السبت ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠٢٥
بقلم نجاة بقاش

لعبة الثنائيات..

إنه لمن الغرابة أن يصبح في لحظة لاشيء شيئا.. والشيء لا شيئا.. ومن الأغرب أن يصبح العدم وجودا.. والوجود عدما.. بعد أن كان المرء يملأ الدنيا طاقة وصخبا.. بدونه يصبح الوجود فراغا وعدما.. إحساسا بفوضى فكرية وروحية.. حد الضياع.. مدفوعا بغريزة البقاء.. خوفا من الفناء.. صراخ وعويل.. لوعة وفراق أليم.. شرخ وتمزق عميق.. ذهول وبكاء شديد.. يلي فقدان القريب.. إنها نهاية البداية.. وبداية النهاية.. يا لهول الفاجعة.. مأساة مفاجئة.. طقوس ومراسيم.. حداد وطوابير.. بخور وجلاليب.. تشعر بالموقف الحزين.. توثق الحدث المريب.. آيات بينات من الذكر الحكيم.. علها تطفئ نار رحيل الحبيب.. إنشاد وولائم تقدم في العشاء الأخير.. وجوه حزينة تعبر عن المصاب العظيم.. ما عسى الصبر أن يقول.. أمام دمع طالما أخفاه عن الجميع.. حيث لا عبارات العزاء تنفع.. ولا الدمع على الخد يشفع.. الموت يأتي ليذكرنا أنه.. مهما طال العمر فهو قصير.. في قاعة الانتظار مصطفون نحن في انتظام.. هناك من شدة الهول يحس بأن الزمن من حوله توقف.. يصرخ ويهذي يقول ما لا يصدق.. هناك من يبكي على الميت حرقة.. وهو يدري أن الندب في ذي الحالات لا ينفع.. هناك من يقاسي ويواسي.. مدفوعا بواجبه الإنساني.. متأثرا متضامنا.. مؤمنا بحتمية المصير.. وهناك من.. من شدة الكبرياء.. يبكي في صمت وحده.. يخفي ملامح جرحه.. وهناك من شدة الإفراط في نعيه.. يصادر حق أهل الميت في حزنه..
تلك أحاسيس وانفعالات تتصل بالموت.. تتسم بالحزن.. طقس من طقوس العبور.. إنه فن العزاء.. مظهر من مظاهر الذكاء.. يحل المرء من خلاله جل مشاكله.. يبحث عن معنى لوجوده.. عن توازن في ظل العبث.. وهناك من شدة الوقع عليه.. يعوده الضحك الهستيري.. وهناك من يحرص على استغلال المصيبة والاستثمار في آلام الغير من أجل تنمية رصيده البنكي أو الاعتباري.. هناك من يبكي في صمت يتذكر.. وهناك من يفكر في المصاريف فيتألم.. وهناك من شدة "الفرح" في التركة يتأمل.. لتصفية الحسابات يترصد.. إنها فرصة ثمينة لمن تهمه الصفقات.. أو حتى توقيع عقد القران.. بالمصاب الجلل غير مبال.. هناك من يدعي الحزن الشديد.. لإثبات صدق زائف بغيض.. هناك من يعوده حنين لن يتحقق.. هناك من كثرة انشغالاته قلق على وقت ضائع لن يتجدد.. هناك من يبدو من شدة اهتمامه بالمظاهر.. أنه فلتة من فلتات الزمان لن تتكرر.. شيء لا يصدق.. في عز العزاء، كل على طريقته يحاول أن يظهر ويتظاهر.. أن يعبر عن أسفه.. ألمه.. حزنه.. وهو يحاول طرد السيناريو المحقق لموته.. يحاول أن يخرج الأمل من فم الألم.. يتناسى وينسى.. وهو يعلم أن الموت في أحشائه.. تحاصره.. تلاحقه.. تحدث ثورة.. بداخله.. إننا نموت في كل لحظة.. في سرية تامة.. دون أن ندري.. دون أن نعطي للأمر أية أهمية.. بدون دموع تذرف أو احتفال يعلن.. بدون ندب ولا صخب يذكر.. في هدوء وصمت.. نموت كل يوم.. دون أن ندري أو نحس بأن شيئا ما من حولنا.. فينا.. قد تغير.. وأن شيئا ما.. مات فينا.. ذهب عنا وارتحل.. أجسامنا ملامحنا تتغير.. أفكارنا أحوالنا تتغير.. مشاعرنا هويتنا تتغير.. باستمرار نحن نتغير.. نكاد لا نشبه أنفسنا في شيء.. ما كان بعيدا قد لا يعود كذلك.. ما كان قريبا قد لا يعود كذلك.. هناك من يموت مرة.. مرتين.. عشرات المرات في اليوم.. هناك من نظنه حيا حاضرا بيننا وهو ليس كذلك.. الأشياء الجميلة قد لا تعود كذلك.. كم من أخ (أخت) أقسمنا بوفائه (ها) لم يكن كذلك.. كم من صديق فاتن لم يعد كذلك.. كم من حبيب أقسمنا ألا نحب غيره لم نوف بذلك..

قد يكون للموت سيناريوهات عديدة.. وفي العزاء أناس كثيرون.. إلا أن الفقيد محكوم عليه أن يبقى وحيدا.. الموت أشكال وألوان كثيرة.. موت الآلهة والإنسان.. موت الزمان والمكان.. موت القيم والأخلاق.. أقصى ما في الأمر.. يسيرون في الجنازة.. كل واحد يبكي ألما على الميت.. بلا.. بل يبكي حرقة على حاله.. يتصافحون.. يتأسفون.. يتمنون لبعضهم نهاية الأحزان.. وهم مدركون حق الإدراك أنهم في صف طويل.. والموت يتربصهم في كل حين.. في صمت رهيب.. الكل يحاول أن ينسى.. ولا أحد ينسى.. يحاول أن يخفف عليه ما نزل.. ولا يقوى.. الكل يحمل بداخله ازدواجية الموت والحياة.. ثنائية الذكرى والنسيان.. كلنا موتى.. كلنا أحياء.. كل واحد منا يحمل جثته على كتفيه.. ثم يمضي.. يسري.. يمشي.. يجري.. يحكي.. يشكي.. يبكي.. قبل أن يدبوا به نحو القبر.. لما الألم إذن ونحن ندري.. أننا نولد كي نقضي؟.. كم شيدنا وكم بنينا.. كي نبقى في الذاكرة طويلا.. رغم ذلك لا نبقى.. نلتقط صورا.. نعلقها على الجدران فخرا.. نشهد الأرض على أننا كنا أبطالا.. ونأمل أن نبقى بين الأهل أحياء.. نجعل من الدنيا حلبة للتباري.. لكسب الراحة والرهان.. نجعلها مسرحا للتلاقي.. ملحمة لعرض المنجزات.. نركض وراء الأخيار والأحلام.. وراء الرياح والأوهام.. نتصدى للشر والويلات.. خوفا من الفناء.. هربا من الإهمال.. من النسيان.. نملأ الدنيا صراخا كالمجانين.. احتجاجا على الظالمين.. نملأ المساجد نهارا نصلي لرب العالمين.. نملأ الصالات فاحشة قربانا للشياطين.. إنها متلازمة الثنائيات.. تسكن ذلك الإنسان الغريب..

في رحلة البحث عن الكمال والخلود.. نصرف على "الإتيكيت" و"الماركات".. آلاف الدولارات.. نشن غارات.. نطلق غازات.. نستعرض العضلات.. كي يموت الآخر ونبقى نحن.. ولا نبقى.. حتى ولو طالت السنين.. وكسبنا الكثير أو القليل.. بالصخب أو بالضجيج.. سوف يرحل الجميع.. سعداء كنا أم أشقياء.. أغنياء أم فقراء.. أذكياء أم أغبياء.. بك آمنا أم لم نؤمن.. بنا آمنت أم لم تؤمن.. سكنا قصورا مثلك أو لم نسكن.. حتما سنموت..

من العبث أن تبدأ حياتنا في لحظة ثم تنتهي في لحظة.. من العبث أن نولد بدون استئذان ثم نموت بدون استئذان.. من التفاهة أن نحتفل حينما نولد.. ونحزن حينما نموت.. من العبث أن نولد.. ألا نولد.. من العبث أن نموت.. ألا نموت.. من التفاهة أن نولد كي نموت.. ونموت كي نولد.. من العبث أن نبني ونشيد.. أن نقاسي ونتألم.. أن نكذب ونتجمل.. أن نتصارع ونصارع.. ونترك كل شيء خلفنا ونغادر.. من العبث أن نتقاتل ونقاتل.. من كان في الدنيا عابرا.. من أجل شيء غير ثابت.. لكل واحد مسلكه الخاص في مواجهة الموت.. كي يبقى خالدا.. كي لا يموت.. هكذا وجد أبيقور الإغريقي- راحة نفسية لقلقه الوجودي الدائم، بحيث قال "إن الموت لا يعنيني البتة، فهو إن وجد، لن أكون موجوداً، وإن وجدت أنا لن يكون موجوداً".. ويقول باسكال "إن كل ما أعلمه هو أنه قد قضي علي بالموت، ولكن ما أجهله إنما هو هذا الموت باعتباره شيئاً لا سبيل لي إلى الخلاص منه".. كل واحد منهم كان يبحث لنفسه عن مخرج لأزمته مع الموت.. فبرغم وضوح حتمية الموت وغموض ماهية الحياة.. إلا أن برناردشو المجنون كان يعتقد أنه لن يموت وباستطاعته إلغاء موته بإرادته.. بينما ديكارت كان يؤمن بقدرة الإنسان على دفع الحياة وتأجيل الموت.. وفي السياق نفسه، يقول الكاتب مصطفى محمود في كتابه "لغز الموت".. أن ليس هناك أغرب من الموت.. لما يحدثه الفناء من فراغ وجودي وفراغ في المعنى.. وليس هناك أغرب من الحياة.. باعتبارها شكل من أشكال الوجود الذي في ظله تنمو الكائنات وتتقدم.. تتفاعل وتتطور.. تنطلق وتتحرك.. تتحول وتتغير.. تحدث ضوضاء وطاقة.. ثم تنتهي الدورة بالسكون وبموت محقق.. وإن أجمل ما في الحياة هو التفكير العقلاني والتحليل المنطقي.. والانخراط في دورة المعرفة (أفلاطون).. هو تلك المشاعر والأحاسيس التي تميزه عن باقي الكائنات (دافيد هيوم).. بل أجمل ما في الوجود هو الإبداع في كل تجلياته وأبعاده.. الذي يسمو به ويقربه من خالقه.. هو فعل الخير ومحبة الغير.. هو معانقة التغيير المستمر (أرسطو).. إن المعنى الحقيقي للحياة يكمن في قدرة الفرد على التخطيط والتنظيم وراحة البال.. (روني ديكارت).. الذي لا يتحقق إلا بالعدالة والمساواة والاعتراف بحقوق البشر (جون لوك).. ولكي تتحقق سعادة الإنسان، عليه أن يلتزم بالأخلاق.. لا شيء إلا الأخلاق (إمانويل كانت).. تتنوع النظريات.. وتتباين الخلفيات.. إلا أن الموت يظل موضوع كل المرجعيات.. وسؤال الوجود مازال محيرا والجواب مفقودا.. إذ يرى نيتشه أن للفنون قوة خاصة إذ بإمكانها جعل الحياة جميلة رغم قبحها.. ولا يمكن أن يتحقق معنى الحياة الحقيقي إلا إذا كانت جيدة وجميلة.. والحياة الجيدة هي التي يملؤها الحب تجاه الآخرين.. والمعرفة بخصوص كل شيء (بيرتراند راسل).. بينما جون بول سارتر يرى أن الحياة لا معنى لها ولا غاية منها إطلاقا.. ما الوجود البشري إلا صدفة وهذا الوجود يتمثل فيما يملكه الإنسان من حرية الإرادة والفعل.. وهناك من يرى أن الاهتمام بموضوع الحياة شكل من أشكال الكوميديا أو ضرب من الجنون (تيري إيجلتون).. وحياة الإنسان عند شوبنهاور فوضى بلا معنى.. إنها مسيرة قصيرة محددة ومحدودة في الزمان والمكان، أي تفكير في أصل الوجود يعتبر خطأ في الأصل.. ولكي تكون الحياة ذات معنى ودلالة علينا أن نتمرد على كل شيء يعيق الإبداع والتفكير (المطلق).. أو فعل ما هو جميل وأنيق.. وأن نتحرر من أي قيد قد يفصلنا عن حرية التعبير.. وأن نتجاوز النقل الثقيل..

إن أكثر ما يخيفنا في هذه الحياة هو يقيننا بالموت والرحيل.. وأن أكثر ما يرعبنا في ذلك هو فك الارتباط بالماضي والحاضر والآتي.. وانتقالنا من اليقين نحو اللايقين.. أي انتقالنا من المألوف المريح نحو المجهول المخيف.. بعد ما كنا نملك السلطة على أجسامنا وواقعنا.. نترك كل شيء خلفنا ونذهب نحو العدم.. نحو المجهول.. للسيطرة نحن فاقدون.. عن الحياة نحن عاجزون.. إنه رحيل بلا عودة.. وانفصال بلا رجعة.. ما فكرة الخلود التي تلازمنا إلا بلسما يمنحنا شعورا بالطمأنينة.. وامتدادا لدورة الحياة.. هناك من حاول تجاهل الموت معلنا تمرده حد الكفر.. وهناك من غازله حد الإبداع.. كما فعل مارتن هايدغر الفيلسوف الوجودي الذي أعطى عنه صورة موسيقية.. بحيث عزف الموت ورقص معه.. مبدعا في رسم الموت وجعله عاريا وجوديا..

صحيح أن الحياة خدعة وجودية.. والموت حقيقة وجودية.. كلاهما مغامرة عبثية لا جدوى منها.. من العبث أن تملأ الدنيا نبضا وحياة.. أن تحب أناسا وتبني أبراجا.. ثم تترك كل شيء خلفك لتبقى وحيدا.. من العبث أن تولد لكي تعاني كثيرا.. ونرحل عن الديار رحيلا أبديا.. بدون إرادتنا.. بعد أن أصبحنا ندرك بعض أسرار الحياة.. وغصنا في عمق المسافات والحريات.. وازداد نضجنا في الحياة وتشبثنا بالبقاء.. نرغم على المغادرة والابتعاد.. نحو نقطة الصفر والفناء.. أليس من العبث أن نصبح للسكون أسرى.. ونصبح للأهل مجرد ذكرى.. بعد أن كنا حقيقة تروى.. تحت التراب، عن الأنظار نتوارى.. بعد أن كانوا وكنا.. أحياء صامدين.. نملك كيانا وقصورا.. نصبح رسميا للأهلية فاقدين.. من كل شيء مجردين.. عن الإجابة عاجزين.. هل تستحق الحياة أن نكون لها عاشقون؟.. أليس من العبث أن نعيشها مضطرين ونتركها مرغمين؟.. أليس من الأجدر أن نتمرد عليها ونحن منها ساخرون؟.. نسير قدما بالفقد غير مبالين؟.. عن المآل غير متسائلين.. بالمال غير مكترثين؟.. بفعل الخير ملتزمين.. بالجمال متمسكين؟.. أليس من الأجدر أن نعيش ونحن مدركون؟.. أن نجعل وجودنا (تواجدنا) نورا به يهتدى.. ونرقص على نغمات اللامبالاة حتى ننسى.. أو بالأحرى حتى لا ننسى؟.. إنها لعبة الثنائيات..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى