السبت ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم ظافر مقدادي

هل قال شعراء الجاهلية بالقرآن؟

القرآنُ الكريم وحيٌ من الله عز وجل أوحى به لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويُعتبر إعجازاً بحد ذاته، وهو معجزة النبي محمد (ص)، لا أحد يستطيع الإتيان بمثله، لا من الإنس ولا من الجان. هذا الإعجاز وضع القرآن الكريم موضع الدراسة لدى بعض الباحثين المشككين بفرادة القرآن الكريم وإعجازه، فغاص البعض منهم في أشعار العرب في الجاهلية قبل الإسلام، جالباً من أشعار الجاهلية تلك النصوص التي تتشابه مع بعض الآيات القرآنية من ناحية المحتوى وشكل اللغة العربية، معتبراً بذلك أن لا جديد في الآيات القرآنية وأنها كانت معروفة للعرب في الجاهلية، وأن العرب في الجاهلية قد (قالوا بالقرآن)، أي أنهم قالوا بعض الأشعار التي جاءت الآيات القرآنية لاحقاً شبيهةً بها.

الحقيقة أن من يعود الى أمهات المصادر العربية الإسلامية يجد الكثير من هذه الأشعار المنسوبة لشعراء عرب من الجاهلية، والتي تتشابه في المحتوى والشكل مع بعض الآيات القرآنية. ولكن يبقى السؤال عن مدى صحة نسب هذه الأشعار لهؤلاء الشعراء الجاهليين، خاصة وأن ظاهرتي التدليس والإنتحال في الشعر العربي أمران معترف بهما حتى من قبل الرواة المسلمين الأوائل. ولا أظن أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قد أخطأ في دراسة هاتين الظاهرتين في كتابه (في الشعر الجاهلي). يقول د. طه حسين بخصوص الشعر الجاهلي بشكل عام: (إني لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي.. فهذا الشعر بعيد كل البعد على أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه.. إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية). صحيح أن مجال بحث د. حسين لم يكن الشعر الجاهلي الذي (قال بالقرآن) بالتحديد، ولكن بحثه ومنهجه يمكن توظيفهما هنا لدراسة هذا الموضوع بشكل خاص.

سأحاول في هذه العجالة عرض بعض من هذه الأشعار ومقارنتها بما يشبهها من الآيات القرآنية لإعطاء القاريء صورة عن الموضوع الذي نحن بصدده، ثم لاحقاً سأستعين بالدكتور طه حسين وغيره لتحليل الموضوع والوصول الى نتائج.

قال الشاعر الجاهلي امرؤ القيس (565م) وهو من قبيلة (كندة) في اليمن:

يشتهي الإنسانُ في الصّيفِ الشّتاءَ

فإذا ما جاءه أنكره

فهو لا يرضى بعيشٍ واحدٍ

قُتّل الإنسان ما أكفَرَه

فعجز البيت الثاني مطابق للآية 17 من سورة عبس: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ.. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ.. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ..).

ويُنسب البيت التالي أيضا لامرؤ القيس:

اقتربت الساعة وانشق القمر

عن غزالٍ صاد قلبي ونفر

فصدر البيت مطابق للآية 1 من سورة القمر: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

وبما أننا في اليمن فلنعرج على شاعر يمني جاهلي آخر من قبيلة (طي)، وهو حاتم الطائي (605م) الذي نُسب إليه:

أما والذي لا يعلم السر غيره

ويُحيي العظام البيض وهي رميم

لقد كنت أطوي البطن والزاد يُشتهى

مخافةً يوماً أن يُقال لئيم

وعجز البيت الأول مشابه للآية 78 من سورة يس (ياسين): (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). وأيضا يخبرنا الألوسي في كتاب (بلوغ الأرب) أن الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، وهو شاعر من قبيلة (مزينة) من نجد والحجاز، كان (يمر بالعضاه (وهي شجرة) وقد أورقت بعد يبس، فيقول: لولا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياكِ بعد يبسٍ سيُحي العظام وهى رميم).

وننتقل الآن الى قبيلة (أسد) من نجد والحجاز وشاعرها الجاهلي عبيد بن الأبرص (555م) الذي نسب إليه:

بالله يُدرك كل خير

والقول في بعضه تلغيب

والله ليس له شريك

علّام ما أخفت القلوب

والبيت الثاني يمكن مقارنته بالآيات: (لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) سورة الأنعام 163. (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) سورة التوبة 78.
أما الشاعر زيد بن عمرو بن نفيل (620م)، وهو من شعراء الحجاز، ومات قبل ظهور الإسلام بقليل، فقد نسب إليه:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له

الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها

بأيد وأرسى عليها الجبالا

وكلمة (دحاها)، التي إعتبرها بعض المفكرين المسلمين الحديثين دليلاً على قول القرآن الكريم بكروية الأرض، واردة في الآية 30 من سورة النازعات: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا). وزيد بن عمرو ليس الوحيد القائل بدحي الأرض، فها هو الشاعر أمية بن أبي الصلت (624م)، وهو شاعر جاهلي من قبيلة (ثقيف) من الطائف في الحجاز أدرك الإسلام ولم يسلم، يقول:

وبثّ الخلق فيها إذ دحاها

فهم سكانها حتى التناد (أي القيامة)

والحقيقة أن الشاعر أمية بن أبي الصلت هو من أكثر الشعراء الجاهليين القائلين بالقرآن وأغزرهم، وهو الذي قال عنه النبي محمد (ص): (عن أبن عباس قال النبي صلعم عن شعر أمية: آمن شعر أمية بن أبي الصلت وكفر قلبه‏). ومن الأشعار المنسوبة إليه:

ألا كل شئ هالك غير ربنا

ولله ميراث الذي كان فانيا

له ما رأت عين البصير وفوقه

سماء الإله فوق سبع سمائيا

ويمكن مقارنة هذه الابيات بالآيات: (وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) سورة آل عمران 180. (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) سورة المؤمنون 86.

وقال أمية أيضاً:

وترى شياطينا تروغ مضافة

ورواغها شتى إذا ما تطرد

تلقى عليها في السماء مذلة

وكواكب ترمى بها فتعرد (اي تهرب)

وتقول الآيات 8 و9 من سورة الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا.. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا).

ومما يُنسب لأمية أيضا:

وسبحان ربي خالق النور لم يلد

ولم يك مولودًا بذلك اشهد

وسبحانه من كل إفك وباطل

ولا والد ذو العرش أم كيف يولد

هو الصمد الحي الذي لم يكن له

من الخلق كفؤ قد يضاهيه مضدد

تسبحه الطير الحوائج في الخفا

وإذ هي في جو السماء تصعد

ومن خوف ربي سبح الرعد فوقنا

وسبحه الأشجار والوحش أبد
وهذه الأبيات يمكن مقارنتها بسورة الإخلاص: (قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ.. الله الصَّمَدُ.. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، والآية 13 من سورة الرعد: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).

وقال أمية أيضا:

من الحقد نيران العداوة بيننا

لئن قال ربي للملائكة اسجدوا

لآدم لما أكمل الله خلقه

فخروا له طوعًا سجودًا وركدُ

فقال عدو الله للكبر والشقا

أطين على نار السموم يسودُ؟

وهو ما يمكن مقارنته بالآية 61 من سورة الإسراء: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا).

ونسب أيضاً الى أمية بخصوص سفينة نوح عليه السلام:

المسبح الخشب فوق الماء سخرها

خلال جريتها كأنها عوم

تجري سفينة نوح في جوانبه

بكل موج مع الأرواح تقتحم

نودي قم واركبن بأهلك أن

الله موف للناس ما زعموا
مشحونة ودخان الموج يرفعها

ملأ وقد صرعت من حولها الأمم

حتى تسوت على الجودي راسية

بكل ما استودعت كأنها اطم

فهذه الأبيات يمكن مقارنتها بالآيات 44 -49 من سورة هود: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). مع التنويه الى أن سفينة نوح في سفر التكوين في التوراة رست على جبل أرارات وليس جبل الجودي. فكيف عرف أمية أين رست سفينة نوح القرآنية؟ بل ومن أين له أخبار الغيب الواردة في شعره؟.

أما الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني، وهو من قبيلة ذبيان من نجد والعراق وكان نديم الملك النعمان بن المنذر، فينسب إليه:

الخالق البارئ المصور

في الأرحام ماءً حتى يصير دماً

وهو ما يمكن مقارنته بالآية 24 من سورة الحشر: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

أما الشاعر العربي الجاهلي اليهودي السموءل بن عاديا الغساني، والذي عاصر الشاعر امرؤ القيس، فينسب إليه:

نطفةً ما مُنيت يوم منيتُ

أمِرت أمرَها وفيها ربيتُ (اي خُلقت)

كنّها الله في مكان خفيّ

وخفيّ مكانُها لو خَفيتُ

وهو ما يمكن مقارنته بالآيتين 37 و38 من سورة القيامة: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى.. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى)، وبالآية 13 من سورة المؤمنون (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ).

نكتفي بهذا القدر من عرض أشعار الجاهلية التي قالت بالقرآن الكريم، كما يقولون. وسنتعامل معها كعينة للدراسة، وذلك لأنها تختصر أشعار الجاهلية التي قالت بالقرآن، فهي تغطي مسافة زمنية تقارب مائة عام، من مولد امرؤ القيس في 520م وحتى صدر الإسلام (موت أمية بن أبي الصلت في السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة). وكذلك هذه العينة تغطي الجزيرة العربية جغرافياً، من اليمن جنوباً الى نجد وحدود الشام والعراق شمالاً، مروراً بالحجاز)، هذا عدا عن أن هذه العينة تتناول مواضيع وقضايا مختلفة ورد ذكرها في القرآن الكريم، من خلق الكون وخلق الإنسان، الى علم الغيب بخصوص الملائكة وإبليس والشياطين، الى العقيدة والإيمان بالله وحده لا شريك له، الى قصص الأنبياء والأولين.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: بما أن هذه الأشعار الجاهلية التي تصف النواحي الدينية والثقافية للعرب في الجاهلية الذين، حسب هذه الأشعار، كانوا يؤمنون بالله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، والذي يحيي العظام وهي رميم، والذي عرشه فوق السماوات السبع ويسبح الرعد بحمده، والذي لا يعلم السر غيره ويعلم ما تخفي القلوب، والذي خلق الانسان من نطفة كنّها في مكان خفيّ، والذي نجّى نوح من الغرق، والذي خلق آدم من طين وخلق إبليس من نار.. الخ، فما الداعي إذن لتنزيل القرآن الكريم؟ وما الداعي للدين الإسلامي ما دام المجتمع العربي في الجاهلية كان مؤمناً موحداً مسلماً؟ خاصة وأننا نعرف أن الشاعر العربي الجاهلي لم يكن يمثل رأيه فقط، بل كان (لسان حال) قبيلته، يُعبّر بشعره عن ثقافتها وهمومها وحياتها وطموحاتها!.

سنقوم الآن برحلة بحث في تاريخ العرب في الجاهلية محاولين رسم صورة تاريخية صحيحة عن المعتقدات الدينية لدى عرب الجاهلية، وكذلك سنحاول دراسة التباين في لهجات القبائل العربية الجاهلية بين بعضها البعض من جهة وبينها وبين لغة القرآن الكريم من جهة أخرى (وبالتالي لغة الشعر الجاهلي الذي قال بالقرآن كما يزعمون)، وذلك لكي نستطيع الحكم على هذه الاشعار، أهي فعلا أشعار جاهلية أم انها اسلامية منسوبة الى شعراء جاهليين (منتحلة بعد ظهور الاسلام)؟

المشكلة التي تواجه اي باحث في التاريخ الجاهلي هي اننا لا نعرف، تقريبا، شيئا عن هذا التاريخ، خاصة الذي يعود منه الى مئة عام وأكثر قبل الاسلام، اما ما كان قريبا من الاسلام فلم يهتم المؤرخون المسلمون به مثل اهتمامهم بالتاريخ الاسلامي. يقول د. جواد علي، صاحب (المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام)، بهذا الخصوص: (تاريخ الجاهلية هو أضعف قسم كتبه المؤرخون العرب في تاريخ العرب، يعوزه التحقيق والتدقيق والغربلة، وأكثر ما ذكروه على انه تاريخ هذه الحقبة هو أساطير وقصص شعبي وأخبار أخذت عن أهل الكتاب ولا سيما اليهود، وأشياء وضعها الوضاعون في الإسلام، لمآرب اقتضتها العواطف والمؤثرات الخاصة.. ومن الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنا ًفاكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخا.. لقد وفق المؤرخون العرب في كتابة تأريخ الإسلام توفيقاً كبيراً.. أما التأريخ الجاهلي، فلم يظهروا مقدرة في تدوينه، بل قصروا فيه تقصيراَ ظاهراً، فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى في هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافيه، ولم يظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية، فتركوا لنا فجوات وثُغراً لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن، ولا سيما في تأريخ جزيرة العرب).

لم يدوّن العرب، قبل نزول القرآن الكريم، أشعارهم وتاريخهم وأنسابهم، بعكس الرومان والفرس على سبيل المثال، بل حفظوه بالتواتر، حتى وصل الى الرواة في صدر الاسلام، فهل يمكن الاطمئنان الى (تاريخية) ما رواه الرواة من أخبار تعود الى مئات او آلاف السنين؟ لا يمكن الوثوق بالرواية الشفهية من الناحية العلمية، فمع مرور الزمن تزول الاحداث من الذاكرة الجماعية، ويتم تركيب الاحداث بطريقة اخرى حسب اهواء الرواة او حسب الظروف التي يمر بها هذا المجتمع، او يتم سد النقص في الرواية المنسية بإختراع قصص لسد الثغرات.

فلنأخذ مؤرخاً من أهم المؤرخين المسلمين على سبيل المثال، وهو (الهمداني) صاحب الاكليل، الذي أرخ لليمن، فنرى أنه لم يكن يعرف من تاريخ اليمن القديم سوى القليل، فها هو يذكر، على سبيل المثال، الاسم (تالب) على انه كان ملكا من ملوك همدان في اليمن وزعم انه ابن (شهران)، ولكن الحقيقة التي نعرفها الان من آثار اليمن ان (تالب) كان أحد آلهة اليمن وليس ملكا. وكذلك الحال مع إله سبأ الأعظم (المقة او ايل مقة) فقد جعله الهمداني اسماً لأحد أبنية سليمان التي بنتها الجن!!. ونفس الشيء يتكرر مع باقي المؤرخين مثل ابن الكلبي وابن اسحق وياقوت الحموي، وفي هذا كله دلالة على ان علمهم (تاريخهم) لم يكن من مصادر مدونة بل من أفواه الرجال. أما المصادر الآثارية لتاريخ الجاهلية في الجزيرة العربية فهي شحيحة جدا وتكاد تذكر، وسنأتي على بعض منها لا حقا حين نتحدث عن اللهجات العربية.

إن المصدر الاهم والذي يمكننا الوثوق به تماما حول التاريخ الديني لعرب الجاهلية هو بلا شك القرآن الكريم، فهو النص العربي القديم الذي تم تدوينه في زمن نزوله وبين أيدي أمينة. والقرآن خير مرآة تعكس لنا صورة الحياة الدينية في الجاهلية، والايات القرآنية تضعنا في بؤرة الحدث حيث أنها تُجادل مشركي مكة في الامور الدينية في الفترة التي نزلت بها الآيات، اي أنها لم تحمل عليهم شيئاً لم يأتوه، بل واجهتهم بأفعالهم وأفعال آبائهم.

فإذا ما نظرنا الى هذه الآيات لوجدنا انها تخبرنا عن حياة دينية في الجاهلية مغايرة لتلك الحياة التي وصفها الشعر الجاهلي الذي قال بالقرآن كما يزعمون. صحيح أن الجاهليين كانوا يؤمنون بوجود الله، لكن مفهومهم لهذا الإله كان يختلف عن المفهوم القرآني له، فالآيات تخبرنا أنهم كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى، هي في بعض الحالات بنات الله، كما هو الحال مع اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، كما أنهم لم يؤمنوا بالبعث بعد الموت، أي ان ديانتهم، حسب الآيات، لم تختلف كثيرا عن ديانات الاقوام القديمة في الشرق، وهي ليست الا امتدادا لها. القضية ليست قضية ذِكر (أشياء) متطابقة، بل كيف نفهم هذه الاشياء المتطابقة (اي قضية مفهوم).

العرب في الجاهلية كانوا يفهمون الله والملائكة والوحي والجنة والنار والبعث والحساب بطريقة أخرى، بمفهوم آخر مغاير للمفهوم القرآني، لذا نزلت الآيات القرآنية لتبين لهم المفهوم الصحيح. لم ينضج الدين الجاهلي، ولا اللغة الجاهلية كما سيمر معنا، ليصل الى درجة التوحيد القرآني التام، فكيف نضج هذا الدين الجاهلي واللغة الجاهلية على ألسنة الشعراء الجاهليين؟ أنصدق القرآن أم نصدق الرواة؟

وهناك نقطة أخرى مهمة في هذا المجال نعرفها من التاريخ الاسلامي نفسه، وهي حقيقة رفض الجاهليين ومقاومتهم للدين الجديد. لقد بذلت قريش ومن معها من قبائل العرب الغالي والنفيس للإطاحة بالدعوة النبوية الشريفة، والمعارك في صدر الاسلام، من بدر حتى فتح مكة (بل وحتى حروب الردة)، خير دليل على ذلك. هل يمكن أن تضحي العرب بخيرة أبنائها وبأموالها للقضاء على دين كانت تؤمن به؟. ولكن قد يقول قائل أن السلطة السياسية، وعدم خسارتها، كانت هي السبب لرفض القرشيين لهذا الدين، وذلك خوفا من أن يُنهي الدين الجديد سلطة أقطاب مكة السياسية والاقتصادية. نقول أن هذا وارد، ولكن هذا الامر لا يُثبّت الزعم بأن ديانة قريش في الجاهلية كانت إسلامية بالمفهوم القرآني للإسلام كما نُسب الى ألسنة شعراء الجاهلية.

ولو كانت الحال كذلك لما وصلت الامور الاجتماعية في مكة وتحالفاتها الى ما وصلت اليه، لأن الدين الاسلامي، لو كان موجودا فعلا كما يزعمون، لكان قد منع ذلك أصلاً. وقد يقول قائل آخر أن بقايا الدين (الحنيفي)، اي ديانة سيدنا ابراهيم عليه السلام، كانت موجودة في جزيرة العرب قبل الاسلام، وما هؤلاء الشعراء الذين قالوا بالقرآن الا (حنيفيون). هذا الامر بالنسبة لي غير مقبول البتة، كون القرآن الكريم لا يخبرنا بشيء من هذا القبيل، ولا حتى تلميحاً، وكل ما يذكره هو سيدنا ابراهيم نفسه وابنه اسماعيل عليهما السلام. وكل الشعر المنسوب لشعراء جاهليين (حنيفيين) ليس الا شعرا اسلاميا نُسب الى هؤلاء الشعراء لإثبات أقدمية الدين الاسلامي في جزيرة العرب على الديانتين اليهودية والمسيحية.

إذن، لا يوجد بين أيدينا مصادر خارجية حتى هذه اللحظة لدراسة الحياة الجاهلية، ويبقى القرآن الكريم خير مصدر. ونأمل في المستقبل أن تنتعش الدراسات الآثارية في الجزيرة العربية لتفصح لنا الارض العربية عن تاريخها. أما الشعر الجاهلي فهو ينتمي لنفس الاشكالية، فلم يصلنا من مصادر جاهلية مدونة، وانما كباقي الاخبار وصلنا عن طريق الرواة. يقول (أبو عمرو بن العلاء)، المتوفى سنة 154للهجرة: (ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير). لقد ذهب معظم الشعر الجاهلي مع تقادم الزمن وموت الرواة الاقرب للحدث وانطماسه من الذاكرة الجماعية، ولم يصل المسلمين منه الا القليل، ولما وصلوا الى عنفوان دولتهم كان لا بد لهم من تأريخ أصولهم التي نسوها، فنسجوا الاساطير التفسيرية، كما فعلت كل الشعوب، وبالطبع كان للشعر نصيب من هذا النسيج.

يذكر المؤرخون العرب ان (يعرب بن قحطان) هو اول من نطق بلغة العرب، ويذكرون ايضا انه (اسماعيل) عليه السلام، ويذكرون ايضا انها كانت لغة آدم في الجنة؟! إذن من الذي علم العرب لغتهم؟ يعرب أم اسماعيل أم آدم؟ الإرث اليهودي، الاقدم من الاسلامي، يخبرنا أن (العبرانية) كانت لغة آدم في الجنة ايضا، وأن العبرانيين هم من نسل (عابر بن سام بن نوح)، ومنه جاء العبرانيون. وهنا نتوقف قليلا عند هذه الاسطورة (التفسيرية)، اذ انه من المنطق الاسطوري ان يأتي (العبرانيون) من (عابر)، والاشتقاق اللغوي واضح لا لبس فيه، فالعابر هو المترحل (البدوي)، و(عبر) تعني تنقل. وكذلك الحال مع العرب، فهم عرب رُحّل (بدو)، وعرب هي إقلاب لغوي لكلمة عبر، وبما انهم عرباً فما المانع ان يكون جد لغتهم مشتقاً من الجذر (عبر) و(عرب)، وليس هناك خير من (يعرب) لكي يقوم بهذه المهمة، فتم إشتقاقه.

لا يمكن للغة أن تأتي من انسان بمفرده، فاللغة تتطور وتمر في مراحل ولا تثبت بل دائما في حراك ونمو، ولا يمكن ليعرب بن قحطان ان يأتي باللغة العربية، إنما نسي العرب أصولهم لأنهم لم يدونوها، فلم يكن امامهم من خيار سوى إختراعها، فقال المسلمون القحطانيون (من أصول يمنية) ان يعرب هو جدّ اللغة العربية، بعكس المسلمين العدنانيين الذين قالوا بإسماعيل. ولكي يثبت القحطانيون صحة روايتهم قالوا شعرا على لسان (حسان بن ثابت):

تعلمتُم من منطق الشيخ يعرب أبينا

فصرتم معربين ذوي نفر

وكنتم قديما ما بكم غير عجمة كلامٍ

وكنتم كالبهائم في القفر

ولا يخفى هنا على أحد يعرف سيرة حسان بن ثابت، شاعر الرسول، واخلاقه، انه لا يمكن ان يقول حسان هذا الشعر عن العدنانيين الذين ينتمي اليهم القرشيون، ومنهم رسول الله (ص). ويبدو ان دعاة القحطانية هؤلاء لم يخطر ببالهم ان لهجات اهل اليمن قبل الاسلام كانت تختلف عن اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، فكيف تعلم أهل الحجاز العدنانيون لغة القرآن العربية من اهل قحطان؟

كان أول رواة الشعر الجاهلي في الاسلام (حمّاد الراوية) زعيم اهل الكوفة في الرواية، وكان (خلف الاحمر) زعيم أهل البصرة. أما حماد فيخبرنا (المفضل الضبي)، وهو من رواة الكوفة، ان حمادا قد (أفسد الشعر افسادا لا يصلح بعده ابدا). وهذا ما يؤكده (محمد بن سلام) صاحب (طبقات الشعراء): (وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حمّاد الرواية، وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار)، وهو رأي (يونس بن حبيب) ايضا: (العجب من يروي عن حماد، كان يكسر ويلحن ويكذب).

أما (أبو جعفر النحاس)، المتوفى سنة 328 للهجرة، فقال في أمر المعلقات: (إن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة). أما خلف الاحمر فكان كذبه كثيرا، وقد اعترف للأصمعي بأنه قد وضع الشعر. أما (ابو عمرو الشيباني) فكان (يأجر نفسه للقبائل العربية، يجمع واحدة منها شعرا يضيفه الى شعرائها). وكان رواة الشعر يتخذون من الرواية مهنة مربحة، خاصة عندما زاد الطلب في المدن الاسلامية المفتوحة (الامصار) على شعر الاعراب، فكان المؤرخون والادباء يسافرون الى البوادي لتدوين الشعر العربي. ثم لاحقا ومع ازدياد الطلب على البضاعة انتقل الرواة من البوادي الى الامصار حاملين معهم اشعارهم المنحولة. ويخبرنا الاصمعي على سبيل المثال أن احد الاعراب، واسمه ابو ضمضم، قد انشده شعرا لمائة شاعر كلهم يدعى عمراً، فقال الاصمعي: (فعددت انا وخلف الاحمر فلم نقدر على ثلاثين). ويخبرنا ابن سلام ان (قريش نظرت فاذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية فاستكثرته في الاسلام)، ترى كيف استكثرته؟

ولم يكتفِ الرواة بوضع الشعر في أفواه الشعراء الجاهليين، بل تمادوا في وضع الشعر في أفواه الملائكة والجن والشياطين، وما عليك سوى قراءة اي مرجع اسلامي مثل (الأغاني) حتى ترى حجم المأساة، فقد نسب الرواة شعرا لسيدنا آدم عليه السلام قاله في رثاء إبنه، وقالوا شعرا على لسان الجن التي ردت على شعر آدم، وقالوا شعرا على لسان الجن التي قتلت (سعد بن عبادة) زعيم الانصار، وقالوا شعرا ونسبوه الى عاد وثمود وانبياء عاد وثمود، رغم ان الآيات القرآنية تخبرنا ان عادا وثمودا زالتا منذ زمن بعيد. فهل كانت الذاكرة العربية الجماعية قوية لدرجة انها ما زالت تحفظ شعرا قاله آدم عليه السلام؟!.

لا يمكن ان يكون هؤلاء الشعراء الجاهليين الذين قالوا بالقرآن حنيفيون، كما يقول بعض الرواة، كون الآيات القرآنية لا تخبرنا شيئا عن الحنيفيين زمن نزول الايات او قبلها، رغم ذكر الايات القرآنية أن سيدنا ابراهيم عليه السلام كان حنيفاً (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) (سورة آل عمران)، وأن سيدنا محمد (ص) إتبع ملة إبراهيم: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة النحل) و(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة الانعام). غريب أمر هؤلاء الحنيفيين لا تذكرهم الآيات القرآنية رغم الأهمية القصوى التي يوليها القرآن لسيدنا ابراهيم وأتباعه، خاصة وأن القرآن في حالة مشابهة ذكر لنا المسيحيين الرهبان والقسيسين وأنصفهم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) (سورة المائدة).

فلماذا لم تنصف الآيات ولا تذكر الحنيفيين على أهميتهم مثلما ذكرت القسيسين والرهبان؟ لماذا لم تحاجج الآيات العرب المشركين بالحنيفيين كما حاججت العرب المسيحيين بالرهبان والقسيسين؟.
الجواب حسب اعتقادي أنهم لم يكونوا موجودين، وإنما تم اختراعهم لاحقا بعد ظهور الاسلام من قبل الرواة. ولماذا لم يُسلم من عايش منهم البعثة النبوية الشريفة؟ فها هو شاعر ثقيف العتيد أمية بن أبي الصلت، الحنيفي الذي قال بالقرآن كما يزعمون، قد عاصر النبي ومات في السنة الثانية للهجرة، فلماذا لم يؤمن بالنبي الكريم وما جاء به من إتباع لديانة ابراهيم الحنيفية؟ بل على العكس فقد قال شعرا يرثي به قتلى قريش في معركة بدر.

لقد كان النص القرآني واضحا جدا في عشرة مواقع قرآنية بخصوص ملة سيدنا ابراهيم الحنيفية وإتباع سيدنا محمد (ص) لها، فلماذا لم يتبعها أمية؟ خاصة وأن الرسول بعد موت عمه ابي طالب كان قد هاجر، ومن معه من المسلمين الاوائل، الى الطائف، معقل ثقيف وأمية، طالبا نصرتهم، فرفضوه وآذوه. أما سبب رفض أمية الدخول في الاسلام فهو الحسد كما يقول المسعودي: (أمية بن أبي الصَّلْتِ الثقفي، وكان شاعراً عاقلاً، وكان يتَّجِر إلى الشام، فتلقاه أهل الكنائسي من اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وكان قد علم أن نبيّاً يبعث من العرب.. ولما بلغه ظهور النبي صلى الله عليه وسلم اغتاظ لذلك وتأسف، وجاء المدينة ليسلم فرده الحسد، فرجع إلى الطائف، فبينما هو ذات يوم في فتية يشرب إذ وقع غراب فنعَقَ ثلاثة أصواب وطار، فقال أمية: أتدرون ما قال؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول لكم: إن أمية لا يشرب الكأس الثالثة حتى يموت، فقال القوم: لتكَذِّبَنَّ قوله: ثم قال: أحْسُوا كأسكم، فَحَسَوْها، فلما انتهت النوبة إليه أغمي عليه.. ثم شَهق شهقة فكانت فيها نفسه).

وهذا يبدو لي أقرب الى القصص الشعبي منه الى علم التاريخ. والأمر الثاني المستغرب بخصوص هؤلاء الشعراء الحنيفيين انهم روّجوا بشعرهم للديانة الحنيفية، كما يقول الرواة، ولم يلقو اية معارضة او أي أذى من العرب الجاهليين بخلاف ما حصل للرسول الكريم، فلماذا ترك سادة العرب هؤلاء الشعراء الحنيفيين يروجون بشعرهم لديانة ابراهيم الحنيفية المخالفة لديانتهم وديانة آبائهم بينما منعوا الرسول وحاربوه عندما أخذ بدعوة قومه وعرض نفسه على القبائل العربية في مواسم الحج؟!.

أما بخصوص اللغة العربية وكونها أتت من (يعرب بن قحطان) او غيره، سواء كان عدنانيا من الحجاز او قحطانيا من اليمن، فكلها قصص لا يمكن الاطمئنان الى صحتها التاريخية. وهاكم ما قالته العرب عن هذا الموضوع حسب ما وصلنا من الرواة. يقول ابن منظور ويوافقه المسعودي (واختلف الناس في العرب لم سُمّوا عرباً فقال بعضهم: أول من أنطق الله لسانه بلغة العرب يعرب بن قحطان، وهو أبو اليمن كلهم، وهم العرب العاربة). أما ياقوت الحموي فيذكر (أول من تكلم بالعربية يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، ويقال إن يقطن هو قحطان، عُرّب فسمّي قحطان ولذلك سمي ابنه يَعْرُب بن قحطان لأنه أول من تكلم بالعربية). أما كيف حدث ذلك فيخبرنا ياقوت الحموي (لما حشر الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحاً شرقية وغربية وقبلية وبحرية، فجمَعَهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذٍ ينظرون لما حشروا له، إذ نادى منادِ من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره فاقتصد البيت الحرام بوجهه فله كلامُ أهل السماء، فقال يعرُبُ بن قَحطان فقيل له يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو، فكان أول من تكلم بالعربية، ولم يزل المنادي يُنادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لساناً وانقطع الصوت وتبلبلت الألسنُ فسميت بابل وكان اللسان يومئذٍ بابلياً).

أما النويري فيذكر (قال الشريف الجواني: وهذا مختصر من نسب اليمن. قال: إن العقب من قحطان بن عابر من يعرب بن قحطان: وهو الذي زعمت يمن العرب إنما سميت عربا به وأنه أول من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلها). أما البلاذري فقال (وحدثني عباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن جده، عن أبي صالح، قال: تكلمت العرب العاربة بالعربية حين اختلفت الألسن ببابل. قال هشام: وأهل اليمن يقولون: أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان).
نلاحظ من هذه الاحاديث ان العرب إختلفوا في قصة يعرب واللغة العربية حسب ما قال ابن منظور، وان اهل اليمن زعمت ما زعمت حسب ما قال النويري والبلاذري.

والملاحظة الثانية هي دخول الاساطير التوراتية من الكتاب المقدس والادبيات اليهودية على الرواية التاريخية العربية الاسلامية، فلا يخفى على احد ان قصة (تبلبل الألسنة) في بابل، الواردة في (سفر التكوين)، محاولة اسطورية لتفسير ظاهرة اختلاف لغات البشر، والخطأ التوراتي كالعادة جاء في الاشتقاق، كون بابل مشتقة من (باب ايل) اي (باب الله او بيت الله) وليست مشتقة من (بلبل): (لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ) (سفر التكوين 11: 9). ولم يقف دخول الاساطير التوراتية على الخط العربي الاسلامي عند هذا الحد، فطريقة الأنساب عند النسّابين العرب موازية تماما لخط النسب كما جاء في سفر التكوين، وهذا يبدو واضحا في قول ياقوت الحموي الوارد اعلاه أن (يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، ويقال إن يقطن هو قحطان، عُرّب فسمّي قحطان).

فعلاً ان قحطان عند العرب هو (يقطان) في سفر التكوين: (بَنُو سَامٍ: عِيلاَمُ وَأَشُّورُ وَأَرْفَكْشَادُ وَلُودُ وَأَرَامُ. وَبَنُو أَرَامَ:عُوصُ وَحُولُ وَجَاثَرُ وَمَاشُ. وَأَرْفَكْشَادُ وَلَدَ شَالَحَ، وَشَالَحُ وَلَدَ عَابِرَ. وَلِعَابِرَ وُلِدَ ابْنَانِ: اسْمُ الْوَاحِدِ فَالَجُ لأَنَّ فِي أَيَّامِهِ قُسِمَتِ الأَرْضُ. وَاسْمُ أَخِيهِ يَقْطَانُ. وَيَقْطَانُ وَلَدَ: أَلْمُودَادَ وَشَالَفَ وَحَضَرْمَوْتَ وَيَارَحَ وَهَدُورَامَ وَأُوزَالَ وَدِقْلَةَ وَعُوبَالَ وَأَبِيمَايِلَ وَشَبَا وَأُوفِيرَ وَحَوِيلَةَ وَيُوبَابَ. جَمِيعُ هؤُلاَءِ بَنُو يَقْطَانَ) (تكوين 10: 21-31). إذاً، يقطان حسب التوراة هو من الجيل الخامس بعد نوح عليه السلام، وهو ايضا من الجيل الخامس قبل ابراهيم عليه السلام: (هذِهِ مَوَالِيدُ سَامٍ: لَمَّا كَانَ سَامٌ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ وَلَدَ أَرْفَكْشَادَ، بَعْدَ الطُّوفَانِ بِسَنَتَيْنِ.. وَعَاشَ أَرْفَكْشَادُ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ شَالَحَ.. وَعَاشَ شَالَحُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ عَابِر.. وَعَاشَ عَابِرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ فَالَجَ.. وَعَاشَ فَالَجُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ رَعُوَ.. وَعَاشَ رَعُو اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ سَرُوجَ.. وَعَاشَ سَرُوجُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ نَاحُورَ.. وَعَاشَ نَاحُورُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَوَلَدَ تَارَحَ.. وَعَاشَ تَارَحُ سَبْعِينَ سَنَةً وَوَلَدَ أَبْرَامَ (أي إبراهيم) وَنَاحُورَ وَهَارَانَ) (تكوين 11: 10-26). وبذلك يكون يقطان (او يقطن او قحطان) قد عاش حوالي سنة 2000 قبل الميلاد حسب التأريخ التوراتي. مع التنبيه انه رغم ان الرواة العرب المسلمين أخذوا النسب عن الاحداث التوراتية، التي لا يأخذ علماء التاريخ الحديثين بها، إلا ان التوراة لا تورد، كما رأينا آنفاً، ان (يعرب) كان من أبناء يقطان: (وَيَقْطَانُ وَلَدَ: أَلْمُودَادَ وَشَالَفَ وَحَضَرْمَوْتَ وَيَارَحَ وَهَدُورَامَ وَأُوزَالَ وَدِقْلَةَ وَعُوبَالَ وَأَبِيمَايِلَ وَشَبَا وَأُوفِيرَ وَحَوِيلَةَ وَيُوبَابَ. جَمِيعُ هؤُلاَءِ بَنُو يَقْطَانَ).

فمِن أين أتى الرواة العرب بيعرب هذا؟ لقد إقتضته ضروريات الاشتقاق اللغوي لأصل العرب (اي ان يعرب مشتقة من عرب وليس العكس كما يزعم الرواة). أما القصص الجميلة التي يرويها بعض الرواة عن قصة يعرب مع ابيه قحطان بخصوص استعمال اللغة العامية (العربية) محل اللغة الرسمية (الآرامية القديمة) فهي من الناحية التاريخية لا اعتبار لها. غريب أمر هذه الذاكرة العربية الفذة التي ما زالت تذكر أحداثا تعود الى اكثر من 2700 عاما دون تدوينها. تُرى مَن من الرواة في صدر الاسلام حضر ذلك الاجتماع الذي حصل قبل 2700 سنة في الديوان القحطاني هذا؟!. لم تستطع الذاكرة الجماعية المصرية او العراقية، على سبيل المثال، الاحتفاظ بأخبار رعمسيس الثاني وأمنحوتب، او اخبار سرجون الاول، الا بعد ان إكتشفها علم الآثار الحديث، فكيف استطاعت الذاكرة العربية الاحتفاظ بتاريخ ابعد من ذلك؟!.

يقول د. جواد علي في المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام: (لقد كان للعرب قبل الإسلام لغات، مثل المعينية والسبئية والحمرية والصفوية والثمودية واللحيانية وأمثالها، اختلفت عن عربية القرآن الكريم اختلاقاً كبيرا، حتى إن أحدنا إذا قرأ نصاً مدوناً بلغة من تلك اللغات عجز عن فهمه، وظن إذا لم يكن له علم بلغات العرب الجاهليين أنه لغة من لغات البرابرة أو الأعاجم). وهذا ما يؤكده علماء اللغة العربية الأوائل. يقول ابو عمرو بن العلاء: (ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا).

وهذا يؤكده لاحقاً أبن جني في كتاب الخصائص: (فلسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابني نزار). وكذلك ذهب الجاحظ في كتاب الرسائل: (فقد تخالفت عُليا تميمٍ، وسفلي قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي أكثرها على خلاف لغة حِمير، وسكان مخاليف اليمن). أما ابن خلدون في مقدمته فيعطينا صورة أشمل وأوضح: (كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم.. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها).

فكيف إستطاع الشعراء العرب في الجاهلية على اختلاف قبائلهم ومواقعهم الجغرافية، وبالتالي لهجاتهم، الإتيان بشعر متطابق في اللغة ومطابق للغة القرآن الكريم؟ كيف إستطاع إمرؤ القيس، وهو من اليمن، القول (قُتّل الإنسان ما أكفره) ليتطابق تماما مع الآية القرآنية؟ وكيف إستطاع حاتم الطائي، وهو من اليمن أيضا، القول (ويحيي العظام البيض وهي رميم)؟ هذا عداك عن أشعار عبيد بن الابرص (من بني أسد) وغيره الذين قالوا بالقرآن كما يزعمون.

أما الاختلافات في اللغات العربية قبل الاسلام كما تخبرنا بها الآثار المكتشفة فنورد منها الأمثلة التالية، وذلك لشح المكتشفات الآثارية وقصر العبارات المكتشفة. يقول نص قتباني ما يلي: (ورخس ذو تمنع خرف..)، وهذا يعني (أرّخ في شهر تمنع من سنة..). وأما حرف (السين) اللاحق بكلمة (ورخ) فانه أداة التنكير، أما (ذو تمنع) فهو إسم شهر من الشهور. وكلمة (ورخ) هنا قريبة جدا من إستعمال قبيلة تميم، إذ هي تقول: (ورخت الكتاب توريخاً) أي: (أرخت الكتاب تأريخاً). وفي النصوص العربية الجنوبية الحميرية يرد ذكر إسم الإله (رحمَنُنْ) أي (الرحمن) لم يذكر الرواة المسلمين انه كان من آلهة العرب في الجاهلية. ويرد ذكره في النص التالي (رحمنن بعل سمن) اي (الرحمن رب السماء). وحرف (النون) في نهاية كلمة رحمن (وكذلك سمن) هي أداة التعريف (أل العربية). اما في اللغات العربية الشمالية فإن حرف (الهاء) في اول الكلمة كان يقوم مقام أل التعريف، مثل كلمة (هبعل) اي البعل، ثم تم اهمال حرف العين للتخفيف لتصبح (هبل).

هذه نماذج من لغات العرب قبل الاسلام لا تبعد تاريخياً كثيرا عن ظهور الاسلام، فهي تعود الى ما بعد الميلاد. يا ترى ماذا كانت لغات العرب قبل الميلاد بـ 2000 عام، زمن يعرب بن قحطان كما يزعمون؟. وكيف إستوت هذه اللهجات المختلفة لتصبح على ألسنة شعراء الجاهلية لهجة واحدة خاضعة لنفس التفعيلات وبالتالي نفس بحور الشعر؟. هذا لا شك قد حصل لاحقاً بعد ظهور الاسلام حين أصبحت لغة القرآن هي لغة العرب كلهم. وبعد موت الرسول الكريم، وما تبعها من خلافات سياسية وتعصبات قبلية حادة، قامت كل جماعة من هذه الجماعات المتناحرة بوضع الشعر على ألسنة شعرائها الجاهليين لإثبات أسبقيتها في اللغة العربية وفي الدين الاسلامي، وكأنها تريد ان تقول بأنها كانت في جاهليتها أقرب للدين الاسلامي من الآخرين، وبذلك هي الأحق في الوصاية عليه.


مشاركة منتدى

  • اخي الكريم يجب علينا عدم دفن رؤوسنا بالمال الشعراء العرب قالوا بالقران باعتراف نبينا محمد ص نفسه عندما قال عن اميه ابن السلط انه اول من تكلم بالقران قبل نزوله . فقولك انهم لم يتكلمون بالقران مخالفه للحديث الشريف . اما عن تفسير ذلك فعلمه عند الله وشكرا

  • لا ادري كيف أعبر عن إعجابي بمقالك يا دكتور.و الله لو صرخت رائع رائع ...١٠٠٠ مرة فما قد غلوت.
    إنتظرت ٩ سنين كي أطلع على هذا المقال المدهش الذي يبعث فيـنا روح الله(الأمل و الفرج).
    والله ماقلت الا صدّقت بما قبله العقل وما يوحي به الواقع. فالزمان قد لا ينطق لاكن يعبر و يشير وما علينا الا بجمع الإشارات و تركيبها فنرسم قرآنا يفتح لنا بوابة على الماضي.
    كما قال الحق عز وجل:
    "أَفَلا يَنظُرونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَت
    وَإِلَى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَت...."
    وقال عز وجل:
    "أَوَلَم يَهدِ لَهُم كَم أَهلَكنا مِن قَبلِهِم مِنَ القُرونِ يَمشونَ فى مَسٰكِنِهِم ۚ إِنَّ فى ذٰلِكَ لَءايٰتٍ ۖ أَفَلا يَسمَعونَ"
    جزاك الله كل خير. و الله يقولون الكذب على لسان رسول الله و ما كان الرسول ان يصدّق أو يختم على قول شاعر وقال الله في كتابه:
    " وَما هُوَ بِقَولِ شاعِرٍ ۚ قَليلًا ما تُؤمِنونَ
    وَلا بِقَولِ كاهِنٍ ۚ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ"

  • مقال عقلاني يستخدم العقل في الإشارات بما يوحي بأن كاتبه استخدم عقله بكل ماتعنيه الكلمه من معنى نعم انا اشيد بما قلت وهو الصواب عندما استخدمت استنتاجات العقل وجدت تقارب شيديد مع ما ذكرت وتذكرت قوله تعالى ( افلا يتفكرون ) وقوله (افلا يعقلون ) من هنا استطيع ان اقول لك : انني أوتيت من لدُنك حكمة اعقل بها العقول .. وهذا اقل مايقال لك ولك شكري وتقديري استمر انار الله عقلك وابقاك سالماً.
    ولدي اضافت لما قلت واتمنى ان تأخذ نصيبها من البحث وتحري الحقيقة بالعقل والمنطق : ان النبي محمد عليه الصلاة والسلام قرب لنا صحة قولك بالإستشهاد على ذلك في قوله عن شعر أميه ابن الصلت الثقفي ( آمن شعره وكفر قلبه ) اي كفر بأعتقاده قبل الإسلام ان يكون هو النبي وليس محمد عليه الصلاة والسلام لكثرة ماوجد من تطابق بين بلاغة شعره والقرآن في أمور كثيره .. ولكنه مؤمن بالله عز وجل والأمثله في ذلك كثيره منها على سبيل المثال : ان الرسول الكريم قبل ان يبعث بالرساله وقبل ان ينزل عليه الوحي كان يتعلم من شعر أميه ابن الصلت الأمور الدينيه اي الحنفية ملة ابينا ابراهيم عليه السلام ولذلك اعجب بمايقوله اميه ابن الصلت بما يشير هنا أن الشعر هو اللغة السائده التي يتعلمون منها العرب الدين واللغة والحكمة قبل نزول القرآن فقط هذا قبل الأسلام من جهة.
    من جهة اخرى : ان الرسول أمر بحرق اشعار اميه ابن الصلت ؟؟! لكي لا يفتتن به الناس مع نزول القرآن وإكتفى بقوله صلى الله عليه وسلم : ( أميه ابن الصلت آمن شعره وكفر قلبه ).
    بما يشير أن دواوين أميه ابن الصلت لو لم يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن تحرق لكان مرجع أخر للدين والعلوم مع القرآن وهذا الرأي يؤكد جزما انه هو الصواب لما استنتجت من امور ترجع للعقل والمنطق أن اميه ابن الصلت كان يرى انه احق بالنبوه من محمد عليه الصلاة والسلام وكان يرى ان محمد صلى الله عليه وسلم تلميذه حيث كان الرسول يتعلم منه امور الدين والدنيا فمن غير المقبول أن يتعلم الأستاذ من تلميذه ؟؟! اي قبل الإسلام هذ مايفسر لنا صحة ماجعل اميه يكفر بمحمد وآمن بالله عز وجل والله اعلى وأعلم
    هذا مما يدعمنا في البحث في هذا الموضوع أكثر وتحريك البوصلة مره أخرى لنربط تلك الأحداث بالماضي الأقرب إلينا ! اي قبل نزول القرآن بالتحديد الى الإستنتاجات التي تدعم تاريخ العرب قبل الإسلام وعلاقة ذلك باللغة العربية ومعجزة القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب حيث كانت الفصاحة هي السائده ؟؟؟

  • أنتم من عظمتم هذا الدين وحوّطوه بهالة من القدسية جعلتكم كالعميان عقولكم لا تحاول إلا تصديق ما تؤمنون به ولو جعلتم للشك مكان ووضعتم الدين تحت النقد الموضوعي والعلمي والمنطقي بكل تجرد فلن يصمد طويلا . الايمان بالله تعالى لن يتغيّر إن اكتشفنا أن ما نؤمن به غير صحيح ووضعكم الآن لا يختلف عن وضع الذين كانوا يعبدون الأصنام ظنّا منهم أنهم يعبدون الله وهم على العكس لكن لا يعلمون !!!

  • طبعا لن تنشروا إلا التعليقات المؤيّدة لآرائكم المقدّسة
    لا يدرك الله إلا العقل ومنهجه العلم وليس الاعتقاد الجامد المتخلف المعيق للتقدم والرقي

  • بسم الله الرحمان الرحيم ، لقد فهمت من مقالك أن الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية (كامرئ القيس وعنترة الفلحاء و لبيد بن ربيعة..) خاصة ما تضمن منها مفردات وجملا وافقت آي القرآن الكريم كما نفيت وجود من سُمّوا بالحنيفيين ، فنقول و بالله التوفيق : يبقي القرآن قرآنا و هو كلام الله المعجز بلفظه و بذاته و هو المنزل على محمد -ص- خاتم الأنبياء و المرسلين، إن ادّعاءك و تشكيكك في صحة ما روي عن شعراء الجاهلية في بعض أبياتهم و قصائدهم من كلمات و مفردات و جمل توافق كلمات القرآن باطل و عارِ من الصحة وإنما اختلقها الروّاة بعد أن اقتبسوها من القرآن الكريم و هذا من عدّة وجوه :1-إن موافقة ومطابقة كلمات و مفردات القرآن الكريم لبعض ما قيل في الشعر الجاهلي لا يحطّ و لاينقص من قيمته كما أنه لا يرفع من درجة الشعر فوق منزلته فالقرآن قرآن و الشعر شعرٌ.2-لم يدّع احد من هؤلاء الشعراء و لاغيرهم من الرواة أوالحفاظ أن كلامه سيوافق القرآن وهذا ديدن الشعراء(ألم ترأنهم في كل واد يهيمون) فعلى اعتبار أن أغلبهم يوقل ما لايفعل من أجل نيل المراتب العليا و الحصول على المال فكيف ينس ذكر أفضلية كلام الله في شعره ، فصحة أشعارهم دليل على عدم علمهم الغيب و نزول القرآن بل كانوا يقولون الشعر بالفطرة.3-لقد اوردتفي مقالك كلاما لا يصح و لايمكن اثباته بدليل قاطع مثل ادّعائك أن الحنيفيين لم يكونوا موجودين بل تم اختراعهم و على هذا لا يمكن الاعتداد بشعرهم و استدللت في ذلك بالقرآن الكريم و هذا غير صحيح فعدم ذكر القرآن الكريم للحنيفيين لا ينفي وجودهم فهناك أنبياء و صالحون لم يذكرهم القرآن الكريم رغم أن السنة أثبتت وجودهم "ورسلا قصصناهم عليك و رسلا لم نقصصهم عليك" فالعبرة هنا بالأثر و ليس بالوجود.4-لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننكر أن الناس قديما قبل بعثة النبي -ص- كانوا يعرفون الله عز وجلّ (ألوهية و ربوبية) و انما اختلفوا في طريقة ايمانهم به و هذا صرّح به القرآن " و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" و هذه الآية تدل صراحة على أن كل الناس يعرفون الله بالفطرة "فطرة الله التي فطر الناس عليها" فلا غرابة أن يذكر الشعراء ذلك و هم بشر توحيد الله في شعرهم كما أن الحنيفية الابراهيمية تركت آثارا كبيرة في الجزيرة و إن وجود الأصنام الكثيرة لا ينفي وجودها في بعض المواقع و إن قلّت.5-ادّعاء بعض الروّاة أن هناك من الشعراء من قال بالقرآن ليس له أي صحة و هو أيضا كلام اخترعته.6-قولك إن قريشا لم تؤذ الحنيفيين كما ىذت النبي -ص- دليل على عدم وجودهم و هذا استدلال خاطئ لعدّة امور : أولا : أنهم لم يدعوا النبوة كما فعل محمد -ص- ثانيا : لم تكن لهم شريعة و لارسالة و لاكتاب.ثالثا:لم يناهضوا قريشا و لم يهدّدوا كيانها فلم يهتم لهم صناديد قريش مادام خطرهم ضعيف كما فعل محمد -ص- فقد هدّد مستقبل قريش الديني و السياسي و الاقتصادي ، يعني بالمعنى المعاصر كان يقتصر دور الحنيفيين على التحسيس فقط.6-وجود بعض التدليس في الشعر الجاهلي من طرف الروّاة و إن كثر لا ينفي ان فيه ما هو صحيح و صادق.7-ما لا يدرك جله لا يترك كله ، فلا يمكننا رفض الشعر الجاهلي لما احتواه من فوائد لغوية وعلمية جمة و قد رجع الصحابة رضوان الله عليهم إليهم في تفسيرهم للقرآن الكريم " و قد قال عليه الصلاة و السلام :"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".8-ذكر القرآن للقسّيسين و الرّهبان و الأحبار دون الحنيفيين لا ينقص من قدر الأحناف ، و إنما ذكر القرآن احبار اليهود و علماء النصارى لأنهم خالفوا الأنبياء و قد كانوا أتباع من كان قبلهم من الأنبياء لذلك وجب التحذير منهم ومن شرهم.9-الغريب في مقالك أنك لا تفرق بين الجاهلية و الاسلام في قضية اللغة ، فلغة العر قبل الاسلام كانت كاملة و ناضجة و لو لم تكن كذلك لما نزل القرآن بها ولما شرفها بنزوله ، و انما القرآن رقاها وحفظها فيما بعد ، و هذا بصريح القرآن "وما أرسلنا من نبي إلا بلسان قومه ليبين لهم" فهل جاء النبي -ص- بغير لسان العرب و هل نستطيع أن نقول حسب ادّعائك أن الرّسول -ص- كان يكلم الناس بلغة لم تنضج بعد ، لست أدري من أين جئت بهذا الافتراء ، و اللغة العربية تدهورت فيما بعد لاختلاط العرب بالعجم نتيجة انتشار الاسلام فكان القرآن هو الوعاء الحافظ لها و لولاه لذهبت و هذا يندرج ضمن معنى قوله تعالى :"إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون" فحفظ القرآن من حفظ اللغة و حفظ اللغة من حفظ القرآن ، خلاصة القول لم تصل إلى النتيجة التي أردتها و هي أن (الشعر الجاهلي الذي ذكر مفردات و كلمات القرآن غير ثابت ) و هذا ثات فالدلائل و البينات على ذلك كثير و لقد أنكر القرآن على الشعراء غلوهم و عدم صدقهم في أقوالهم و لم ينكر عليهم لغتهم ، و إن عدم توثيق المؤرخين العرب للتاريخ الجاهلي لا ينفي روايته شفهيا فعائشة رضي الله عنها روت 12000 بيت للبيد بن ربيعة وحده ، واستدل ابن عباس بقول الأعرابي في البئر التي خاصمه فيها رجل بقوله "أنا فطرتها أولا" في تفسير قوله تعالى "فاطر السموات و الأرض" فكيف يستدل ابن عباس كما تقول بأقوال مقتبسة و لم تثبت مع أن الأعرابي لم يقرأ القرآن بعد وابن عباس لم يكن يعرف معنى كلمة "فاطر" حتى نطقها الأعرابي ، ألأيس هذا دليلا على الارث اللغوي الذي كان موجودا لدى العرب في نثرهم و شعرهم جوهرة ثمينة يجب الحفاظ عليها و عدم القدح فيها بغض النظر عن ما حوته من معاني .....

  • الحمد لله الذي لا يحمد سواه والصلاة على خير البرية محمد-ص واله - وسلم
    اؤيدك في كل ما ذكرت داعيا الله لك بالتوفيق في كل الاصعدة,سيدي في بحثي عن مفردة لفظ -وحى- تيقنت انها لفظ استعمل في كتابه تعالى على حد التفرد ,بما يحوي من معان ,ولو كان لمثل هكذا فكريساير القران في شعر او غيره لما لم يرد هكذا لفظ في جميع ما قيل قبل الاسلام ؟بل وحتى في التوراة والانجيل ؟ولما كان ذلك وهي لفظ يميل اليه من قال من الشعراء في الجاهليه لكثرة معانيه , لكن ارهم عجزوا رغم دواعيهم وشدة حاجتهم في قولهم لكان من الاولى ذكر هذا اللفظ !!اجدت البيان..

  • القرآن ليس بتاريخ ولن يكون بتاريخ بأجماع الفهاء المسلمين أنفسهم وهذا ما يذهب إليه أيضا المؤرخين والباحثين ، فإن كان يوجد غموض في أي فترة من العهد الجاهلي ومهما تكن درجة الغموض وشحة المعلومات ، فهذا لا يكون مبرر لأعتبار القرآن مرجع وحيد لأستكشاف موضوع . والسبب في ذلك أن نصوص القرآن تستعرض بعض أحداث تاريخية بشكل مشرذم ومفتت بمختلف السور مدنية أو مكية هنا وهناك لأغراض إيمانية ودينية فقط ، حيث أن الأحداث التاريخية ااتي يستعرضها القرآن بحاجة إلى بحث آخر من التفسير والتأويل لا يحصل عليها أي أجماع واالأضطرار إلى الأستعانة بمراجع أخرى قبل القرآن للتأكد من تحديد هوية الحدث وهوية أصحاب الحدث والغوص في تفصيل الحدث مما يؤدي إلى الدخول إلى مناهات عويصة لابمكن الخروج منها بأستنتاج سليم وخاصة أن المراجع التاريخية قبل الأسلام سواء أكانت خطية أم شفهية معظمها لها حساسيات ومضامين لا تتماشى مع قيم القرآن ومبادئه .

  • شكرا استاذ ظافر المقدادي على هذا البحث الشيق و المفيد الذي استقينا منه الفائده و البحث في كثير من الامور التي كانت غائبه عن الذهن
    و لكن السؤال الذي اطرحه عليك و على المتابعين و الذين اظن انهم اقدر و اكثر مني علما هو
    لماذا كان كفار قريش دائما ينعتون رسول الله صل الله عليه و سلم بالشاعر و القران الكريم بالشعر - و العياذ بالله- اليس هذا دليلا بأن عددا من شعراء الجاهليه اجريا على لسانهم بعضا من المعاني و الالفاظ القرآنية؟
    و هم الاقرب زمانيا الى هؤلاء الشعر و الحفظ و التواتر لشعرهم ؟
    و شكرا لك و جزاك الله كل خير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى