وسط عالم مفرط التنافسية
لا شك ان التنافسية شيء ممتدح عند كل حصيف، ألا ترى معي انه منهج يُستثمر من أجل الوصول الى المرام في أوجز أوان و أقصر إبان، أليس هذا ما يدفع كل أريب إلى التفكير جديا في تطوير رأس المال البشري الكامن في أطفال مستقبليين ناتجين عن زيجاتنا، مما يجعلنا لا نتوقف عن التفكير في مناهج الاستغلال الناجعة للوصول الى أعلى المقاصد التي يمكن أن نرومها و أضمن بُغية يمكن ان نصلها في اقصر الاوقات و أوجزها؟
ترى الدكتورة مندي بروان المنظرة السياسية بجامعة " يو، سي، بيركلي" في احدى الوثائقيات على معنون ب"خذ حبتك: الذكاء حسب الوصفة الطبية" المبثوث على احدى القنوات الامريكية "نتفليكس"، اننا نعيش وسط عالم هيبر-تنافسي أو قل (مفرط التنافسية)، حيث لا يكمن المشكل في نظرها في قلة عدد المناصب المتبارى عليها وسط المدارس الابتدائية الجيدة، و لا في شح المدارس العليا فيما يخص الاماكن الشاغرة، و لا هو ايضا في ندرة مناصب الشغل، بل ان المعضلة الكبرى التي تَسِم المجتعات مفرطة التنافسية هو ان التسابق لا يكون من اجل الوصول فقط، بل ان التباري و المنافسة يكادان لا ينتهيان البتة.
ان انشغال الوالدين في عصرنا هذا وسط خضم مختلِف الاشغال اليومية وقلب ضوضاء الضغوطات اليومية، ينبغي ان لا ينسيهما الاهتمام برأس المال البشري الكامن في اطفالهما، لذلك تجد الواعين من الآباء يحاولون دوما توريث ذلك الوعي لابنائهم من اجل تنمية قدراتهم و مهاراتهم حتى يكونوا مؤهلين للتنافسية المفرطة التي تطبع المجتمعات التي يعيشون فيها.
لا يخفى على أحد ما للتركيز من دور كبير في تطوير المهارات و تنمية القدرات، لذلك تجد الآباء و الأبناء على حد سواء مهتمين بتطوير التركيز تنمية كيفية الاهتمام بالاشياء و الوسائل الموصلة الى الاهداف، هاته الضغوطات التي تطبع عالم هيبر-تنافسي كهذا الذي نعيش فيه كان يؤدي في بعض الاوقات في نظر دكتور الاعصاب أنجان شاترجي بجامعة بنسيلفينيا الى أخذ حبوب و اقراص مخدرة للهروب من الواقع، و اصبح اليوم يفضي الى تناول اقراص و أدوية تدفع للتركيز في الواقع حتى الوصول الى مرحلة يصبح فيها الدواء في حد ذاته الى دواء.
نعيش اليوم اكثر من اي وقت مضى في عالم يحتاج الى المزيد من التركيز و زيادة في الانتباه، و حسب نفس الاختصاصي في علم الاعصاب بجامعة بنسلفينيا فإن الضبابية التي تكتنف مسؤولياتنا اليومية بسبب كثرة الواجبات المطلوبة منا و عدم وضوح الحدود التي تفرق بينها، كلها عوامل في نظره مؤدية الى تشتيت اذهاننها، حيث انه في مجتمع كالمجتمع الامريكي مثلا حيث يرتفع معدل هاته المسؤوليات و الواجبات اليومية لدى كل فرد فانه اكثر المجتمعات ذات المعدل المرتفع في اصابة افرادها بمتلازمة نقص الانتباه.
