباء الرسميين كانوا يمتلكون رؤية نافذة للواقع بكل أبعاده،والعلة في هذا الخلاف تكمن في عدم دقة المؤلف في تحديده دلالة المتحاقين التي أوقعته في إشكالات كثيرة،انعكست على مسار بحثه،ودفعته إلى التعسف في إطلاق الأحكام .

وسّع المؤلف دائرة التحامق لتشمل أغلب فئات المجتمع:

والمؤلف لم يستطع إقناعنا بمصطلحه الذي تعوزه الدقة في التحديد، فا لأحمق عنده متحامق،والمتحامق عنده أحمق،والمتحامق متجانن،والمتجانن متحامق،وهكذا .. ومع أنَّ المؤلف كان يؤكد على أهمية الفروقات بين الحمق والتحامق .والجنون والتجانن في مكان،كما أكدّ عليها القدماء،نجدها تتداخل عنده، وتلغى في مكان آخر، فيسأل القارئ عن أي شيء يبحث المؤلف على وجه الدقة:أعلى الحمق والتحامق أم على الجنون والتجانين أم على كليهما معاً ؟ إنَّ مصطلح أودلالة( الحمقى والمتحامقين ) عند المؤلف يشمل أغلب شرائح المجتمع،إن لم يشملها كلها،فعنده الدعا بة والظرف والملح وخفة الدم والفكاهة والنقد والهجاء شكل من أشكال التحامق،فمن أوتي بخلة من تلك الخلال،أو خصلة من تلك الخصال،التقطه المؤلف، وساقه إلى المتحامقين،فكأن غير المتحامق لا يتمتع بها ، هكذا كانت نظرته إلى الصحابي (النعيمان) وإلى اللغوي الكبير (الأصمعي) وإلى الشاعر (ابن بسام) وإلى غيرهم،فمن بقي إذن من الناس بدون تحامق ؟ وإذن فالبشر في كل زمان ومكان متحامقون،وأين نجد العقلاء غير المتحامقين ؟

مآخذ أخرى على بحث المؤلف:

والمؤلف من جهة أخرى لم يخضع د راسته هذه الظاهرة إلى مراحل متدرجة في إطار زمني محدد، فهو بعد أن درسها في العصر الإسلامي، وهي في هذه الفترة ليس لها أدب، انتقل بعد ذلك إلى العصر العباسي حيث ظهر للحمقى والمتحامقين أدب فيه، غير أنَّ المؤلف د رس الأدب في هذا العصر على إطلاقه دون أي تحديد لمراحله من هذا العصر، وكان يعسر على القارىء أحياناً معرفة أي فترة من العصر العباسي، ينتمي إليها هذا الشاعر المتحامق أو ذاك إلاَّ بعد العودة إلى المراجع الأخرى .. والمأ خذ على بحث المؤلف أنه بحث انتقائي،لم يعتمد فيه على مصاد ر الحمقى والمتحامقين أو على مخطوطاتهم،وإنما اعتمد على مصادر ليست لهم، فقد أخذ نصوصهم من كتب ليس مؤلفوها حمقى ولا متحامقين، وهذه النصوص، لاتمثل الظا هرة تمثيلاً دقيقاً ولا قريباً من الد قة، فأخذ من نصوصهم ما يؤيد مذهبه، وأهمل منها ما يعارضه، وتصرف بنصوص المراجع التي تحدّثت عنهم ، فحذف منها، وأضاف إليها، وتصرف بها، بما يؤيد وجهة نظره، وهذاما أوقعه في(مطب الانتقائية) الذي حذ رّنا منه في أول كتابه. [40]

والمؤلف أدرك منذ البداية أنَّ بحثه هذا يفتقر إلى العمق والشمولية، لأنه(يتطلب مزيداً من التنقيب والبحث في متون المخطوطات،وخاصة تلك التي كتبها المتحامقون أنفسهم، فهي الأصدق تعبيراً وجلاء للحقيقة.) [41].إنَّ دراسة متأنية تعتمد على دقة المصطلح، وتبتعد عن التعميمات المتسرعة والمقارنات القسرية المصطنعة، وتنقل النصوص من مصادرها نقلاًأميناً دقيقاً بعيداً عن الغرض، وتعتمد على متون مخطوطات المتحامقين التي كتبوها،وليس على نصوص انتقائية قليلة من مصادر مبثوثة هنا وهناك، ولاتعتمد على منهج مستورد،لاءم مجتمعاً ما،في ظرف ما،ودرس ظا هرةاجتماعية غير الحمقى والمتحامقين،إنّ هذه الدراسة المتأنية يمكن أن تقدم لنا صورة دقيقةأو قريبة من الدقة عن حياة الحمقى والمتحامقين وأحوالهم وأصولهم وخلفياتهم العقيدية الموروثة، وتكشف حقيقة دوافعهم، وأغراض نصوصهم في إطار ظروف حياتهم الموضوعية.

لمؤلفه ( أحمد الحسين)

[1المقالة الثالثة ـ (الحما قة في كتب الأدب والدراسات الأدبية)ـ أحمد الحسين ـ ص 69 .

[2«عقلاء المجانين» النيسا بوري ـ ص 53 – 66 .

[3«عقلاء المجانين» النيسا بوري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

[4( الأغاني ) الأصفها ني ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ جـ 19 – ص 184 .

[5المقالة الرابعة ـ ( التحامق : أسبابه ودوافعه ) ـ أحمد الحسين ـ ص110 ـ 111 .

[6المقالة الثالثة ـ أحمد الحسين ـ ص 75 .

[7( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل ـ العدد (13) عام 1984 ـ ص 18 .

[8( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل ـ العدد ( 13 ) ـ ص 16 .

[9( فيلسوف القاعة الثامنة ) – هاشم صالح – مجلة الكرمل – العدد ( 13 ) ص 22 .

[10المقالة الأولى ( نظرات في تاريخ الحماقة ) ـ أحمد الحسين ـ ص 25 .

[11المقالة الأولى ـ ص 28 .

[12المقالة الأولى ـ ص 28 .

[13المقالة الأولى ـ ص 25 .

[14المقالة الأولى ـ ص 25 .

[15( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل، سنة 1984 ، ملف فوكو، ص 20 .

[16المقالة الأولى ـ ص25 .

[17( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل ، ص 20 .

[18عالم الفكرالكويتية، المجلد الثامن عشر،العدد الأول، ابريل، ما يو،يونيو 1987،الجنون في الأدب، بقلم رشا حمود الصباح ـ ص6.

[19المقالة الأولى ـ ص26 .

[20المقالة الأولى ـ ص19 .

[21المقالة الأولى ـ ص30 .

[22المقالة الأولى ـ ص23 .

[23المقالة الأولى – ص28 .

[24(فيلسوف القاعة الثامنة) ـ هاشم صالح ـ ص26 .

[25المقالة الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) ـ أحمد الحسين ـ ص117 .

[26المقالة الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) ـ أحمد الحسين ـ ص 119.

[27المقالة الخامسة ـ ص124 .

[28الخامسة ـ ص122

[29تأريخ الطبري ـ المجلد الخامس ـ ص239ـ دار الكتب العلمية .

[30تأريخ الطبري – المجلد الخامس ـ ص249 ـ دار الكتب العلمية .

[31مروج الذهب – المسعودي ـ جـ 4 ـ ص61 ـ دار المعرفة .

[32مروج الذهب ـ المسعودي ـ جـ 4 ـ ص134 ـ 135 .

[33المقالة الأولى ـ ص 30 .

[34الأغاني ـ الأصفهاني ـ جـ 23 ـ 206 و 210 ـ دار الكتب العلمية .

[35المقالة السادسة ـ ( أبو العبر أمير الحما قة والمتحامقين ) ـ أحمد الحسين ، ص 142 .

[36المقالة الرابعة ( التحامق ـ أسبابه ودوافعه ) أحمد الحسين ـ ص100 .

[37المقالة الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) ص129

[38المقالة الخامسة – ص 124 .

[39مروج الذهب ـ المسعودي ـ جـ 4 ـ ص297 -298 .

[40ـ بين يدي القارئ ـ أحمد الحسين ـ ص7 .

[41مواقف ورؤى ـ أحمد الحسين ـ ص82 .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى