الأحد ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم سامي مهنا

أزمة الثقافة والهويّة والأدب عند عرب 48

لا شكّ أنّ بعض الأسماء الأدبيّة والأعلام الثقافية الفلسطينية التي برزت لا تزال تضع بصماتها على الأدب والفكر العربي والعالمي.

والسؤال هو، لماذا توقّّف الاهتمام العربي وغير العربي بما يصدر من شعر وقصّة ورواية ونقد إلخ... في مساحتنا الثماني أربعينيّة خاصةً، بعد الاهتمام الكبير بالجيل الأوّل، باستثناء نماذج قليلة.

ولكي نقدّر مدى بعدنا عن مركز الاهتمام ومحور الضوء، لنسأل أنفسنا بعض الأسئلة، (مستثنين منها ضمنًا النماذج القليلة جدًا التي أسلفت الإشارة إليها، كي لا نقع في سقطة التعميم) :

 هل يؤخذ أيّ عمل أدبيّ فلسطيني محلّي في حسابات النقد والدراسات والأبحاث الجادّة؟
 هل لأدبنا مشاركة فعّالة في البنية الثقافية العربية وبالتالي العالمية؟
 هل هنالك حضورٌ إعلامي لأدبائنا عربيًا؟
 هل تُباع كتبنا في المكتبات العربية وفي معارض الكتب، وبالتالي هل نصل إلى القارئ
العربي؟
 لماذا لا يُدعى شعراؤنا عامّة للمشاركة في المهرجانات والندوات والعربية الدورية
والسنوية، عربيًا وعالميًا؟
 هل حظي أدباؤنا بترجمات وإصدارات في دور نشر عالمية هامّة، أم أن معظم الترجمات

تأتي عن طريق مبادرات أصحابها ولا تحظى بإهتمام جاّد؟

أعتقد أن الأجوبة واضحة للجميع. والسؤال المشتق من ما ورد سلفًا، ما هي العوامل التي تؤثّر على انحسارنا وانحصارنا داخل حدودنا الجغرافية المغلقة؟

هل هي عوامل سياسية، ايديولوجية، تاريخيّة، إجتماعية، أم أنّها تتعلق بامكاناتنا الإعلامية القليلة، أم غياب حركة ادبية منظّمة، أم أنّ هنالك مشكلة في المستوى العام للأدب المحلّي؟

أظنُّ أنّ معظم أدبنا المحلّي يعاني من كل العوامل المذكورة أعلاه مجتمعةً.

وباستعراض فحصيٍّ لا يدخل في طور العمق تعمُّدًا، أشير إلى العوامل المطروحة، لمحاولة شرح الحالة المستنتَجةِ استهلالاً:

العامل التاريخي والاجتماعي: تعرض الشعب الفلسطيني في عام ال 48 إلى نكبة تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وإحدى المصائب التي حلّت به، فقدانه لمراكز ثقافية تتشكّل من خلال الحياة المدنية، فحيفا ويافا على سبيل المثال كانتا قبل النكبة محطتين عربيتين لا تقلاّن أهميّة عن مدن وعاصم عربية كبيرة، فقد غنّت في حيفا أم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان، وغنّى في يافا محمد عبد الوهاب، ونشأت فيهما المطابع والصحف والمجّلات والمسارح إلخ...

وتحوّل من بقي في أرضه من الشعب الفلسطيني نتيجة النكبة إلى مجتمع قروي، وذلك لرحيل معظم النخب، واغلاق معظم المؤسسات الثقافية، وقطع جذع الثقافة العربية الفلسطينية بفأس المؤسسة الصهيونية، وقوة ذراع مخطّطاتها. وحتّى الآن نرى أن الناصرة وغيرها من المدن العربية، عبارة عن قرى كبيرة، ومعالم المدنية فيها منتقصة إلى حدّ كبير.

وهذا يؤثّر سلبًا على الابداع الذي يحتاج إلى مناخاتِ وحياة المدن التي تشكّل مراكز ثقافية وعلمية تؤثّر في شخصية المبدع، وليس صدفةً أن التطوّر الثقافي والعلمي والأدبي العربي القديم نشأ في الشام وبغداد والقاهرة ومدن الأندلس. وأنّ الرسالة الاسلامية خرجت من مكة والمدينة المنوّرة، وهذه النظرية تنطبق على كلّ مكان وزمان.

إذن ينقص عرب الداخل على المستوى الجماعي وليس الفردي مدن مثل القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وعمّان وغيرهم.

وهنا يدخل أيضًا العامل الاعلامي، فليس عندنا فضائيات ذات إمكانات اقتصادية وتقنية وفنيّة يشاهدها ملايين العرب، ولا صحف بمستوى القدس العربي و الحياة والأهرام والدستور والأخبار والنهار إلخ... وليست لنا حتّى مشاركة فعّالة في هذه الوسائل الاعلامية.

إذن نحن مرّة أخرى خارج الحدث والتاريخ والعربي، ونقف وقفة المشاهد لا المُشارك والمؤّثر.

وهكذا وفي هذه التربة الضحلة والحالة الاستثنائية الصعبة، نشأ مجتمع فقد الكثير من إمكاناته الإبداعية، وفقد ثقته بالنفس على المستوى الفردي والجماعي، فنرى ظاهرة الخوف من الانتماء الوطني والقومي أمام الاسرائيلي عند البعض، ونرى خوف إظهار وكشف جانب المواطنة الاسرائيلية أمام العرب خارج اسرائيل عند البعض الآخر.

ومحاولة البعض ابراز الانتماء الفلسطيني والعروبي الدائم كأنّنا في امتحان أبدي.

وعدم مشاركتنا، أو الأصح إشراكنا في صنع الثقافة والسياسة العربية.

كلّ هذه العوامل، وعوامل كثيرة أخرى لم أذكرها في هذا المقال وأعد أن أتطرّق إليها في مقالات مستقبليّة، تؤّثرُ في إمكانات التطوّر الثقافي الجماعي والفردي عند المجتمع الفلسطيني الثماني أربعيني، ولذلك نرى أن الحركات والمؤسّسات الثقافية ومنها الأدبية تعاني من شلل دائم، وكل تنظيم ثقافي يتفكّك سريعًا ويبقى اسمًا لا غير.

ونرى وللأسف أنّ المستوى الإبداعي العام منخفض مقارنةً بالمستوى العربي والعالمي المعاصر سوى بعض الاستثناءات التي لا ربّما لا تتجاوز عدد أصابع اليدين.

العامل السياسي: لا شكّ أنّ للعامل السياسي تأثيراً، فمجتمعنا العربي في الداخل موجودٌ في حالة استثنائية، جزءٌ من شعب، مبتور عن أمتّه سياسيًا، وحتّى أنّه منفصل عن باقي أبناء شعبه، فليس لعرب ال 48 تمثيل سياسي أو ثقافي في الجامعة العربية على سبيل المثال، وليس لهم علاقة في المفوضات الأسرائيلية الفلسطينية/العربية، كأنّهم ليسوا جزءًا من الشعب الفلسطيني.

هذا الاستبعاد والتهميش يضع مجتمعنا الثماني أريبعيني في ظلّ الأحداث التاريخية، وبالتالي خارج التاريخ نفسه. هذه الحالة تشكّل مناخًا ثقافيًا منقوصًا، وبيئةٌ تدفن الابداع في مهده.

ووجودنا كمواطنين في دولة لا تعترف فينا كأقلّية قومية، وتتعامل معنا كأقلّيات طائفية ودينية ولا تمكّننا من الاستقلال الثقافي وتحارب نزعاتنا الانتمائية وتحاول تقويض هويّتنا الثقافية والوطنية والقومية وتعمل على أسرلتنا ومحو ذاكرتنا التاريخية، تؤثّر سلبًا على بعض معالم الشخصية والهوية الثقافية لأبناء مجتمعنا، وبالتالي على إبداع هذه المجموعة.

العامل الاديولوجي: للعامل الاديولوجي والموقف عند بعض الجهات العربية تأثير سلبي، فمعظم الأنظمة العربية تتعامل معنا بصيغة رسمية كأسرائليين، منهم إرضاءً لإسرائيل ومنهم عدوانية لها، وفي كلا الحالتين نحن الضحيّة الأبدية.

وموقف إسرائيل منّا، كمواطنين تحت الرقابة، والمجهر والشكّ، لا يعطينا إمكانية التفاعل مع الثقافة الاسرائيلية من خلال منطلقاتنا الوطنية والقومية دون أن نُتهّم بالعدوانية ونواجه بعدوانية أشدّ منها.
وعودةً إلى الأدب نفسه، هنالك نقطةٌ أخرى هّامة أثّرت سلبًا باعتقادي على تطّور الأدب الفلسطيني عامّةً والثماني أربعيني خاصّةً، هي استقبال واحتفاء العالم العربي في الستينيّات وبعدها بشعراءٍ وكتّابٍ من الجيل الأول الذين استطاع بعضهم وبحق أن يُشكّلوا حالةً فنيّةً وفكريةً جيّدة بل متميّزة عربيًا وعالميًا.

هذه الحالة أدخلت الأجيال التي أتت بعد هذا الجيل في سقطة التقليد والدوران في فلك هذه الحالة، ولم نرَ عند معظم الشعراء والكتّاب الذين جاءوا بعد الجيل الأوّل تجديدًا، وهكذا تشابه الأدب الفلسطيني عامةً والأدب في الداخل خاصةً ولا سيّما الشعر إلى حدّ الملل وموت الابداع.

والغريب أن بعض روّاد الجيل الاول تطوّر وتمرّد على نماذجه الأولى ولا يزال يتطوّر، ونرى من ناحية أخرى شعراء كثيرين يقلّدون تلك الأجواء والأساليب القديمة التي تمرّد عليها أصحابها حتّى اللحظة.

فأمسى الشعر الفلسطيني بمعظمه شعر نمذجة وتقليد وافتعال وتمسّك بحالة سياسية (يتمنى بعض شعرائنا أن لا تنتهي كي لا ينتهوا معها)، وأمسى ندبًا وتمسكن وتراجيديا أبدية ومحاولة اثبات الانتماء الفلسطيني والعروبي. وكي لا أُفهم خطأًُ، لستُ ضدّ "أدب المقاومة"، بل أنني أعتقد أن "أدب المقاومة" هو حالة طبيعية لا بدّ من وجودها، ما دام هنالك احتلال، وقتل وهدم منازل ووأد آفاق شعب وسلب حقوق وتهديد هويّة ونزع حقّ المهجّرين بالعودة إلى أرضهم، إذن "أدب وثقافة المقاومة" هي افراز طبيعي للحالة والظرف، ولا يستطيع أي كاتب أو مثقّف فلسطيني أو عربي أن يقف موقف الحياد إزاء القضية الفلسطينية أو أي قضية عربية أخرى.

وإنّما حين يتجنّد الأدب برمّته ويتحول إلى "أدب مقاومة" بالمفهوم الضيّق يفقد معنى المقاومة، فالمقاومة بجوهرها فعل حياة، لذلك يغدو التمسّك بجماليات الحياة والوجود شكل من أشكال المقاومة، وهكذا تحوّل الأدب والشعر والفن الفلسطيني إلى أدب سياسة وتعبئة وندب وشجب ومواكبة حدث، بدل أن يقاوم قتل الحياة والوجود والمستقبل بتعميق الحياة وتجميل الوجود وبناء المستقبل، بما فيه الأدب المقاوم بمعناه الواضح والمباشر.

ونقطة أخرى هامّة هي غياب النقد الحقيقي على المستوى الفلسطيني عامّةً والمحلي خاصّةً، هنالك كسلٌ وشللٌ وعدم مواكبة للتجارب الجديدة، وأرى أن أزمة النقد هي الأصعب والأعمق ولا سيّما في الثلاثة عقود الأخيرة، وأقول بصراحة وبدون تعميم، أّننا نفتقر لنقد متعمّق ومواكّب ومُبدع، وغياب النقد الحقيقي يؤثّر بطبيعة الحال على التطوّر الابداعي، ويشكّل فراغًا تقيمييًا يختلط فيه حابل الكتابة بنابل الإبداع، وتفتح مجال تسويق القصيدة الرديئة بطريقة العلاقات والمصالح والشللية والتسلّق، وتُبرزُ حالة الوسطية كونها تشكّل الأكثرية العددية في كل مكان وزمان، الوسطية تسعى دائمًا إلى تهميش التجارب الناجحة لأسباب معروفة. هذا المناخ يحبط الأقليّة المتميّزة ويؤثّر سلبًا على الأقليّة المبدعة التي يمكنها أن تؤثّر بشكل حقيقيٍ في الأوساط الأدبية والمجتمع.

أظنُّ تلخيصًا لما ورد أنّ أيّ حالة ثقافية ابداعية استثنائية وجادّة تنشأُ في مساحتنا الثماني أربعينية هي حالة فيها من الموهبة والوعي والتجاوز والمغايَرة والعبقرية والثقة بالنفس والثقافة والمعرفة والفهم، ما يتخطّى البيئة والمعطى والواقع والحالة والظروف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى