أربعُ رسائل إلى زَوجي الراحل...
رسالة «1»
.. بعد يومين من غيابكَ، بدا هذا الصباح متعرقا، غارقا بالبرد، يرتجف من الآتي، ولأول مرة سمعت اسمي بشكل مختلف وأنا أناديني: جميلة، جميلة! وسمعته مرتين إلى ثلاث مرات، وهو يرتّج، يتراقص، يتغنّج فوق الكنبة ويتمايل بخفة من بين الطاولات الصغيرة والفجوات الضيقة، عند التلفاز والمزهرية ذات العنق الطويل جنب النافذة، كان يوم يُتمٍ للشارع، حيث لا مدرسة، لا عمل ولا أنت! كنت وحدي وصدري بدا أوسع من الشارع وبفمي كلمات أتمتمها، لقد سمعتني جيدا وأنا أقول بسكر حَنون:
الضوءُ ينبعثُ من كلِ مكانلكنه يتحَطمُ عند نقطةٍ معروفةٍوللبقعة المظلمةأملٌ يتيم..
إلى لقاء.
رسالة «2»
كالعادة تتأرجحُ الشمس والقمر، لتمُّر بذلك أيام وأيام. ترى الشمس تطلع بوهجها الذهبي وتجبرنا على المثول غصبا أمام يوم جديد، ثم يجيء القمر البارد بهدوووء، يُخدرنا ويقنعنا أن اليوم قد ولى! هاهي يا عزيزي أيام عدّة قد ولت إذن مع غيابك، أيام مثل رزم الجرائد التي تكدست منك يوما فوق سطح الخزانة، كانت جرائد لسنوات ميتة، كيف أوثقناها وأدرجناها سويا كمشاتل زهر مخنوقة من عنقها، وألقيناها في الحاوية.. هي هكذا الأيام الفائتة، موت ولا عودة! اليوم رأيتني أمرُّ جانب المرايا التي باتت لا تعرفني، وجهي أزرق متحشرج كمحتضر يعاند الموت، مائي يجف، وصوتي نشيج أنادي اسمي واسمك، فيركع عند حلقي مترهلا واهيا، رأسي يحكني بشدة، أعصاب الأسئلة تنهش عقلي وإدراكي لك (غريبة علي هذه الحالة)!
منذ غيابك لم أخرج (كما عودتني)! ربما حتى ضوء الشمس اختلف وأنا لا أعلم، فقد أبدلت ستائر الدانتيل الأبيض في الصالون والغرف بستائر سوداء قاتمة كلون الحداد، وجعلت اللون الأبيض لي، لا رداء أرتديه ويغطي جسدي إلا هو.. ألم تكن تحب الأبيض؟!
تعبت
..
رسالة «3»
.. أربعة شهور أخرى على رحيلكَ، أحس بالجيران من دبيب خطواتهم أمام بيتنا وهم يصرخون من أنوفهم: لهذا البيت رائحة الموت.
زَوجي العزيز: لم أصدقهم، إلا حينما مررت على قمصانكَ التي بهتت وتبخر لونها، فالخزانة لم تغلق منذ غيابكَ، فناجين قهوتكَ صارت قاعا أخضر، والعناكب تغلق فجوة حذائك المنسي لإحراقي، دفاترك القديمة وحقيبة مهترئة نسيت أن تلقيها في الحاوية، بضع ملابس داخلية، فوضى السرير الذي لا يزال كما تركته، وأعقاب سجائر ميتة، كل ذلك مكانه، كله ولكن بعفنه.. وها أنا أمتشق هواء كثيفا لصدري الضعيف، وأكشف عن قدميّ، كم كنت تحب قدميّ!
وركعتُ على الأرض قبالة لوحة كنت تعشقها لظهر امرأة، ووجدتني أتمتمُ بوضوح:
.. أنا دونكَ أدخل من ثقبِ البابتعلمتُ الصمتجَلدتني الوحدةوفي رحمّي بذرة للغة هائجة.
رسالة «4»
أوجعني غيابكَ كما تَسلطّكَ علي، أعترف! وقد كنت بكامل الوعي والعري لأتقبل ذلك، وكنتُ بكامل الذاكرة المرّة لاستحضارها ببطء، مشهدا تلو آخر.. وها هي سنة كاملة تامّة تمّر عليّ دونكَ، وأعترف أني قد نسيت صوتكَ بالضبط -أعتذر- وملامح وجهك! حتى المسافة التي كانت تتلوى ألما (كذبا) حينما نفترق عن بعضنا، مرت عليها شهور كثيرة حتى أخذت غفوة لا أعلم متى تنتهي....!
زوجي: بغيابكَ الطويل، لم أعتد السُكون، ربما لأن حياتي معك كانت متشحة بالمستعجل! علي التيقظ قبلك، والإسراع لحاجاتك وموائد الغداء والعشاء لأصدقائك ومعارفك والاهتمام بك كأنك معاق! علي أن أنسى شكل صوتي وشكل الحياة التي لا تبدو مناسبة إلا معك؛ افعلي، هاتي، رتبي، نامي- متى آخر مرّة نمت كما أشاء-؟
أكثر ما يمقتني يا زوجي ال ع زي ز؛ سؤالٌ ما ولعله منطقي ولعله يبعث الاشمئزاز لي، فمن كان عليه الرحيل أولا؟! من كان عليه أن يأخذ زمام الركض خارج دائرة العفن؟! لمَ لمْ أكن أنا؟! سنة كاملة جلدتني، حتى أدركت غيابكَ الضروري لي، وأدركت لغتي التي افتقدتها معكَ منذ أحد عشر عاما، صرت أتفوه بعبارات: أنا حرَة، قراري، من حقي، التفاهم، وأنا! وغيرها من العبارات التي لم يعيها لساني معك.. سنة كاملة أزور زوايا البيت يومياً متى أشاء، وأنام حيثما أشاء، آآآآآه، لو تعلم كيف ينام المرء حيثما يشاء؟! ويلبس الألوان التي يشاء؟! تراني أتمطى، أتلوى، أنكمش، أشرع يديّ، أفتح قدميّ وأضمهما، أنام على بطني وعلى ظهري، أنام على الأرض، فوق الكنبة، عند الثلاجة، تحت النافذة، في الحمام! كل مكان، أتخيل السقف سماء والأرض بحرا، أنا أسبح في البيت يا زوجي الراحل! لا حاجة لي بالماء! ووجهي عاد رطبا كما كان قبلك، (وبيتي) تفوح منه رائحة أمي التي دفنت دون أن أراها بسببك، وصدري ممتلىء بالنرجس، العطر الذي تكرهه! لقد حاصرت العفن، حاصرته سنة كاملة، وجعلته يتعفن ويتعفن ويتعفن حتى يموت العفن من بطنه.. الشمس الآن تخترق بيتنا وتحرث أرضه بسرور، وتشرب معي الشاي كل صباح وتدلك قدميّ.
زَوجي العزيز: ابقَ حيثما أنت، دونكَ أنا أحيا، دونكَ لغتي مَعي، وقلبي يافعٌ، قل وداعاً أرجوك!
مودتي،،