الثلاثاء ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم زاهية بنت البحر

آسف يا سيدتي

بعد كثير ممانعة وطويلِ صمود، وجدت نفسها تهوي في قبضة الانصياع لأوامر الأطباء في ضرورة دخول جهاز الرنين المغناطيسي لتحديد الفقرات المصابة في العمود الفقري منطقة العجز القطني.

رضخت للأمر الواقع بعد تزايد الألم في ظهرها واتساع رقعته حتى الركبتين. أصابها الوهن النفسي وارتفعت حدة خوفها فاخترقت السحاب أوهاما..

رأت نفسها محشورة في ذاك الجهاز الضيق وهي مكتوفة اليدين لا حول لها ولا قوة، فجسمها تبارك الرحمن في بحبوحة من الوزن كلما اجتهدت في إنقاص البحبوحة المقلقة ربت واهتزت وأينعت عدة كيلو غرامات تضاف إلى ممتلكاتها التسعين كيلو شحما ولحما المتراكمة فوق هيكلها العظمي مما يترك الفرصة متاحة لغزو الآلام الظهرية والركبية لسيدة تجاوزت الخمسين ربيعا ونيف.

بداية تمنَّعت بدلال ورجت زوجها وأولادها بإعفائها من دخول هذا التابوت الطبي الكئيب وهي على قيد الحياة، فقد سبق لها أن رأت أختها تدخل أخاه جهاز التصوير المحوري الطبقي الذي كان أكثر اتساعا وحداثة من الخاص بالرنين المغناطيسي، ورغم ذلك فقد رأت بأم عينها كيف كانت أختها ترتجف وهي تمدد داخله بخوف رهيب جعل قلبها يخفق بشدة راجية المولى ألا تتعرض يوما لدخول هذه الآلة المخيفة، رغم أنها كانت تظهر القوة لإقناعها بالصبر ريثما يتم تصوير القلب والشرايين التي تشكو منها أختها الكبرى المعروفة بالخوف حدَّ الجبن.

لم يشفع لها الدلال ولا الرجاء ولا حتى الصراخ” الضرورة تستوجب المخاطرة لوقف الخطورة” هكذا قالوا لها فعليها بالصمت وتلبية الأمر مهما كانت شدة الخوف ثائرة في نفسها وهائجة.

اتكأت على زند الأمل بمساعدة الله لها في تحمل ما هي مقبلة عليه من هم وغم بدخول هذا الجهاز الذي ما أن رأته أمامها حقيقة مجسمة حتى استنفرت جميع مشاعرها وأحاسيسها بثورة عارمة، وارتعدت فرائصها المنكوبة بأوجاع الركبتين بشدة لم تألفها من قبل كمن داهمه المطر في يوم برد قارص وهو بثياب رقيقة.

بعد تشجيع من الطبيب المشرف على الجهاز وتهوين الأمر من الممرضة المساعدة له، وتوبيخ صامت بنظرات زوجها، استسلمت للأمر بضعف من لا قوة له ولا حيلة ودخلت الجهاز من بابه الذي ابتلعها لقمة هنية تلوكها المخاوف وارتعاشات جسدها المنكمش على هيكلها بانكسار المنهزم.

بسملت وهي تمد طولها فوق باطن الجهاز.. وحوقلت وهي تحس به خانقا يكاد سقفه يلتصق برأسها المنشغلة بأفكار ومخاوف مخلة بأمن النفس واستقرارها. هاجمتها الهواجس من كلِّ حدبٍ وصوبٍ.. تصورت أمها وأبيها في القبر.. سألت نفسها :

 أيختلف ما أنا فيه عما هما فيه سوى أنني مازلت حية أرزق؟

سمعت صوت الطبيب يطلب منها الهدوء لأن الجهاز سيبدأ العمل، وسيستمر بقاؤها داخله ثلاثين دقيقة وربما أكثر.. ازدادت ارتعاشا وهي تخرج بصعوبة من فكرة القبر التي تضم والديها.. أومت للطبيب بالموافقة..

دار محرك الجهاز وبدأ العمل.. سمعت صوت محركه عاليا.. كادت تبكي ودقات قلبها تخفق بشدة لم تعد تستطيع السيطرة عليها وأمْرَها بالتخفيف من حدة تسرعها.. عاودتها صورة القبر حاولت النهوض فاصطدم رأسها بالجهاز.. ظنت للوهلة الأولى أن الذي اصطدم برأسها هو بلاطة القبر التي توضع فوق رأس الميت في القبر.. ضاق تنفسها.. حركت يديها بشدة في محاولة للخروج من الجهاز.. لم تستطع، فصرخت بصوت عال تطلب النجدة لإخراجها منه.. كاد الطبيب يصاب بجلطة فأمر بسحبها للخارج قبل أن تقضي نحبها داخله..

وعندما وجدت نفسها حرة من سجنها الانفرادي البغيض راحت تبكي فرحا امتزجت به دموع الحزن عندما أنبها زوجها على فعلتها النكراء التي لا تصدر حتى عن الأطفال. أحست بالخجل ولكن ما ذنبها فالخوف لا يرحم كبيرا أو صغيرا.
مرة أخرى أعيدت إلى الجهاز بعد تلطيف الجو من قبل الطبيب والممرضة، وإحساسها برجاء ظهرها وركبتيها وهما تدعوانها للمساعدة في إنقاذهما من الألم.

تململت كثيرا.. تضايقت جدا، وهي تسجن في هذا الجهاز المتعس ولم تكُ لتتحمل قسوة القيد لولا خجلها أولا ممن حولها وثانيا شفقة على جسدها الذي يرزح تحت نير الآلام.

هذه المرة شرد بها الفكر بعيدا وهي تسمع صوت محرك الجهاز يدور فخيل إليها بأنه صوت ماكنة زورق يقطع البحر باتجاه الجزيرة فالتقطتها فكرة بمليون ليرة.. أجل ستحارب خوفها بتوهم أنها ذاهبة إلى الجزيرة.. ستغمض عينيها وتفكر بمن ستلقاهم هناك من أهلها فقد اشتاقت لهم كثيرا.. لن تخاف من الجهاز فهو الزورق الذي سيوصلها إليهم..

أغمضت عينيها وامتطت بخيالها ظهر البحر على متن الجهاز الذي بدأ يشد بالسرعة وصوته يأتيها تارة قويا وتارة أخرى أخف كصوت محرك الزورق تماما.. بدأت الذكريات تتحرر من محبسها كمارد يخرج من قمقم طال فيه سجنه.. ذكريات كثيرة تبخترت في رأسها لكنها فوجئت بواحدة لم تحسب لها حسابا ولو أنها خطرت ببالها قبل دخول الجهاز ما كانت لتدخله ولو بقيت مدى الحياة تشكو من آلام العمود الفقري والركبة والرأس أيضا.

بداية كان المنظر جميلا وهي وأختها الكبرى تنظفان البركة التي تجمع فيها العائلة ماء المطر في الشتاء.. تقع حفرة البركة تحت أرض صالون البيت.. تمتد على مساحة ستة أمتار طولا وثلاثة أمتار عرضا.. تنظف كل عام قبل هطول الأمطار.. نزلتا إليها بواسطة سلم طويل من فتحة تتسع لشخص متوسط الوزن.
ناولتهما أمها اللوكس لتريا جيدا داخل البركة وهما تنظفانها مما سقط فيها من أشياء مع تدفق المياه إليها أو ما ألقى فيها الصغار من ألعاب وغيرها.

كانتا تتكلمان وتضحكان بصوت عالٍ أثار دهشتهما ترددُ صداه العذب بين جدران البركة إلى أن أحستا بإغلاق فتحة البركة فأسرعتا إلى السلم وقد انقلب اللوكس عندما اصطدمت به رجل أختها فانطفأ النور..
تحول صوت ضحكاتهما إلى صراخ وبكاء ونداء لفتح السدة ولكن لم يسمع صراخهما أحد لانشغال والدتها في حوش المنزل وابتعاد إخوتها الصغار عن البركة..

أحست مجددا بالاختناق وصوت محرك الجهاز يعلو ويهبط فكادت تصرخ أن أخرجوني مما أنا فيه لكنها التزمت الصمت عندما عاودتها الذكريات بفتح سدة البركة بيد أخيها الأصغر الذي أغلقها قبل قليل فالتقطت أنفاسها وصوت محرك الجهاز يعيدها إلى الزورق فأحست بحركة الأمواج التي جعلتها تحس بالنعاس و شيء من الدوار فغطت في نوم عميق.

وعندما أخرجت من الجهاز قال لها الطبيب..

 آسف ياسيدتي لم تنجح الصورة .
 سألته بألم كبير:
 - لماذا يادكتور؟

أجابها وعيناه مطرقتان أرضا:
 زيادة الوزن من جهة، ونومك أثناء التصوير من جهة ثانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى