هـــل عرف الأمازيغيون المسرح قـــديما؟
تمهيـــــد:
عندما يتحدث الدارسون والنقاد الباحثون عن جذور المسرح العربي أو نشأة المسرح المغربي أو ظهور المسرح المغاربي قصد تأريخه وتوثيقه فإنهم يحصرون فترة انبلاجه ونشأته في بدايات القرن العشرين أو في منتصفه أو بعد ذلك. وإذا كانوا موضوعيين فإنهم يتغلغلون في الذاكرة العربية الإسلامية للنبش عن الأشكال ماقبل المسرحية ذات الطابع الاحتفالي. وبذلك يغضون الطرف عن مرحلة مهمة في تاريخ المسرح القديم وهي فترة الأمازيغيين الذين يعرفون بأنهم سكان المغرب الأقدمون الأصليون الذين كانوا يسكنون بلاد تامازغا بممالكها الشاسعة كليبيا ونوميديا وموريطانيا القيصرية أو موريطانيا الطنجية. لذا، فالسؤال الذي أطرحه بكل جدية و إلحاح: هل عرف الأمازيغيون القدامي المسرح بناية وممارسة واستعراضا؟ وإذا كان الجواب بالإثبات، فلماذا لا نعيد كتابة تاريخ المسرح العربي والمغربي والمغاربي على ضوء المعطيات الجديدة لنكون موضوعيين في أبحاثنا العلمية ودراساتنا التوثيقية بعيدين عن خطاب الإقصاء والتهميش والنفي ؟
البنيات التحتية للمسرح الأمازيغي القديم:
من المعلوم أن حضارة الأمازيغيين لم تنتعش إلا في الفترة الرومانية اللاتينية، وقبل ذلك لا نعرف عنها شيئا لقلة الوثائق والشواهد والحفريات التي يمكن الاعتماد عليها لمعرفة الأنشطة الثقافية التي برع فيها الأمازيغيون قديما حتى قبل الفترة الفرعونية واليونانية. ولكن ما نعرفه أن بلاد تامازغا احتلت من قبل الرومانيين الذين قضوا على كل المحاولات التي تروم التحرر والاستقلال والتصدي للغزاة المتوحشين الهمج. فما كان عليهم إلا الاستسلام مؤقتا أمام قوة الجيش الروماني المنظم.
وإذا كان موقف الأمازيغيين من الفينيقيين والقرطاجنيين إيجابيا ، فإن موقفهم من الرومان والبيزنطيين والوندال الذين احتلوا أفريقيا بعد الرومان موقف سلبي قوامه المواجهة والتحدي والصمود كما يتجلى ذلك واضحا في عدة مقاومات كمقاومة يوغرطة و تكفاريناس لتوحيد الأمازيغ لمواجهة الرومان، وثورة إدمون التي قامت كرد فعل على اغتيال بطليموس، وثورة موريطانيا الطنجية لإعلان الانفصال عن الحكم الروماني، وثورة أفريقيا الشمالية بعد استغلال ضعف الحكم في روما واشتداد ضغط الأمازيغ على الليمس،ومقاومة دوناتوس زعيم الحركة الدينية ذات الصبغة الأمازيغية حيث نادى بطرد كبار الملاك وأصحاب النفوذ من المسيحيين الكاثوليك.
والسبب في هذه الثورات والمقاومات الشرسة أن روما طبقت في الممالك الأمازيغية" سياسية اقتصادية جشعة طوال احتلالها، تلخصت في جعل ولاياتها تخدم اقتصادياتها وتلبية حاجياتها من حيث الغذاء والتسلية لفقرائها ورعاعها، والتجارة المربحة لتجارها والضرائب لدولتها، أي الاستثمار بخيرات شمال أفريقيا والإبقاء على النزر اليسير لسد متطلبات عيش الأمازيغ الخاضعين."
ومن نافلة القول: لقد عرف الرومان في حياتهم بالجندية واستخدام القوة في استعباد الآخرين وحب المصارعة و العناية بالرياضة البدنية وإرساء أنظمة الحكم والتمثيل النيابي والاهتمام بالعمران المدني الضخم الشاهق. بينما كرست الشعوب الأمازيغية المستضعفة المحرومة كل أوقاتها في خدمة الأرض و الاهتمام بالصناعة والصيد و طلب العلم واعتناق المسيحية والدفاع عنها دفاعا شديدا والانشغال بالدرس الأدبي والفني، دون أن ننسى اهتمامهم بالعلوم والخطابة والسياسة. وهذا ما جعل الرومان يجنّسون الأمازيغيين المثقفين ويرسلونهم إلى بلاد الإغريق أو إلى روما لمتابعة دراساتهم أو لتعيينهم في مناصب سامية. وكانت للبعض مكانية هامة في المجتمع الروماني مثلك أبوليوس وترنيوس وأغسطنيوس، بل هناك من كلف بتدريس القيصر كالمثقف الموسوعي يوبا الثاني.
ويعني هذا أن الأمازيغيين أخضعوا للرومنة والتجنيس اللاتيني لمدة خمسة قرون من الاحتلال، فكانت زائدة" يوس" في آخر الأسماء الأعلام التي يتسمى بها الأفارقة الأمازيغيون دلالة على الرومنة وطمس الهوية. ويعترف شارل أندري جوليان في كتابه عن" تاريخ شمال أفريقيا" أن معظم المثقفين الرومان أصلهم أمازيغيون من شمال أفريقيا جنسوا اختيارا أو إجبارا.
" والواقع أن الرومان الغاضبين لم يتركوا وسيلة تؤديهم إلى الاستيلاء على العنصر البربري إلا سلكوها، فأجبروا البرابرة على الخدمة العسكرية وقدموا لمن أراد التجنيس منهم بالجنسية الرومانية كل مساعدة، مؤملين من وراء ذلك كله ابتلاع العنصر الأهلي، ولم تقف الدولة الرومانية عند هذا الحد، بل تعدته إلى نشر الثقافة الرومانية بكل الوسائل، ففرضت استعمال اللغة اللاتينية بصورة رسمية في المحاكم والمدارس القائمة إذاك في المدن الكبرى كقرطاجنة وسرتا وشرشال، وأهملت بطبيعة الحال لغة أهل البلاد القرطاجنية.
على أن المؤرخين يخبرونا بأن الأهالي ظلوا- رغم ذلك كله- محتفظين بلغة قرطاجنة طيلة الاحتلال الروماني خصوصا في البوادي، أي في معظم البلاد المغاربية. وهذا الذي حمل بعضهم إلى القول بأنه إذا كان البرابرة قد أقبلوا فيما بعد، بتلهف عظيم على اللغة العربية وتعلموها بسهولة مدهشة فيما ذلك إلا أنهم كانوا- عند دخول العرب- يستعملون اللغة البونيكية بصورة عادية جيدة. ومعلوم أن أوجه الشبه كثيرة بين اللغة القرطاجنية واللغة العربية."
ويلاحظ أيضا أن هناك من اختار التعبير بلغته المحلية وهي اللغة الأمازيغيية والكتابة بتيفيناغ، وهناك من ارتضى الحياة الرومانية المتمدنة وكان يكتب باللاتينية ، وهناك من انساق وراء الحضارة اليونانية وتشبع باللغة الإغريقية.
وعلى أي حال، فقد حدث تأثير متبادل بين الأمازيغيين وانصهار حضاري ودموي واجتماعي داخل المجتمعين: الروماني والأمازيغي. ومن ثم، أخد الأمازيغيون بحضارة الرومان، وتأثر الرومان بدورهم بحضارة الأمازيغيين ، وتتضح هذه المثاقفة في الإقبال على المسرح والملاهي وحلبات السيرك والمصارعة ومؤسسات الفنون والآداب والعلوم سواء أكانت أمازيغية أم رومانية.
ونقول اعتمادا على الوثائق والحفريات الاركيولوجية إن المنطقة الأمازيغية قديما عرفت بناء العديد من المسارح التي كان يمارس فيها الفنانون الأمازيغيون الموسيقا والرقص والرسم، وتقدم فيها العروض المسرحية التراجيديا والكوميدية، وربما كان هذا تأثرا بالحضارة الرومانية أو أن الأمازيغيين كانوا سباقين إلى إنشاء المسارح التي تأثر بها الرومان. ويقول الدكتور حسن المنيعي" " إذا نحن تتبعنا آثار فن مسرحي في المغرب، فإن التاريخ يطلعنا على أن البرابرة، الذين بقوا مدة طويلة تحت سيطرة الرومان، قد انتهوا إلى الأخذ بحضارتهم، بالرغم من أن بعض المؤرخين يرفضون فكرة ذوبان البربر في الرومان. ومع ذلك، فإننا نعلم أن التأثير الفكري لروما في إفريقيا كان عظيما" .
ففي تونس كان هناك مسرح قرطاج الذي كان يقدم فيه أبوليوس أو أفولاي عروضه المسرحية التي كانت تشد قلوب القرطاجنيين وتسحر أعينهم . وقد ذكر البكري في وصفه لقرطاجنة أن أعجب ما بها" دار الملعب وهم يسمونها الطياطر قد بنيت أقواسا على سواري وعليها مثلما ما أحاط بالدار وقد صور في حيطانها جميع الحيوان وصور أصحاب جميع الصناعات وجعلت فيه صور الرياح فجعل صورة الصبا وجهه مستبشر وصورة الدبور وجهه عابس....
وفيها قصر يعرف بالمعلقة مفرط العظم والعلو أقباء معقودة طبقات كثيرة مطل على البحر في غربيه قصر يعرف بالطياتر وهو الذي فيه دار الملعب المذكورة، وهو كثير الأبواب والتراويح وهو أيضا طبقات على كل باب صورة حيوان وصور الصناع".
وفي الجزائر أيضا كثير من المسارح الأمازيغية إلى الحد الذي قيل فيه إن" عدد المسارح في أفريقية يفوق عدد الملاعب". ونذكر بالخصوص مسرح "تيمگاد " و"تيپازة" و"دقة" و مسرح"المدينة الجميلة" المشيد على غرار المسرح الإغريقي النصف الدائري والمبني في شكل مدرج واسع مفتوح على الفضاء الطبيعي الخارجي ذي المراقي الإسمنتية المتعددة الخاصة بالجمهور الزائر، دون أن ننسى أن المغرب كان يعرف بدوره مسارح مهمة ولاسيما في عهد يوبا الثاني الذي حكم مدينة وليلي عاصمة موريطانيا الطنجية واتخذ فيها مسارح كثيرة تزدهي بها المدينة ومملكته العظيمة. ويثبت لاكروا ما قلناه بشهادته التقريضية في حق يوبا الثاني:" اشتهر يوبا على الخصوص بعلمه الواسع فقد ألف كثيرا من الكتب التي ردد ذكرها القدماء، وبقي منها قطع مبثوثة هنا وهناك...
أولا: تاريخ بلاد العرب الذي وضعه لتعليم يوليوس قيصر.
ثانيا: تاريخ آشور ، وقيل أنه كتبه بعد أن شاهد هذه البلاد.
ثالثا: آثار الرومان القديمة.
رابعا: تاريخ المسرح، تحدث فيه عن الرقص وآلاته والموسيقى ومخترعي هذه الفنون.
خامسا: تاريخ الرسم والرسامين.
سادسا: كتاب منابع النيل، زيادة على كتاب النحو والنبات.".
ويتبين لنا مما سبق أن الأمازيغيين كانوا يقدمون عروضهم المسرحية مستعينين بالرقص والموسيقا والتشكيل البصري على غرار العروض المسرحية التي نشاهدها اليوم.
ويرى الدكتور عباس الجراري أن " المغاربة تأثروا بالقرطاجنيين ثم الرومان بعدهم، ومارسوا فن التمثيل القائم على الأناشيد والحركات الراقصة التي تؤدى بها الطقوس والشعائر الدينية والتي ترمز إلى التوسل بالآلهة.
وقد ازدهر فن التمثيل بصفة خاصة في منتصف القرن الأول على عهد أغسطس زوج كليوباترة الصغيرة بنت كليوباترة ملكة مصر المشهورة، وهو المعروف بـيوبا الثاني" وكانت له عناية بالفنون والآداب. وأسس مدينة وليلي لتكون شبيهة برومة، واتخذها عاصمة ثانية له بعد شرشال."
ولا ينكر أحد بأن المسرح الأمازيغي قد تأثر بخصائص المسرح الإغريقي والمسرح الروماني في إطار علاقة التأثير والتأثر، والدليل على ذلك أن يوبا كان مغرما بتزيين المدن الأمازيغية بمقومات الحضارة الإغريقية:" وكان هذا الأمير الأمازيغي فنانا وعالما معجبا بالحضارة اليونانية... ملأ قصوره في شرشل ووليلي بتماثيل إغريقية ذات قيمة فنية كبيرة. كما اهتم بتطوير المدن وتوسيعها وتجميلها، من بين هذه المدن : تنجيس- تموة- لوكسوس- بناسة- وليلي- سلا. كما أقام علاقة اقتصادية متينة مع جارتها إسبانيا وإيطاليا، وهذا الازدهار الحضاري والاقتصادي ناتج عن النظام الذي ساد المملكة في عهده."
ويؤكد بواسيير Boissier وجود العديد من المسارح في المدن الأمازيغية الصغرى تأثرا بالحضارة اللاتينية:" تحتوي ( هذه المدن الصغرى) على هذا العدد من الأبنية الرائعة، فإن القصد من ذلك هو إثارة خيال البرابرة، وكسب إعجابهم بالقوة اللاتينية. وقد كان ذلك فكرة عميقة ومهارة فائقة للغزاة العظام وسياسة عليا أتت ثمارها... إذ ساعد جمال المعابد وتعدد التماثيل ورشاقة المسارح على رومنة إفريقيا... فكانت المدن الكبرى تحتوي على حلبة تتسابق فيها العربات، وعلى مسرح دائري يتعارك فيه المتصارعون والوحوش، ثم على مسرح تعرض فيه الملاهي والتشاخيص الصامتة... وقد أولع الأفارقة بألعاب السيرك على مختلف أنواعها، كما لاقت فيه التمثيليات المسرحية نجاحا منقطع النظير. ولم تكن المأساة والملهاة الأكثر تمثيلا في إفريقيا، ولكن المسرحيات القائمة على الإيماءة وتقليد الحركات كانت قد استطاعت بطرقها خدمة المصالح الرومانية، فتسمى الإفريقيون بأسماء رومانية، وأصبحت اللغة اللاتينية في كثير من المناطق اللغة المستعملة. ويمدنا الأدب الإفريقي بأسماء عديدة في هذا الميدان... حيث قامت مدارس فنية في مناطق كثيرة كان لها من الحيوية ما جعل" ل.برتران" يتبنى التأكيد التالي وهو أن الفن الموريسكي ليس سوى فن لاتيني مكيف..."
ونستنتج من هذه القولة أن الأمازيغيين كانوا عشاقا للمسرح بكل صدق ومحبة، لايمكن لهم أن يتصوروا مدنهم عجفاء قاحلة ولو كانت صغيرة أو أن تكون بدون مسارح ومراقص ومتاحف ومراسم وحلبات للصراع والسيرك. كما كانت مسارحهم دائرية ومفتوحة، تقدم فيها العروض المسرحية ضمن رؤية سينوغرافية شاملة ، أي يعتمد العرض على الكلمة المنطوقة والسيرك والألعاب الرياضية والموسيقا والرقص والتقليد والمحاكاة الساخرة. كما تعرض فيها المآسي والملاهي ومسرحيات الميم والتقليد الضاحك.
هذا، وقد شيدت مدارس في العديد من الممالك الأمازيغية يدرس فيها المسرح وما يرتبط به من فنون وعلوم وآداب. أما الجمهور فكان عدده كبير، والدليل على ذلك بناء المسارح الضخمة الدائرية والمفتوحة التي تسع الأعداد الضخمة من الجماهير التواقة إلى مشاهدة المسرحيات المتنوعة.
ويرى الدكتور حسن المنيعي أن البرابرة:" قد انبهروا ولا شك بأسلوب الحياة الرومانية وبطقوسهم في التسلية ومنها التمثيل المسرحي. وعلاوة على ذلك، فإننا نعرف من جهة أخرى أن جل المدن المغربية الرومانية تحتوي على( كابيتول أي المعبد) وعلى (مسرح). وبدون شك، فإنا هذا المسرح كانت تمثل فيه روايات تكتب تارة باللغة الرومانية، وتارة أخرى باللغة القومية واللهجة العالمية، وإن هذه الروايات التي تتردد بين الجودة والضعف كانت مرة هزلية تشوق الطبقة الشعبية، بما تشتمل عليه من هزليات ومواعظ وألوان من الفلكلور المحلي، وكانت مرة قوية، بما تشتمل عليه من فن رفيع مقتبس عن الأدب الروماني. غير أن الزمان لم يحتفظ لنا بشيء من ذلك".
ولكن المسرح الأمازيغي سيتوقف نسبيا وسيعرف نوعا من الركود مع دخول العرب الفاتحين إلى بلاد شمال إفريقيا، وانشغال الأمازيغيين بالدين الجديد واهتمامهم بالفتوحات الإسلامية وتشييد المدن والممالك وبناء الحضارة العربية الإسلامية على أسس أخلاقية فاضلة. وفي هذا يقول الدكتور حسن المنيعي:" مهما كانت التأثيرات التي يحمل البرابرة تبعتها أمام الحضارات المستوردة على أفريقيا الشمالية، فمن الواجب أن نقر بأن تمثل هذه الحضارات لم يكن عميقا، لأن الإسلام هو وحده الذي استطاع أن يؤثر فيهم. لذا، نرى أنه لو عرف البرابرة المغاربة " الفن المسرحي" حقيقة، فإنهم قد ابتعدوا عنه، بعد رسوخ الدين الإسلامي. ومع ذلك، فقد لوحظ عندهم بقاء بعض التقاليد الفنية الناتجة عن تقديس الشعر."
ويذهب الدكتور عباس الجراري إلى أن العامل الديني ووجود الصراع التراجيدي الأفقي من الأسباب التي حالت دون استمرار المسرح الأمازيغي بشكله القديم:" وإذا كان المغاربة لم يحتفظوا بهذه التقاليد المسرحية في ظل الإسلام، فذلك راجع إلى أن هذا الدين جاء بثقافة جديدة، وأنهم لم يجدوا في نطاق ثقافته حاجة إلى التعبير بالمسرح على الشكل الإغريقي الروماني الذي عرفوه. إذ لايخفى أن هذا المسرح كان يتوسل به في أداء الطقوس والشعائر الدينية، فضلا عن أنه كان مرتبطا بالصراع، ولاسيما في مواجهة القضاء والقدر، والدين الإسلامي يحد من هذا الصراع ويحث على الطمأنينة النفسية بالدعوة إلى الإيمان بالقدر خيره وشره.
ومع ذلك ، فقد بقيت لتلك التقاليد آثار غير قليلة تتجلى في الرقص الشعبي، سواء منه الرقص البربري والبدوي أو رقص الطوائف الطرقية. كما تتجلى هذه الآثار في الاستعداد الذي ظل عند المغاربة للعمل المسرحي، والذي جعلهم يقتبسون" خيال الظل" ولاسيما في تونس والجزائر، لما كان لهما من علاقة مع الدولة العثمانية. ويبدو أنه كان مزدهرا في القطر الجزائري حتى منتصف القرن الماضي، حيث قررت سلطات الاحتلال منعه، لما كان له من دور في توعية المواطنين ولعله كان معروفا بمغربنا الأقصى في فترة من التاريخ، ولاسيما أيام السعديين الذين كانت لهم علاقة وطيدة مع الأتراك."
وعلى الرغم من هذا الركود النسبي، فإن الأمازيغيين عرفوا ظواهر مسرحية كظاهرة الفنانين المتجولين المعروفين بــ"إمذيازن" الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر وبين القرى والأسواق في فرق جماعية، وهم يغنون ويرقصون ويستعرضون حركاتهم البهلوانية و تشكيلاتهم الجسدية و عروضهم المسرحية على غرار الشعراء البهلوانيين أو شعراء التروبادور في الأدب الفرنسي إبان العصر الوسيط، وهؤلاء المتجولون معروفون في منطقة الريف بدفهم الخشبي الدائري المغلف بالجلد الرقيق ونايهم القصبي المتميز وألبستهم الخاصة، وهم يوجدون كذلك في الأطلس الجنوبي الشرقي، ونذكر هنا بخاصة الفنانين المنحدرين من قبيلة "آيت حديدو"، الذين كانوا يسافرون في شكل جوقة كاملة، " في حين كان المغنون المتجولون القادمون من سوس يصحبون معهم ، في غالب الأحيان، صبيانا راقصين لا تبرأ سمعتهم من اللوم...".
وكان الهدف من هذه التنقلات هو الحصول على المكاسب المادية والأعطيات التي كانت تعطى لهم بعد الحفلات الدينية والمناسبات العائلية كالولادة والعقيقة، دون أن ننسى حفلات العرس " أورارن" ، وكانت هذه الأعراس بمثابة مسرح شعبي احتفالي يندمج فيها الحاضرون مع العارضين في احتفال بهيج ، قد يمتد من المساء إلى الصباح لمدة تصل إلى أسبوع كامل أو أكثر.
كما كان لــشعر " إزران أو إزلان" مكانة هامة في نفوس الأمازيغيين وخاصة "إزران "الحب والهوى أو " إزران" التعيير والهجاء أو" إزران" الحروب والمقاومة. وكان الإنشاد الشعري يرافقه غالبا الرقص الفردي أو الرقص الثنائي أو الرقص الجماعي حيث كان الراقصون يستعينون بضربات الأيدي أو الأرجل أو ضربات السيوف والمعاول أو البنادق. وقد" كان للشعر عامة مكانة مشرفة عند الطوارق الصحراويين. وكما ينتظر من هذه القبائل المحاربة بطبيعتها، فإن شعرها الملحمي هو الغالب في إنتاجها. وكانت أشعار الطوارق يتغنى بها في" مجالس الحب" المدعوة" آهال". وقد كانت هذه المجالس عبارة عن تجمعات أساسها التسلية الجماعية، يقصدها الناس من مسافات تبلغ مئات الكيلومترات، كما أنها كانت تقام تحت رئاسة امرأة من أرستقراطية الطوارق مشهود لها بالذكاء وبثقافتها الأدبية، أو بموهبتها في ارتجال الشعر. وكان التجميع يبدأ أثناء السمر حول الخيمة المشرفة على التجمع، بحيث ينهمك المشاركون في المقارعة بالقصائد الملحمية والكلمات الحلوة، وإنشاد المقطوعات الشعرية المختلفة...."
ويبقى" إزلان" المرتبط بالرقص والموسيقا والغناء والارتجال من أهم مظاهر التمثيل المسرحي عند الأمازيغيين في العصر الوسيط إلى يومنا هذا، ذلك أن " الفتيان والفتيات يقفون وجها لوجه في صفين، فيلقي أحدهم بجملة يعيدها كل فرد بدوره، ثم تلقى جملة أخرى، وهكذا... وفي نهاية كل بيت من الشعر، فاصل غنائي ينشده الجميع بدرجة صوتية حادة، ويصاحبه قرع على الطبول ورقص على شكل تموجات جسدية. وقد تمتد هذه الجلسات بعض الأحيان إلى آخر الليل وينتهي الضرب، وإيقاع الشعر، وحركات الرقص على خلق نوع من التنويم يضيع فيه العقل والقلب....".
الشخصيات المسرحية الأمازيغية القديمة:
من أهم الشخصيات المسرحية الأمازيغية التي نستدل بها على انتعاش المسرح الأمازيغي قديما في إفريقيا الشمالية نستحضر أبوليوس أو أفولاي النوميدي وترنيوس آفر الليبي اللذين أظهرا تفوقا مسرحيا كبيرا على مستوى الكتابة و التشخيص والسينوغرافيا و "الإخراج المسرحي".
أبوليوس أو افولاي:
نشأ لوكيوس أبوليوس أو أبوليوس الماضوري في أسرة أرستقراطية في مدينة مـداوروش بالجزائر قرب سوق هراس سنة 125م. إذ كان أبوه أحد الحاكمين الاثنين في أوائل القرن الثاني في هذه المنطقة، و كان أبوليوس أشهر كتاب و شعراء هذا العهد.
لقد درس هذا الأديب الأمازيغي الأصل بقرطاج، حيث أخذ من كل الفنون بطرف، و كانت هذه المدينة الإفريقية عاصمة فكرية و سياسية في آن معا، و نبغ فيها هذا الأديب، وتخصص في المسرح و نبغ فيه إذ كان القرطاجيون يهتفون به في المسرح، و كان يقول لهم:" إني لا أرى في مدينتكم إلا رجالا كرعوا من مناهل الثقافة، وتبحروا في جميع العلوم: أخذوا العلم صغارا، و تحلوا به شبانا ودرسوه شيوخا، إن قرطاج لهي المدرسة المقدسة في مقاطعتنا، و هي عروس الشعر في إفريقية، و هي أخيرا، ملهمة الطبقة التي تلبس الحلة" . وقد تابع أبوليوس دراساته العليا في اليونان ( أثينا) وإيطاليا و آسيا الصغرى، و لقد أعجب بالفلسفة السوفسطائية ، و الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، والفلسفات ذات الطبيعة الصوفية الروحانية التي تضمن للمؤمنين حياة أبدية سعيدة.
و بعد عودته الى بلده، اتهم هناك بممارسة السحر، فدافع عن نفسه بصلابة، و ألف في الموضوع كتابا عنوانه:" في السح." و سبب هذه التهمة أنه صادف أثناء إقامته في طرابلس أن وقع في مغامرة غريبة،" ذلك أنه ما أن تزوج من أم أحد أصدقائه، و كانت إلى ذلك الوقت ممتنعة امتناعا شديدا من التزوج ثانية، حتى اتهم بأنه سحرها، و قد أخذ أحد المحامين على نفسه، أن يقيم الدليل على أن يدافع عن نفسه دفاعا رائعا. لم يكن كله مقتنعا و أنحى على خصومه باللائمة، لأنهم خلطوا بين الفلسفة و السحر، و قد حرر خطابه بعد ذلك في صيغة إيجابية، فأصبح يعرف بالأبولوجيا
و لم تعق هذه التهمة مسيرته الفكرية، إذ سرعان ما توجه إلى قرطاج لممارسة العلم و تلقين الدروس لطلبة الثقافة و الأدب، فأصبح قبلة الأنظار في هذه المدينة، و المحاضر المحبوب الذي يعالج جميع المواضيع وخاصة الفلسفية منها.
وعليه، فلقد نعت أبوليوس بمواصفات عدة، إذ كان غريب الأطوار و كثير المتناقضات فهو جدي و طائش و متطير و شاك و معجب بنفسه، و كان يدافع عن" المستضعفين" كثيرا.
و كان أبوليوس كاتبا مرموقا في عصره بين أدباء الثقافة العالمية، إذ نافس اللاتينيين و الرومانيين و اليونانيين على الرغم من تأثره بهم خلقا وتناصا ولاسيما في روايته الفانطاستيكية التي ألفها في أحد عشر جزءا، و بها وضعه تاريخ الفكر في مصاف كبار الكتاب العالميين الخالدين في كتابه ذاك الذي يسمى "التقمصات أو الحمار الذهبي ، علاوة على كونه مسرحيا و شاعرا كبيرا خاصة في ديوانه (الأزاهير) ، وهو عبارة عن مقتطفات شعرية ألقاها في قرطاج وقد ترجمها إلى اللغة العربية الدكتور فهمي خشيم . ويضم هذا الديوان ثلاثا و عشرين قطعة من خطاباته تتفاوت طولا وقصرا، جمعها أحد المعجبين به" كباقة" جمعت أجمل زهور بلاغته، و كان يتبجح فيها بأنه يتقن الفنون على اختلافها، وكان يتوجه لمساعد القنصل في شيء من الخيلاء البريئة قائلا:" أعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط، أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة، أو فيض الوجدان، لمرح الملهاة أو جلال المأساة، و كذلك لا أقصر لا في الهجاء و لا في الأحاجي و لا أعجز عن مختلف الروايات، و الخطب يثني عليها البلغاء، و الحوارات يتذوقها الفلاسفة. ثم ماذا بعد هذا كله؟إني أنشئ في كل شيء سواء باليونانية أم باللاتينية بنفس الأمل ونفس الحماس و نفس الأسلوب" .
وقد أطلقت على روايته الغرائبية (الحمار الذهبي) تسميات عدة من بينها: المسوخ ، وقصة المسخ كما عند حميد لحمداني، أو "الحمار الذهبي" ( أو التحولات ) كما عند عمار الجلاصي، أو الحمار الذهبي فحسب كما لدى أبو العيد دودو ، أو" تحولات الجحش الذهبي" كما عند فهمي علي خشيم. وأسميها – شخصيا- رواية" الحمار الوردي"، لأن كلمة الورد أو الوردي تتكرر مرارا في متن الرواية، إذ وصف لوكيوس بأنه وردي البشرة، ووصفت حبيبته بأنها وردية اليد، والأكثر من ذلك أنه كان يحلم بالورد طيلة فترة تحوله، ويفر كلما رأى الورد أو ما يشبه الورد لأنه يجسم الخلاص بالنسبة إليه. وهناك من ترجم هذه الرواية عن اللاتينية كعمار جلاصي وأبو العيد دودو، وهناك من ترجمها عن الإنجليزية كعلي فهمي خشيم.
ومن كتبه الأخرى "دفاع صبراتة" الذي ترجمه الدكتور فهمي علي خشيم، و" في السحر"، و كتاب"شيطان سقراط" وهو عبارة عن كوميديا ساخرة تختلط فيها الفلسفة بالسخرية، وقد شرع الكاتب الليبي فهمي علي خشيم في ترجمته إلى اللغة العربية.
ترنتيوس أو ترينيس آفر:
ولد ترينيس آفر في مدينة قرطاج التونسية سنة 184م، وهو من أهم كتاب المسرح في الثقافة الأمازيغية القديمة وتوفي سنة 159م. وأخذ أسيرا في الحرب البونيقية الثانية التي خاضتها روما ضد قرطاجنة التي انتهت بهزيمة تونس وإخضاع شمال أفريقيا كله للسيطرة الرومانية البشعة. وقد اختار أحد أعضاء مجلس الشيوخ الروماني هذا الغلام خادما له وأعطاه نسبه " ترنتيوس لوكانوس"، وعاش في وسط طبقي اجتماعي أرستقراطي، أما كلمة آفر فتحيل على أصله الإفريقي. ويبدو أن سيده قد توسم فيه خيرا فعلمه وأحسن تربيته ثم أعتقه إلى أن مات ترنيوس في سن الخامسة والثلاثين وهذا ما أجمعت عليه معظم الروايات، بيد أن سويتونيوس يقول إنه مات في سن الخامسة والعشرين. وعلى أي حال، فإن الروايات التي تتحدث عن حياة ترنتيوس الفنية غير محققة ولا موثقة ومن ثم فليست صادقة تماما. أما بالنسبة لحياة ترنتيوس الفنية فقد وصلنا أفضل مصدر وأوثقه ألا وهو مسرحياته الست بمقدماتها التي رد فيها على نقاده."
هذا، وقد تبحر ترنتيوس في العلوم والفنون والآداب، وأصبح فريد زمانه وكاتبا مسرحيا كبيرا مازالت آثار أعماله راسخة في الريبرتوار الروماني واللاتيني والغربي، وعرف كذلك بكونه شاعرا كوميديا هزليا.
ومن جهة أخرى، فقد أتقن ترنتيوس اللغتين اليونانية واللاتينية علاوة على لغته الأمازيغية التي لم يفرط فيها قيد أنملة. وألف الكثير من المسرحيات ولم يبق منها إلا ستة أعمال فقط. وفي كل سنة كان يطلع على الجمهور بنص مسرحي ما بين 166 و160 قبل الميلاد. و طارت شهرته الكبيرة " دفعة واحدة، ونال الجوائز، فحسده الحساد واتهموه بالسرقة الأدبية، فدافع عن نفسه بما كان له من قوة. فأنصفه التاريخ من بعد، ورد إليه نقاد العصور المتعاقبة اعتباره كاملا وبينوا أن تأثيره في الأدب المسرحي بقي ظاهرا إلى حدود القرن السابع عشر... وهو صاحب القولة المشهورة " أنا إنسان؛ لا يخفى عني أي شيء مما هو إنساني!". ومن إفراطه في حب الأدب أنه مات حزنا بأرض اليونان، بعد أن ضيع في البحر مخطوطات له، وهو ابن الثلاثين" ، أو الخامسة والثلاثين.
ومن مسرحياته الست المشهورة : "فتاة أندروس"، و"الحماة"، و"المعذب نفسه"، و"الخصي"، و"فورميو"، و"الأخوان".
خاتمــــة:
ويتبين لنا مما سلف ذكره أن الأمازيغيين عرفوا المسرح بنية وفرجة واستعراضا. وأنهم شيدوا الكثير من المسارح وحلبات التمثيل ومعاهد تعليم المسرح في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. وقد تأثر المعمار المسرحي الأمازيغي بالمعمار المسرحي اليوناني النصف الدائري المفتوح القائم على بناء المدرجات المحيطة بدائرة العروض الدرامية، والمعمار الروماني الفخم الشاهق الدائري الذي يشبه حلبات المصارعة والسيرك.
وقد بينا كذلك أن عروض المسرح كانت تقدم إما باللغة اللاتينية وإما باللغة الأمازيغية المحلية على الرغم من سياسة" الرومنة" المتبعة من قبل الرومان، و اللجوء إلى التزييف اللاتيني المتعمد لكل نشاط ثقافي أمازيغي يقدم باللغات المحلية . وقد لاحظنا اهتمام الجمهور الامازيغي القديم بالمسرح وإعجابه الشديد به، والإقبال عليه بكل شوق وتلهف لانظير لهما.
بيد أن هذا الاهتمام الكبير بالمسرح سيتراجع مع الفتوحات الإسلامية وانشغال الأمازيغيين المتدينين بالعقيدة الجديدة، والابتعاد عن كل ما يتنافي في رأيهم مع الإسلام الذي حرم التصوير والرسم وما يتعلق به كالتمثيل والرقص الماجن وكل ما يخدش الأخلاق الإسلامية الصحيحة.
ونسجل ملاحظة أخيرة ، وهي أن المسرح الأمازيغي سبق المسرح العربي بأمد طويل، وأن هذا المسرح موجود وله خصوصياته الدلالية والفنية والجمالية. فلا يعقل أن يأتي اليوم دارس من الدارسين للمسرح المغربي أو العربي لينكر المسرح الأمازيغي جملة وتفصيلا ويشرّحه بلغة التجريح والنفي والإقصاء والتقزيم والتهميش.