

هل يصْدُقنا التصويت؟
يأتون ويذهبون. أحدهم يترك أثرا يحفر له مكانا في الذاكرة، وآخرون يمرون كمر السحاب، هذا يشبه ذاك، لا نفرق بينهم لدقة الشبه وشدته، أشخاص منثورون على الأرصفة، متشابهون شكلا ومضمونا، يصوت الجمهور للذي تتلقفه ألسنة الصحافة والإعلام، وتلتقطه الكاميرات ميمنة وميسرة، وتملأ به فراغ صفحاتها الجرائد، وشاشاتها التلفزات؛ بينها يمتص غيره العدم ولا يعيده إلينا، وإن كان يملك قدرات فكرية قد تتطور لو تخلصت من الحلقات المغلقة التي تقيدها. خاصة أن الانطباع الأول الذي يكونه المرء عند التفكير في إقامة علاقة دائمة أو مؤقتة مع شخص ما.
ما يجعل علامة الاستفهام تكبر وتتضخم، وتفرض الأسئلة الكبرى حول مدى مصداقية نتائج الاستطلاعات التي تحيل البعض للبقاء والبعض الآخر للفناء، وهل فعلا يصوت الجمهور للشخص بعينه؟ أم أن التصويت يخضع لظروف و حيثيات هي التي ترفع وتُخفض؟حسب العوامل المؤثرة على نفسية الإنسان و على القرارات التي يتخذها حول مختلف شئون حياته، ما يوجب بالتالي إيضاحا للحقائق وتفسيرا للوقائع، حيث أنه في فترة زمنية قصيرة جدا، قياسا بعمر الظاهرة المهمة والبالغة الخطورة على العقل الجمعي، ولدت شركات كثيرة بقنوات متخصصة في ابتزاز أصوات الجماهير لشراء السمعة البراقة، وصنع المكانة المرموقة، من خلال مسابقات تثبيت التعصب لفكرة الشخص المميز بقوته الطبيعية وتفوقه، والذي يظهر على رأس كل عدة عقود أو قرن ما، وتعظيم كذبة الفخر والصيت و النجم الأعلى )السوبرمان( في نفوس لفئات الاجتماعية.. ويبقى التساؤل الأصدق.. هل نتائج التصويت تتمتع بمصداقية ووفاء للشخص المصطفى وجمهوره؟، أم أنها فبركة إعلامية كباقي التمثيليات؟؟؟؟
لكن المستهجن في أمر هذه الظاهرة، أنها بنيت على تعاليم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة من القرن التاسع عشر والذي أطلق عليها تعبير، أخلاق القطيع.. وسماها الرغبة بالعظمة التي تعتمد فكر الوهم الاستعلائي في تحريك من يظنون أنهم يتمتعون بالتميز البشري عن بقية أبناء شعبهم. وأنها – للأسف - مع اقتراب موعد كل انتخابات وانطلاق حملاتها، يتحول الكثيرون إلى نيتشيين في عقليتهم وتصرفاتهم.. وخاصة منهم الصحفيين الذين فقد مداد أقلامهم رسالة الصدق، وأصابتهم آفة تشوه الفكر والقيم بسبب إغراء المال، فيعيشون النيتشية ويتصرفون حسب مفاهيمها الآغية للثوابت والقيم، دون أن يفهموها ودون أن يعرفوها، ليحولوا رسالة الصحافة من رسالة نبيلة قائمة ذاتيا لأجل الآخرين، إلى وسيلة تلبي حاجات السلطة السياسية المقرة بفكرة الإنسان الأعلى (السوبرمان) الذي تخلقه حيث يسيطر الأفراد " الأقوياء " القادرين على خلع حواجز الأخلاق، لتتحول علاقتهم بغيرهم الى علاقة مداهنة وتطبيل يصرف النظر عن كل العيوب والأخطاء والعمل على إيجاد المسوغات لها، من خلال التسويق للمواقف الهزيلة التي ليس لها رصيد على ارض الصدق و كانها مواقف وطنية حقيقية.