الربيع العربي من الحلم إلى الواقع
شهد العالم العربي أشهراً من سنة لم يشهد لها نظيراً من قبل في تاريخ ثوراته، فقد كانت تقوم فيما مضى ثورة في بلد عربي، تعقبها بسنوات ثورة في بلد عربي آخر، أمّا أن يتلاحق قيام الثورات في عدد من البلاد العربية خلال فترة لاتتعدى أشهراً ثلاثة، ولايفصل بين قيام الثورة والثورة إلا أيام معدودات، فهذا لم يحصل إلا في نهاية عام وبداية عام جديد في تاريخ الوطن العربي، فمنذ الأيام الأخيرة من العام عشرة وألفين للميلاد إلى الخامس عشرمن شهرآذار للعام أحد عشروألفين اندلع الحراك الشعبي يعم أرجاء الوطن العربي، وهو حراك متعاقب في فترة قصيرة يلفت النظر، ويوجب التوقف عنده، ولا أرى من تفسير لقيام هذا الحراك الذي تمخض عن ثورات في بعض الدول العربية خلال الأشهرالثلاثة الأولى إلاّ من تماثل الأسباب التي أدّت إلى حدوثه رغم اختلاف ظروف وأوضاع كل بلد عربي، أمّا الأسباب فهي تراكم الإحباط المزمن الناجم عن غياب العدالة الاجتماعية والمساواة والفقروالمجاعة والبطالة وفشو الفساد ونهب ثروات البلد وإذلال المواطن وقمع الحريات العامة واحتكارالسلطة للعائلة أو الفئة أو الحزب الواحد، وماعانته هذه الشعوب من أنظمتها رسخت قناعة في روعها من أنها صارت تقارب بين ما كانت تعانيه في أمسها القريب من احتلال الاستعمارلها، وما تعانيه اليوم من تحكم الأنظمة الشمولية بها بل إنها وجدت الاستعماررحل عن بعض البلدان العربية بعد زمن قصير من احتلالها، ثم مالبثت هذه البلدان أن تعرضت لحكم شمولي تجاوز زمن حكم الطاغية لها فترة حكم الاستعمار، ولم تجد هذه الشعوب فرقاً يذكر بين الاستعمار وأنظمتها سوى أنها انتقلت من عهد الاستعمارالخارجي إلى عهد الاستبداد الداخلي. وقد بلغ تراكم الإحباطات المزمنة التي عانت منها الشعوب العربية بفعل أنظمتها المستبدة حد الإشباع الذي لم يعد يُحتمل إلى أنْ فجّرهذه التراكمات المكبوتة الشهيد التونسي الشاب محمد البوعزيزي في ولاية سيدي بوزيد حين أضرم النارفي جسده، فأضرم الثورة في تونس، ثم انتقل سعيرها إلى بقية البلدان العربية.
اندلعت الثورة التونسية، وتعرف بثورة الياسمين في 18 ديسمبر 2010 تضامنًا مع الشاب الجامعي محمد البوعزيزي، وأرغمت هذه الثورة الرئيس زين الدين بن علي على التنحي عن السلطة ومغادرة البلاد بشكل مفاجئ بحماية أمنية ليبية إلى السعودية يوم الجمعة 14 يناير 2011م، وأطاحت الحزب الدستوري الحاكم..
وبعد نحو عشرة أيام من سقوط النظام التونسي، اندلعت الثورة المصرية في 25 يناير/كانون الثاني 2011 م، وطالب الثائرون بالإصلاحات ثم برحيل النظام، وواصلوا الاحتجاجات المليونية بميدان التحرير وسط القاهرة وفي أغلب المدن المصرية، ونجحت الثورة في إرغام حسني مبارك على التنحي، وإسقاط نظامه وحزبه الوطني الحاكم في 11 فبراير/شباط 2011 م بعد 18 يوما من انطلاقتها.
ثم اندلعت الثورة الليبية في 17 فبراير/شباط 2011 م، وهي تطالب بإسقاط نظام العقيد معمر القذافي ولجانه الثورية، وتمكن الثوار الليبيون من بسط سيطرتهم على مناطق الشرق الليبي، وبعض مناطق الغرب والوسط، وفي هذا الوقت اندلعت الثورة اليمنية التي أعلنت رفضها التمديد والتوريث، وهي تطالب بإسقاط النظام، كما انطلق الحراك الشعبي في عُمان والمغرب والجزائر والأردن الذي يطالب أنظمته بالإصلاح الاقتصادي والسياسي والدستوري وتحسين الأوضاع المعيشية ورفع الرواتب والأجور وإلغاء حالة الطوارىء..
وفي العراق انطلقت احتجاجات حاشدة في عدة مدن عراقية مطالبة بإلإصلاحات وبتحسين ظروف المعيشة وتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء وتوفير الوظائف. واستباقاً لاحتمال هبوب رياح الحراك إلى المملكة بادر الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز في أثناء عودته من رحلة علاجية إلى إصدارحزمة من المراسيم تهدف إلى مساعدات اجتماعية، وصلت قيمتها إلى مليارات الدولارات. وفي سوريا انطلق الحراك الشعبي في الخامس عشرمن آذار من العام أحدعشروألفين للميلاد، وهذا الحراك الشعبي الذي امتد من المحيط إلى الخليج لم يكن يرتضي بغير إسقاط أنظمته الشمولية بديلاً بعد أنْ فقد ثقته بأنظمة وعدته طويلاً بإصلاحات لم تنجزها. إذن عاشت الشعوب العربية أول مرة في تأريخها ربيعاً متميّزاً من الحراك الشعبي، سُمّي بالربيع العربي..
ولم يكن إعلام الأنظمة موضوعياً في تصويرهذا الحراك، ولم ينقل أحداثه بأمانة، وإنّما قلل من شأنه ومن حجمه، وشوّ ه صورته، وكال له شتى التهم، صوّرحجمه الضخم الذي ملأ كل بلد بأنه مجموعة أفراد مرتزقة يتعاطون المخدرات أو حبوب الهلوسة، أو مجموعة سلفية، تسعى لإقامة إمارات إسلامية، أو أنّهم أفراد من تنطيم القاعدة، أو أنّهم إرهابيون أو مسلحون مخرّبون، أو ينفذون أهدافاً خارجية معادية، ووصف الحراك الجماهيري بأنّه مؤامرة كبرى تستهدف زعزعة أمن البلد واستقراره، وبأنّه يثير النعرات الطائفية والعرقية والدينية، ويضرب وحدة البلد الوطنية لإضعافه والنيل من صموده وتصديه لمخططات الأعداء، والسبب في هذا التشويه المتعمّد أنّ هذا الإعلام يعكس سياسة أنظمته الشمولية الإقصائية، وهي أنظمة لاتحترم كرامة شعوبها، ولا تقيم وزناً لإرادتها، ولاتعترف بالرأي الآخر، وترى مَنْ يخالفها الرأي، أو يعترض على نهجها في الحكم عدواً لها، أنظمة تتجاهل وجود أي معارضة لها في الداخل لظنها أنّها تنازعها على السطة، وتبغي إزاحتها منها، أوأنّها ترى طريقاً آخرفي تقدم البلد وإصلاحه، فالحق فيما يراه النظام وحده، والباطل فيما يراه معارضوه..
وقد مارس إعلام هذه الأنظمة التضليل المدروس، وتفنن في قلب الحقائق حتى إنّ أبناء البلد فقدوا الثقة بصدقه، وأخذوا يطلعون على حقيقة مايجري في بلدهم من إعلام خارجي محايد.
وانتهى الحراك الجماهيري إلى ثورة ناجحة في كل من تونس ومصر، ويسعى الحراك في بقية البلدان العربية إلى إنجاح ثوراته، وكان لحراك الثورتين التونسية والمصرية سمات مشتركة، برز أهمها فيما يأتي:
1ــ إنّ القوة التي فجّرت الحراك ليست قوى المعارضة الوطنية، وإنّما هي قوة فاجأت الجميع بصعودها المفاجىء الذي لم يدخل في تقدير المحللين السياسيين، ولا توقعات المراقبين، قوة شلت أنظمتها طاقاتها الكبرى عن العطاء والإبداع بالبطالة والقمع وكبت حرياتها، وإخماد أصواتها ومصادرة دورها في ممارسة حقها الطبيعي لبناء بلدها، فجّر هذا الحراك، وقاده الشباب المُحبط اليائس الناقم، وقد تقدم على المعارضة التقليدية في الفعل السياسي، وجعلها تلهث خلف الأحداث، ثم تخوض غمارالحراك خلف الشباب. واستطاع الشباب أن يوظفوا وسائل الاتصالات الحديثة أفضل توظيف في خدمة حراكهم، وكان للفايسبوك ووسائل الاتصالات الحديثة دورهام في إنجاح ثورتهم.
2ــ تأكيد الحراك على وحدته الوطنية، ونبذه الطائفية والمذهبية والعشائرية والفئوية والمناطقية، وقد شمل الحراك كل أطياف المجتمع ومكوّناته وألوانه الفكرية واتجاهاته السياسية دون إقصاء أحد.
3ــ رغم أنّ النظامين المصري والتونسي استخدما العنف في مواجهة الحراك الجماهيري، وأطلقا عليه مايسمى بـ (البلطجية) في مكان ورصاص مرتزقته ورجال أمنه في مكان آخر، ورغم حالة الفوضى التي سادت البلاد في أثناء هذا الحراك، وما نتج عنها من أعمال تخريب مؤسسات الدولة ونهب محال المواطنين والإضراربممتلكاتهم غير أنّ الجيش رفض أن ينحرف عن مهمته التي تأسس من أجلها، وهي الدفاع عن حدود الوطن، وحمايته من العدوان الخارجي، ورفض أن ينجرإلى أوامرالنظام الذي أراد أن يستخدمه في بطش الشعب وقمع حراكه، وإنّما ظل الجيش على الحياد، وحياد ه كان عاملاً حاسماً في إنجاح الثورة التونسية والمصرية.
4ـ عَدّت الثورتان حراكهما الجماهيري شأناً داخلياً، ولم ترتهنا بإرادة خارجية، أو تطلبا مساعدات أجنبية، بل رفضتا أيّ تدخل عسكري خارجي في شؤونهما الداخلية، كما رفضتا أي شكل من أشكال الدعم المادي الخارجي الذي يمس سيادة الوطن واستقلاله..
5 ــ كان نهج الحراك الشعبي سلمياً، وحضارياً واعياً، لم يلجأ إلى قوة السلاح في مواجهة النظامين، ولا إلى العنف، وكان مصدرقوته الوحيد هو الشعب، وقام بحماية مؤسسات الدولة ومنشآتها ومتاحف آثارها من أعمال التخريب والنهب التي مارسها الرعاع والغوغاء وعصابات اللصوص والسطو. وقد أثبت النهج السلمي للحراك الجماهيري صوابه في إنجاح الثورة، وهذا مايدحض رأي من يقول: إنّ النظام الشمولي لايسقط إلاّ بقوة السلاح....
والسمات الآنفة الذكر لم تكن قاصرة على الثورتين التونسية والمصرية فحسب، وإنّما تميّزبها الحراك الشعبي العربي من محيطه إلى خليجه، فهو حراك سلمي غيرطائفي ولا مذهبي، ولا ديني، يؤكد وحدته الوطنية، ويشمل مكوّنات مجتمعه وأطيافه كافة، ينشد الانعتاق والتحرّروالتغييرالديمقراطي، ويقوده طلائع الشباب، وإنْ ظهرخلاف في بعض سمات الحراك ببلد عن البلد الآخرفهو مابرز في نظام الطاغية معمّرالقذافي الذي استبد بشعبه اثنين وأربعين عاماً، ويمهّد لتوريث الحكم لابنه سيف الإسلام محوّلاً النظام الرئاسي الاستبدادي إلى نظام عائلي وراثي مطلق كما فعل غيره، ولماثارشعبه الأعزل عليه في بداية حراكه مطالباً بالإصلاح، والحرية والديمقراطية لجأ الطاغية إلى إبادته بأحدث مايملك من آلة الفتك والبطش ما أرغم جامعة الدول العربية أن تطالب العالم إلى حماية الشعب الليبي من مجازره، وبذلك فتح الطاغية أجواء ليبيا لتدخل الحلف الطلسي عسكرياً، وأرغم الثائرين عليه حمل السلاح بوجهه لحماية أنفسهم بعد أن تجاهلهم، وسدّ أذنيه عن مطالبهم، وأغلق دونهم منافذ الحوار.
ولاشك أنّ الثورتين لم تصلا بعد رغم نجاحهما إلى برالأمان، فما زالتا تسيران في أول الطريق المليء بالألغام، وسط أخطار القوى المعادية المحدقة بهما التي يواجهها أيضاً الحراك العربي الشامل المصمّم على إنجاح ثوراته، ولكن مهما تكالب الأعداء، وعظمت الأخطار، فإنّ التأريخ علمنا، بحق، أنّ إرادة الشعب لاتقهر، وإنها لمنتصرة في نهاية المطاف.