إن أول مقال تكلم عن تناول اقراص من اجل زيادة التركيز الدراسي نشر بمجلة "التايم" الامريكية سنة 1937، لذلك فهو حسب الصحفي الامريكي ألان شوارتز مؤلف "إي دي إتش دي نيشن" أو "مجتمع ادوية نقص الانتباه" ليس بأمر جديد، فالرغبة في الاداء الافضل هي رغبة كونية و يحب الناس جميعا التفوق و النجاح، كما لا يحبون ان يخذلوا ذويهم، لذلك تختلف طرق الاجيال البشرية في تحفيز أدائها، و هو ما ولد مثل هاته النوعية من المخدرات المقوية للتركيز و التي كان أول ما أطلق عليها هو اسم "حبوب التحفيز" لان التحفيز هو اكثر أمر يحبه الناس وسط مجتمع اكثر ما يميز اهتمام افراده هو "انجاز المهمة" و "اتمام الصفقة".
الغريب في الامر ان من يتعاطى اليوم لحبوب التحفيز هاته في العالم المتقدم هم البارعون في ميدانهم كالرياضيون و مهندسي البرمجيات والمحاسبين و غيرهم، السبب في ذلك هو طول ساعات العمل او مدة التدريب من اجل الرفع من المردودية و الشعور بالمزيد من اليقظة و الانتباه و التخلص من التعب و رؤية سديدة للاشياء التي تمر امامهم وقت الاجهاد، بل و قد تنسيهم في آلامهم ساعة القيام بالواجبات المطلوبة، كلها عوامل تدفع هؤلاء الى أخذ مثل هاته الاقراص.
تقنن الاولمبيات الرياضية استعمال هذا النوع من المنشطات فلا ينبغي استعمالها لمجرد التحفيز و انما ينبغي ان يقدر الطبيب الاحتياج الفعلي للمريض لهذا النوع من الادوية، لكن يبقى التساؤل كبيرا عن الأثر المتوخى من هذا النوع من الاقراص المخدرة من اجل اغراض استشفائية ان استخدمت فقط كمنشطات ألا يكون لها آثار جانبية؟ و الحالة هاته هل نستطيع تحفيز أنفسنا بشيء مواز من تراثنا الروحي يغنينا عنها و يقوي ملكة التركيز لدينا؟
يرى د لورانس ديللر المتخصص في طب الاطفال أن المتخصصين الذين ابتدعوا هاته المنشطات ككيث كونرز لديهم ندم كبير اليوم و شكوك كبرى حول نتائج ما صنعته ايديهم حيث انهم أضفوا الطابع الدوائي على حياة يومية مما جعل افراد المجتمع برمته رهينة في ايدي الاطباء من جهة و تحت رحمة شركات الادوية من جهة اخرى.
ان التركيز في نظرنا ما هو في حقيقته الا تمرين يومي و عملية روحية اكثر منها كيميائية، من اختصاص التراث الثقافي الديني، المتمحور في مفهوم التوجه و التيمم نحو قبلة مقدسة، ينمو ذلك التوجه و تتطور دائرته في حياة الشخص كلما واظب على التفكر في دعائه و ترتيله مرات في اليوم يقطع بها رتابة انشغالاته اليومية الى ان يحقق توجها قلبيا عقليا لا ينقطع و حضورا يزاوج فيه في نفس الآن بين الواقع اليومي و المقدس لانهما وجهان لعملة واحدة، فالتعامل في طبقة الواقع هو في نفس الآن مطية للدخول الى الجانب المقدس غير المرئي بالعين المجردة والمحسوس بعين البصيرة.
لا شك ان البصر مطية الى البصيرة إن استخدم كآلية موجهة لحس التفكر و التدبر و التركيز كما أن سائر الحواس انما هي مداخل الى العالم الباطن فيك أيها الانسان، لتكتشف عالم المعنى بحواس موازية لهاته الحسية، فان كانت طريق الحس موصلة الى محطات فكذلك طريق الروح تعبر مقامات، و ان كانت سبل المادة تحتاج فترات راحة و ترويح عن النفس فكذلك سبيل المعنى تبتهج الروح فيه بسماع المعاني الذوقية فتبتهج و تقتات فتتحفز للمضي قدما، و ان كان التعلم المادي يحتاج الى معلم و سبورة و انتباه فكذلك عَلَّم المُعلم الخِضر موسى ان سبورة الاكون تحتاج الى انتباه للمعاني و صبر لسبر أغوار الحكم و الاسرار.