الاثنين ٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم حميد طولست

المقاهــــــــــــي

المقاهي أماكن مفتوحة تسكن معظم المدن المغربية، ومساحات تلبس وتعشش بالمدن التي غزت بدون تدرج، بعضها بشيشة وبعضها الآخر من دون.. بعضها ذكوري خالص وأخرى أعلنت الاختلاط في خجل، وغيرهما تحولت بفعل تقاليد وعادات مجلوبة إلىعوالم النظرة فالابتسامة وربما رقم الهاتفال والموعد والقاء!!!.

ليس هناك مدينة مغربية من دون مقهى بل مقاهي، تشرع أبوابها منذ ساعات الصباح الأولى للباحثين عن كوب من القهوة أو قطعة خبز أو "كرواسون"ساخن وربما أشياء أخرى.. يرتادها الفارون من جحيم الفراغ وروتينه، وكل العاطلين الهاربين من حسرة ومرارة نظرات الآباء والأمهات، وأولئك الذين ضاقت بهم الطرقات أو أولئك الذين حلت بهم لعنات الزوجات. جيران ومعارف وغرباء. أشخاص عديدون نصادفهم في المقاهي لا يجدون سوى كأس "قهوة معصرة"أو "الكابتشينو"وسيلة للتلاقي والتواصل..وقد اضطجعوا على كراسي نخرها الكساد وطول القعاد حتى غدت ترتعش تحت أُست المنظرين والخطباء. يتصدر الرجال المواقع الأجمل والأبرز قريباً من النوافذ والفضاء المشرق، بينما تخصص مناطق معزولة خلف ‘’البارافانات’’ للنساء أو العائلات. الكل يناقش، الكل يجادل، الكل يندد، والكل يشجب. نقاشات تنافس المشروبات سخونة.. وحوارات تغذي الأنفس والقلوب والأرواح المتعبة، وجدالا يزيد من ضيق المجال..

قد نتحدث إلى بعظهم دون سابق معرفة، فنتفق مع البعض منهم ويتفقون معنا، ويختلف آخرون ونختلف معهم، لكن الذي يميز هؤلاء أن هناك بينهم من يمتلك فكرا كبيرا يستطيع من خلاله أن يقنعك بما يريد، وأن هناك من لا عقلية له ويحتاج إلى مترجم فوري كلما أراد أن يتحدث عن موضوع ما! ومع ذلك تراه يلاجج ويحاجج في عراك شديد، وهو لا ينطق إلا بتافه الكلام وأكذبه، يبرره ويعززه بالخرافات الخيالية السخيفة، محاولا بها جذب الانتباه، للرفع من قدره أو للتنقيص من قدر غيره مستخدما مختلف الأساليب اللعينة من سخرية واستهزاء وتحريض وتعريض، مما يرفع قوة اللغو، ويعلي منسوب اللغط، ويؤجج مجال النقاش، ويصعد حدة الملاسنة، فتتحول الجلسات إلى
ما يشبه المؤتمرات العربية بكل أنواعها، الثقافية والسياسية والاقتصادية، حيث يتزاحم المتحدثون والمنظرون حول ما يثار من مواضيع تطرح للنقاش والمحاورة، فلا يستطيع أحدهم التفوه ببنت شفى حتى ينبري له غيره من المؤتمرين ويجهز عليه بالكلام الإنشائي المعلوك المكرور..

عادة ما أن تتنوع أحاديث المقاهي بتنوع اهتامامات المشاركين، وتختلف مواضيعها وتتشعب باختلاف مقاصد المتدخلين ونواياهم، وتتميز بتميز مؤهلاتهم الفكرية والسياسية وقدراتهم الحوارية، فيفتح من يهمه أمر السياسة كل ملفاتها الشائكة، ويُشرِح انعكاساتها الداخلية والخارجية، فيندد هذا باحتلال فلسطين وغزو العراق، ويشجب ذاك حرب لبنان، ويساند ثالث إيران في سعيها لامتلاك ما تريد من سلاح، ولا يلبث أن يتميز آخرون غضبا عندما تثار قضية رضاعة الكبير ونسبتها إلى النبي الصادق الأمين محمد صلى لله عليه وسلم. وهناك من الرواد من لا تهمه السياسة داخلية كانت أو خارجية، ويعتبرونها رجسا من عمل السياسيين فيجتنبوها لعلهم يفلحون في الحصول على ملايين اللوطو أو "التييرسي "التي يتأبط المولعون بها قوائمها الكثيرة، ويتفرغون كليا لعوالم "اليانصيب"الذي يحسبونه خال من السياسة، فيساند بعضهم هذا الفريق ويعلون من شأن القائمين عليه، ويجاهر غيرهم بكراهيتهم لغيره من الفرق ويطلقون للسانهم عنان السلاطة والبذاءة، ويكيلون لمالك الحصان الفلاني وفارسه ومدربه وحتى للعلف الذي يأكله من اللوم والشتائم ما يندى له الجبين، لأنه تخلف عن الفوز حينها راهنوا عليه مرة فخذلهم..

و ليست هذه هي العينات الوحيدة التي يحلوا لها أن تدفن نفسها في دخان المقاهي التي يجتهد قديمها للمحافظة على ما تبقى من شهرته السابقة كما عزيز قوم بعدما ذل!!! بل هناك رواد من نوعية خاصة، يجلسون وعيونهم كما الرادار ترصد كل ما تقع عليها بينما آذانهم تلقط كل ما تستطيع سمعه لتكتمل عندهم الأخبار وتتيسر حبكات القصص.

ينظرون إلى تلك التي ارتدت فانيلة وبنطلون رياضي وتركت شعرها من دون غطاء، وينظرون إلى تلك التي خرجت وهي مغطاة من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، وينظرون إلى ذلك الرجل الأنيق الذي ارتدى ثيابا راقية، ويحملقون في ذاك الذي لسبب أو لآخر لم يرتد ملابس مناسبة من وجهة نظرهم.ينظرون إلى كل شيء، ويعلقون على كل شيء، ثم بكل بساطة تسمعهم ينتقدون مثل هذا السلوك لدى الآخرين.

المقاهي تجتذب الذين يعشقون كل جديد، والذين يستهويهم إغراق فكرهم في لجاج ثرثرتها لتمضية الوقت والتمتع بالأحاديث البريئة المطروحة بدون أهداف ولا مرامي، وما يدور فيها من نكت بجميع أشكالها الساذجة والذكية، وحتى الخبيثة، السياسة والاجتماعية، بعيدا عن مجالات أصحاب الفضول والباطل والتحريض بالغير، وإفشاء الأسرار وفضح العيوب، وتعرية النقائص بالنميمة والغيبة، سواء كان بالتقليد في الفعل أو القول أو الإشارة، على وجه الهزل والضحك. هذه هي أجواء المقاهي التي تعودنا ارتيادها وابتلينا بالإدمان عليها، والتي تبقى هي عناوين مدننا التي لا تحترف تقديم الثقافة والفن والفكر، وتتنفس بحدائقها وملتقياتها المتشحة بالحرية والمتعة..

والله يعفو ويتوب آمين يا رب العالمين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى